الهند والعلاقة بإسرائيل
أهمية فلسطين للهند
مستقبل علاقة الجانبين
تستدعي زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي لرام الله العديدَ من المقارنات، أبرزها ما كان وما هو كائن في السلوك الهندي السياسي نحو فلسطين.
فالزيارة الأولى لرئيس وزراء هندي لفلسطين -كما يروج الإعلام الهندي- سبقتها زيارة قام بها رئيس الوزراء السابق جواهر لال نهرو لغزة عام 1960، ليزور قوة الطوارئ التابعة للأمم المتحدة (UNEF)، والتي كان حينها على رأسها الجنرال الهندي آر أس غايني.
صحيح أنّ غزة كانت آنذاك تحت السيادة المصرية لكنّها بدون شك جزء صميم من فلسطين، وعلى إثر عودته أخبر نهرو البرلمان الهندي كيف كاد يفقد حياته عندما تعرّضت المقاتلات الإسرائيليّة لطائرته، لأن زيارته إلى غزة أغضبت إسرائيل حينها.
ولعل هذا من الأسباب التي جعلت علاقة الهند بإسرائيل شكلية، فلم يتم تأسيس علاقة دبلوماسية مع إسرائيل إلا في السنة التي أعقبت موت راجيف غاندي بانفجار انتحاري في مايو/أيار 1991، ولذا فسرت الصحافة المحلية مقاطعة زعيم حزب المؤتمر الهندي راهول غاندي زيارة بنيامين نتنياهو الشهر الفائت للهند بأنه جاء على خلفية شخصية ووطنية.
الهند والعلاقة بإسرائيل
بالطبع، تنظر الحكومة الهندية الحالية إلى العلاقة مع إسرائيل من زاوية أكثر واقعية، فزيارة نتنياهو للهند جاءت في سياق التطور المتنامي للعلاقات بين تل أبيب ونيودلهي، إذ زار رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إسرائيل قبل ستة أشهر من زيارة نظيره الإسرائيلي للهند.
ولكن مودي حينها لم يحذُ حذو الرئيس الهندي السابق براناب موخرجي عام 2015 ولا الدبلوماسيين الهنود، الذين اعتادوا على قرن زيارة تل أبيب بأخرى لرام الله، كتعبير عن عدم تعارض مصالح الهند مع إسرائيل مع التأييد المبدئي للحق الفلسطيني، وهو ما عُرف حينها في الإعلام الهندي تحت عنوان “فصل المسارات”. وتأكيداً لهذا الموقف؛ يزور مودي رام الله عن طريق عمان دون المرور بتل أبيب.
الفلسطينيون يدركون -فيما يبدو- أنّه منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وتلاشي دور منظمة عدم الانحياز التي كانت الهند عضواً مؤسساً فيها؛ تراجع دور الهند خارجياً وأصبح ينظر إليها كعملاق اقتصادي ودولة ذات تأثير إقليمي فحسب، أمّا التأثير الدولي -وخصوصاً في الشرق الأوسط- فهو يكاد يكون حكراً على الولايات المتحدة الأميركية.
ومع ذلك، وفي ظل أزمتهم مع الولايات المتحدة؛ فإن الفلسطينيين لا يريدون التخلي عن الهند لأنّ سياسة من هذا النوع يمكن أن تزيد انزلاق الهند نحو إسرائيل، ولن يجني الفلسطينيون منها فائدة تذكر.
ويمكن القول إنّ موقف الهند السياسي من القضية الفلسطينية يقوم على الإيمان بضرورة التسوية السلمية للصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل، بحيث تكون هناك دولتان (إسرائيلية وفلسطينية) تعيشان متجاورتين بسلام. وهو موقف لا يختلف عن موقف معظم الدول الأوروبية وكثير من دول العالم، رغم صعوبة -إن لم يكن استحالة- تطبيق ذلك هذه الأيام، كما يتضح من التصريحات الإسرائيلية والفلسطينية.
اللافت للنظر أنّ مودي ونتنياهو أصدرا بياناً مشتركاً أيدت فيه الهند استئنافاً سريعاً للمفاوضات السلمية مع إسرائيل، مع أنّ نتنياهو وأغلبية السياسيين والخبراء الأمنيين الإسرائيليين لا يفتؤون يصرِّحون بأنّه لا وجود لشريك فلسطيني، وأنّ محمود عباس ضعيف وليس لديه ما يقدمه.
ويعني ذلك أنّ التصريحات الهندية لا تعدو كونها تصريحات للاستهلاك الإعلامي، وهو ما تعبّر عنه مثلا الصحفية الهندية المعروفة سيما مصطفى، إذ تزعم أنّه لم تعد هناك علاقات فلسطينية هندية منذ زمن، فالانحياز الهندي الكامل لإسرائيل لا يمكن أن تغطي عليه المجاملات التي تحرص الهند عليها.
يمكن لمس تراجع الموقف الهندي عند استقراء طبيعة الدعم الهندي المقدم للفلسطينيين، إذ سنجده محدوداً وشكلياً يكاد لا يترك أثراً على الأرض، وهو يتمثل -بشكل أساسي- في المساعدة على إنشاء بعض المؤسسات التعليمية برام الله وتقديم بعض المنح الطلابية لعشرات الطلاب الفلسطينيين.
وتقدم الهند كذلك دعما ماديا سنويا لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) يبلغ مليونا وربع مليون دولار أميركي (أكثر بقليل من واحد في الألف من موازنة المنظمة). وهو أمر لا شك تشكر عليه، ولكنّه دعم محدود للغاية إذا قورن بحجم التبادل التجاري بين الهند وإسرائيل، البالغ نحو خمسة مليارات دولار أميركي سنويّاً منها مليار دولار معدات عسكرية.
أهمية فلسطين للهند
لا شك أنّ هناك سؤالا مشروعا يمكن أن يتبادر إلى الذهن عند النظر في العلاقات الهندية الفلسطينية؛ فالهند تعد ثاني أكبر بلد من حيث عدد السكان، ومن أكبر الاقتصادات في العالم، بينما فلسطين بلد صغير واقع تحت الاحتلال ومنقوص السيادية، ولا يحظى بصفة دولة حتى اليوم.
ومع ذلك؛ تبدو الهند حريصة على هذه العلاقة، ولا تنفك تدّعي أنّ سياستها الخارجية القائمة على التوازن ما زالت مستمرة، ولم يتغير فيها شيء خلال عهد حكومة حزب الشعب الهندي؛ فَلِمَ تحرص الهند على هذه العلاقة التي تبدو للوهلة الأولى غير ضرورية؟
يرجع ذلك -في تقديري- إلى جملة من الأسباب والمخاطر المحتملة، في حال تخلي الهند عن القضية الفلسطينية وانحيازها الكامل إلى إسرائيل؛ ولعل من أهم هذه الأسباب:
1- سعي الهند إلى التوسع في أفريقيا ودول الجنوب عموماً التي هي دول عانت من الاستعمار، وهي عضو هام في منظمة “بريكس“. ولا تريد الهند إعطاء انطباع بأنّها غادرت المعسكر المضاد للاستعمار إلى المعسكر الآخر، وأكبر دليل على تمسكها بهذا النهج هو استمرار دعمها لشعب آخر في حالة استعمارية ما زالت قائمة وهي فلسطين.
2- منع ذهاب الدول العربية والإسلامية بشكل كامل مع باكستان، وهو ما سيمثل اختلالاً في ميزان القوى الحساس بينهما.
3- صيانة المصالح التاريخية التجارية الضخمة مع العالم العربي وخصوصاً دول الخليج، وعدم إحراج حكام هذه الدول بمواقف فاقعة مع إسرائيل يصعب عليهم تحمل تبعاتها.
4- التنافس مع الصين على النفوذ في المنطقة العربية.
5- الرغبة في استقرار المنطقة العربية -وفي القلب منها فلسطين- ستترك أثراً إيجابياً على التجارة وأسعار الطاقة، التي تستورد الهند معظمها من المنطقة العربية.اعلان
أمّا المخاطر التي تريد الهند تجنبها بالإصرار على إقامة علاقة مع الفلسطينيين، فأبرزها أنّ الهند لا تريد أن يُنظر إليها على أنّها عدو للإسلام، لأنّ ذلك يمكن أن يؤدي إلى:
1- التعرض للتهديد الأمني الخارجي الذي تمثله الحركات الجهادية على الانتشار الهندي في العالم العربي والإسلامي، وخصوصاً في مجال التجارة والاستثمار؛ مما سيمثل عائقاً حقيقياً في هذا المجال ويجعله أكثر صعوبة وكلفة.
2- قد يشكل ذلك القشة التي يمكن أن تقصم ظهر البعير على الصعيد المحلي، فيؤدي إلى تحوّل مواقف مسلمي الهند -الذين يبلغ عددهم حوالي مئتيْ مليون- بشكل كامل ضد الحكومة الهندية، وربما يتطور ذلك إلى مستوى قد يضرّ بوضع الحزب الحاكم سياسياً أو أمنيّاً، أو يشكل بيئة مناسبة لنمو مجموعات محلية متطرفة تودي بآمال الهند في الرخاء، وتقودها إلى نفق مظلم من عدم الاستقرار.
مستقبل علاقة الجانبين
وهكذا تبدو مبررات هذه المخاطر واقعية تماماً بالنسبة للهند نظرا إلى ما يأتي:
أ- تراجع وضع المسلمين في الهند من الناحية الاجتماعية والسياسية بشكل كارثي، وخصوصاً تحت حكم الحزب الحالي الذي يستمد قوته من قاعدة هندوسية وليس بحاجة للصوت الإسلامي، خلافاً لحزب المؤتمر الذي كان يتعامل مع المسلمين كـ”بنك أصوات” انتخابية، حسب التعبير الشائع في الهند.
ب- حملات مكافحة الإرهاب التي طالت العديد من الشباب المسلم وتبيّن أنّ أكثريتها الطاغية دون سند قانوني صحيح.
ج- قتل مئات المسلمين كل عام خارج نطاق القانون.
د- الصراع المزمن في كشمير والمآسي التي يتعرض لها الكشميريون على الصعيد الإنساني.
هـ- العداء المستعر مع باكستان والذي أدى إلى قطع علاقات الأسر على الجانبين، وأضر بالتواصل الإنساني فضلاً عن أوجه العلاقات الأخرى.
و- التحالف مع الكيان الصهيوني المحتل للمسجد الأقصى الذي هو من أهم مقدسات المسلمين، ويقوم -منذ أكثر من نصف قرن- باضطهادهم وتشريدهم.
إن أبرز ما يميز الموقف الفلسطيني اليوم -على صعيد العلاقات الخارجية- أنّه أصبح شبه معزول، فإعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل أظهر مدى الانكشاف الفلسطيني، مقابل التخلي العربي وتغوّل الموقف الأميركي الذي صار أكثر صهيونية من الموقف الإسرائيلي، ويدفع -بشراكة عربية شبه معلنة- لتصفية القضية الفلسطينية تحت عنوان “صفقة القرن”.
ويفسر ذلك اطمئنانَ الهند إلى أنّ علاقتها التجارية مع الإمارات العربية المتحدة (ستين مليار دولار سنويّاً) وسلطنة عُمان (خمسة مليارات سنوياً)، وهما على جدول زيارته الأخيرة للمنطقة؛ لن تتعرض لأي أذى نتيجة الاندفاع نحو إسرائيل.
ولذا فإننا على الأغلب سنرى -في مقبل الأيام- مزيداً من الشكلية والبرود في العلاقات الهندية الفلسطينية، وربما مزيداً من الانحسار مع الإبقاء على شكل العلاقة قائماً، ما لم تحصل تغيرات غير متوقعة على المشهد الدولي والإقليمي.