يبدو هذا العنوان صادما، ولكن الفرضية التي انطلق منها هي ما تعتقده وعبرت عنه كبيرة وزراء ولاية البنغال الغربية (غربي الهند) ماماتا بنيرجي، ضمن سجال كلامي بينها مع رئيس الحزب الحاكم ومهندس نجاحاته أميت شاه، على خلفية تحديث السجل المدني لمواطني ولاية آسام في أقصى شرق الهند.
ورغم أن الأمر يبدو طبيعيا خارج السياق الهندي ولا يدعو إلى كل هذه الضجة والتشاؤم، ولكنه صار يشكِّل في شرق الهند، بل في الهند كلها، مصدر قلق وتوتر كبيرين للأقليات وخصوصا المسلمين، والذين تشكل نسبتهم حسب الإحصاءات الرسمية للدولة حوالي 17% من السكان.
ومع أن تصريحات ماماتا بنيرجي -والتي أتت ضمن تعقيبها على إسقاط حوالي أربعة ملايين مواطن من السجلات الرسمية بحجة أنّهم مهاجرون بنغاليون- تبدو صادمة، ولكن ينبغي عدم الاستخفاف بها. فالحزب الحاكم شكل لجنة تحقق في جنسية مواطني الولاية وتحديث السجل المدني والذي لم يحصل منذ عام 1952 أي عقب استقلال الهند بخمس سنوات، إذ أنّ غالبية سكان الهند يعيشون في القرى والجبال وكثير من هؤلاء لا يملك أي نوع من الأوراق الرسمية وليس على مساس مع الحياة المدنية الحديثة.
وتتفاقم هذه المشكلة بصورة أكبر في ولاية آسام والتي تعد من أشد الولايات فقرا وتخلفا، ولأجل المصادفة يتبين أن نحو ثلثي الأربعة ملايين شخص الذين أسقطوا من السجل المدني هم من المسلمين، حيث تمت مطالبتهم بإثبات هنديتهم بإبراز وثائق تعود إلى ما قبل عام الاستقلال 1947.
المثير في الأمر أنّ رئيس الوزراء ناريندرا مودي، أعلن أنّه سيمرر قانونا في البرلمان يسهل على كل الأقليات التي تمت بأية صلة للهند، الحصول على الجنسية الهندية ما عدا المسلمين، ما يدفع كثيرا من الناس إلى الاعتقاد أنّ المستهدف من هذه الإجراءات هم المسلمون فقط، في بلد ينص دستوره على أنّه بلد علماني وقائم على المواطنة المتساوية بين أبنائه وليس على الهندوسية رغم أنّها ثقافة/ديانة الأغلبية من الشعب.
بالمقابل فإن ماماتا بنيرجي والتي تقدم نفسها بوصفها زعيمة على المستوى الوطني وليس فقط المحلي، أعلنت أنّها ترحب بكل من يتم إبعاده من ولاية آسام للسكن والإقامة في ولاية البنغال الغربية التي تحكمها والتي ما زالت خارج نفوذ الحزب الحاكم حزب الشعب الهندي BJP، واتهمت الحزب الحاكم بإذكاء نار الطائفية والفرقة، بينما اتهمها زعماء الحزب الحاكم وعلى رأسهم أميت شاه، بعدم المبالاة بحقوق المواطنين الهنود الذين من حقهم ألا يشاركهم “الأجانب” خيرات بلادهم، فهم أولى وأحق بها.
ولمزيد من التصعيد قام ثلاثة من نشطاء الحزب الحاكم في ولاية البنغال الغربية برفع قضية ضد كبيرة الوزراء بتهمة التحريض، وهي نفس التهمة التي وجهها أيضا أميت شاه، حيث عمل هذا الأخير على زيارة الولاية وشارك في مهرجان انتخابي ضخم مهد لحملة حزبه الانتخابية ووعد بالحصول على نصف مقاعد هذه الولاية في البرلمان المركزي، مما يعني أنّ هذه الملاسنات والاتهامات المتبادلة لن تتوقف قريبا.اعلان
كل هذا يعقب محاولات المعارضة إسقاط الحزب الحاكم في البرلمان من خلال مشروع حجب الثقة والذي أخفق بتحقيق هدفه، ولكنه كشف عن تصدع في التحالف الحاكم وسدّد ضربة إعلامية وشعبية له، في ظل اقتراب الانتخابات العامة التي ستعقد بعد عام تقريبا من الآن.
وتستند التخوفات التي تطرحها المعارضة والأقليات تجاه طريقة حكم الحزب الحاكم وخططه المستقبلية على جانبين، الأول مرتبط بالأيديولوجيا اليمينية المتشددة التي يعتنقها ويعبر عنّها غالبية أعضاء وقيادات ومناصرو الحزب وتؤصل لها مؤلفات زعماء حركة (آر إس إس)، والأمر الآخر متصل بالجانب العملي الذي يمكّنه من تغيير الدستور من خلال تحقيق الأغلبية في المركز وحكومات الولايات، ما يعني قدرته على تحويل هذه الأيديولوجيا والتصورات النظرية إلى واقع على الأرض.
جذور المشكلة
وتعود جذور المشكلة إلى عقود بل قرون من الزمان، فولاية آسام التي تقع في أقصى شرق الهند كانت منطقة جبلية قليلة الإنتاج والسكان، ولكن مع قدوم الاستعمار البريطاني أراد تطوير المنطقة واستغلالها زراعيا، وبما أنّ السكان المحليين لم يكونوا متعاونين مع البريطانيين بما فيه الكفاية وتنقصهم الخبرات الزراعية، قامت السلطات حينها باستقدام العديد من المزارعين والإداريين والمهنيين من إقليم البنغال الذي كان يضم حينها دولة بنغلاديش الحالية وولاية البنغال الغربية الهندية، وذلك بغرض إنشاء مزارع الشاي في المناطق الجبلية في الولاية، وتطوير حوض نهر براهمابوترا، وهو ما أدّى إلى مضاعفة إنتاج الولاية أضعافا عدة، حيث أصبحت الولاية -خلافا لما هي عليه الآن- في طليعة الولايات الهندية من حيث قوة الإنتاج.
في بدايات القرن العشرين، قامت السلطات البريطانية تحت ضغط الحركة الوطنية الهندية، بإنشاء مجالس حكم محلية وبرلمان مركزي، واعتمدت الانتخابات لاختيار أعضائها، ما أعطى “الوافدين” على الولاية من المناطق الأخرى حقوقا سياسية متساوية مع السكان المحليين، وعندها بدأت حركات محلية سياسية وطلابية بالتشكل حول برنامج عملي وسياسي يهدف إلى إخراج كل من ليس آساميا من الولاية، وبدأت موجات من العنف الجماعي الممنهج تمس المواطنين من أصول بنغالية، ومنهم من أمضى أكثر من قرن من الزمن في الولاية وكان له الفضل في المساهمة بنقل الولاية من أراض شبه مهجورة إلى ولاية غنية.
وتم استغلال الأحداث الدامية التي رافقت انفصال الهند وباكستان لتنفيذ حملة تطهير عرقي واسعة، تمت خلالها أول عملية إحصاء لسكان الولاية وإنجاز سجل مدني، وبعد اتفاقية بين جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند ولياقت علي خان رئيس وزراء باكستان حينها، تم السماح للمهجرين بالعودة إلى ديارهم، فصار ذلك مثار جدال حول من هو الهندي، إذ يعتبر الرافضون أن جميع من لم يكونوا موجودين وقت الإحصاء في الولاية ولم يدخلوا السجل المدني بنغاليين ما لم يستطيعوا إثبات غير ذلك، وهو أمر متعذر -كما يقال- بسبب أن كثيرا من المهجرين أخرجوا من ديارهم هائمين على وجوههم ولم يكن لديهم ما يثبت وجودهم قبل ذلك، فضلا عن أن فئة كبيرة منهم كانوا من المزارعين البسطاء الذين لا يهتمون لهذه الأمور الإجرائية.
ولذا فإنّه وبعد الضغط السياسي التي مارسته الجهات النافذة في الولاية على حكومة راجيف غاندي تم في عام 1985 إقرار إجراء إحصاء للسكان معتمدا على أنّ كل من كان في الولاية قبل حرب انفصال بنغلاديش عن باكستان عام 1973 يعد هنديا، وكل من لم يستطع إثبات ذلك يمكنه التقدم للمحكمة الدستورية لإثبات مواطنته، إلا أنّه مع قدوم الحزب الحاكم الحالي إلى السلطة تم إرجاع هذا التاريخ إلى تاريخ الاستقلال كما أسلفنا مما زاد الأمر تعقيدا وصعوبة.
تأثيرات وانعكاسات
من المفهوم أنّ صعود التيار الهندوسي اليميني ستكون له آثار عميقة في بلد شديد التنوع العرقي والديني واللغوي والثقافي والسياسي، وقائم على التوافق بين كل مكوناته، فإقحام هذه “التنويعة” شديدة التعقيد من البشر في قالب إيديولوجي محدد، هو أمر أقرب إلى الخيال، وسيفتح أبوابا من الصراع غير محسوبة العواقب، فالهند بلد لا يمكن حكمه كدولة قوميّة أوروبية، بمنطق الأغلبية الانتخابية التي تفرض إرادتها على الجميع بعيدا عن تعقيدات الواقع.اعلان
كما لا تبدو فكرة الحرب الأهلية ولو بشكل محدود مستبعدة تماما، فهناك العديد من الحركات الانفصالية في الهند وخصوصا في الشرق، وإن حصل شيء من هذا القبيل فسيكون كارثة محققة للمنطقة بأسرها.
من الواضح أن المسلمين هم أكثر المتضررين من صعود التيار الهندوسي، فهم يمثلون الخصوم التقليديين للحركة القومية الهندوسية، وهو ما تحذر منه قيادات إسلامية هندية كثيرة، باعتبار ذلك يمثل من وجهة نظرهم مزيدا من التهميش والإقصاء لهذه “الأقلية” التي يبلغ تعدادها حوالي مائتي مليون. وعلى الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي سيقود هذا الحصار عاجلا أو آجلا إلى حالة جارفة من الغضب والتمرد في أوساط الشباب، وللمرء أن يتخيّل لو أنّ شخصا واحدا من كل ألف مسلم تبنى الاحتجاج العنيف (الإرهاب)، كم سيكون عدد هؤلاء وما هو تأثيرهم على الهند وعلى محيطها الجغرافي بل على العالم.
لا شك أن الوضع في آسام يمثل مشكلة تحمل في بذورها خطرا يمكن أن يتجاوز حدود الولاية، لنجد أنفسنا أمام مأساة شبيهة بمأساة مسلمي بورما، ولكن انعكاساتها إن حصلت ستكون أوسع بكثير، إذ يمكن أن تقوِّض الوضع السياسي في بنغلاديش وتضغط على مسلمي الهند وباكستان ضغطا هائلا، وبالتالي قد تكون الفتيل الذي يشعل حربا إقليمية. كما يمكن أن تعني -فيما تعني- هجرة الكثير من السكان إلى الدول المجاورة وإلى الخليج تحديدا، علما أنّ أي تراجع للاستقرار في منطقة جنوب آسيا سيؤثر قطعا على الوضع الأمني والسياسي والاقتصادي للدول العربية وخصوصا الإمارات العربية وعمان، نتيجة قربهما من المنطقة وصلاتهما التاريخية والإستراتيجية مع تلك الدول.
رغم كل ذلك فإن الطبقة السياسية الهندية، لديها من الحنكة والخبرة ما هو كفيل بإيجاد حلول لهذه المشكلة، وتحويلها إلى زوبعة في فنجان إن هي أرادت، وقد يكون كل ما يجري هو مناورات انتخابية يدفع ثمنها السكان البسطاء، سرعان ما تنتهي ليعود استحضارها في المستقبل عند كل استحقاق من هذا النوع.