ات الصعود الصيني حقيقة تؤرّق “الغرب” أكثر من أي وقت مضى، وها هي المحاولات تأتي تبعاً لوضع العراقيل أمامه بكل السبل، فقد وافق ممثلو دول الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي، على إدراج مسؤولين صينيين في قائمة سوداء تشمل حظر السفر وتجميد الأصول بسبب طريقة تعامل الصين مع أقلية الإيغور المسلمة، وستصبح هذه العقوبات سارية المفعول في حال حصولها على اعتماد وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في اجتماعهم المنعقد يوم الأثنين 22 آذار (مارس)، وذلك فيما يبدو ضمن عقوبات أوسع نطاقاً، وكان البرلمان الهولندي قد اعتبر ما يجري للإيغور إبادة جماعية، مقتفياً الموقف الأمريكي والكندي من قبل، ما تبعه ردود فعل صينية قويّة، تؤكد أنّ الصين لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما سمته بـ”المواجهة”، وستدافع عن حقوق شعبها.
يترافق كل ذلك مع زيارة وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن إلى الهند لتنشيط تجمّع كواد QUAD “مجموعة الحوار الأمني الرباعي”، والمعروف أيضاً باسم QSD، ويضم كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية واليابان والهند وأستراليا، وكان قد نشأ في عام 2007م بدعوة من رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي، ودعم كل من نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني، ورئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ، ورئيس الوزراء الأسترالي جون هاورد، تبعها مناورات عسكرية غير مسبوقة لهذه الدول باسم مناورات مليبار، وهدفت إلى الحد من التوسع الصيني في القارة ومواجهة الصعود العسكري والاقتصادي الصيني، وإيجاد بديل لمشاريعها التي صارت تعرف فيما بعد باسم مبادرة الحزام والطريق BRI، غير أنّ تغيّر رئيس الوزراء الأسترالي أدخل التجمع في حالة من الجمود حتى عام 2017م، فقد عادت هذه الدول الأربع تفعيله في قمة تجمع آسيان، وكان الهدف المباشر مواجهة التغول الصيني في بحر جنوب الصين (South China Sea).
ويجادل بعض المحللين السياسيين بأنّ هذا التجمع يمكن أن يخدم كلاً من اليابان والهند وأستراليا، لكنّه من المستبعد أن يخدم الولايات المتحدة الأمريكية، إذ إنّ هذا التجمع ينقل نقطة التركيز الأمريكية من المحيط الهادي وشرق آسيا حيث المصالح الحقيقيّة للولايات المتحدة الأمريكية، وهي منطقة قليلة السكان وسهلة الحماية نسبياً، إلى منطقة بحر جنوب الصين وجنوب آسيا، والتي تتركز فيها أكبر كثافة سكانية في العالم، وتحتشد فيها جيوش وأساطيل بحرية هي الأضخم على سطح الكوكب، متمثلة بكل من الصين، وإندونيسيا، والهند وباكستان، بالإضافة إلى كل من الفلبين وفيتنام.
ولذا فإنّ ذلك يضع الولايات المتحدة الأمريكية أمام خيارين كلاهما صعب: الأول أن تخالف استراتيجيتها المتبناة بتقليص القوات وتركيز القوة، متفاديةً أسباب انهيار القوى العظمى كما نصت عليها النظرية التي تبنّاها المؤرخ البريطاني بول كينيدي Paul Kennedy في كتابه صعود وسقوط القوى العظمى وزعم أنّ من أهم أسباب انهيار الامبراطوريات هو التوسع والانتشار، وترسل من القوات والمعدات العسكرية ما يكفي لحماية هذه المنطقة الخطرة، ما يعني أنّها ستكون قوات كثيرة وتجهيزات كبيرة تكلّفها تكاليف ضخمة، أو تكتفي بالدعم المحدود واللفظي الأمر الذي ينكشف ويتبدّد عند أول مواجهة وسيهوي بالمصداقية وقوة الردع الأمريكية إلى الحضيض، بينما في المقابل، فإنّ كلاً من استراليا واليابان والهند ستعمل على زيادة نفوذهما في المنطقة، باستخدام القوة الأمريكية.
تكاد لا تخطئ العين القوى الصاعدة في المنطقة، وهي إيران وتركيا، وقد يجد العرب يوماً ما، أنفسهم مضطرين لقرع باب إحداهما، إن استمر الوضع العربي على ما هو عليه، رغم كل جعجعة الإعلام الرسمي العربي، فالجعجعة كما يعلم الجميع، لا تنتج طحيناً.
كان من نتائج تجمّع كواد فيما يبدو، تبني دعم الهند في مواجهة الصين، فهي المكافئ الموضوعي للصين، من عدّة نواح، منها الحجم وعدد السكان، وعراقة الحضارة، بل إنّ الهند تتفوق عليها بنسبة الخصوبة وصغر عمر السكان، أي أنّ المجتمع الهندي أكثر شباباً من نظيره الصيني، ولذا فقد رأينا كيف دعمت هذه الدول الهند في صناعة اللقاح المضاد لكورونا، فأمريكا واليابان ضمنتا التمويل ونقل المعرفة، أمّا أستراليا فقد اهتمت بالأمور اللوجستية مستندة بالطبع إلى حقيقة أنّ الهند هي أكثر منتج للقاحات في العالم.
وهاهي الهند اليوم تتنافس مع الصين فيما يسمى دبلوماسيّة اللقاحات، فالصين التي وزعت حوالي 60% من اللقاحات المضادة لفيروس كورونا، واستطاعت أن تبيع هذه اللقاحات في كل القارات، بدأت تواجه الهند التي بدورها التي تعمل على إنتاج مليار لقاح من جونسون أند جونسون J&J الأمريكي ولقاح استرازنيكا، وتوزيعه على أكثر من ستين بلداً من ضمنها دول الجوار مثل بنغلاديش، وأفغانستان، ونيبال وبوتان، وسريلانكا والمالديف، وكمبوديا ومنغوليا، وسيشل، وعدم الاكتفاء بتوزيعه محلياً، وبالتالي عدم ترك مساحاتفارغة أمام الصين كي تتوسع بها.
غير أنّ هذا الطرح الذي ينشده بعض الباحثين والسياسيين الهنود والذي يعتمد على دعم هذه القوى للهند ضد الصين، يتجاهل حقيقة أنّ تخوّف الغرب ليس من الصين وحدها، فالغرب الذي يخاف من الصعود الصيني سيشكّل له صعود الهند أيضاً كابوساً إضافياً، إذّ أنّ صعود الصين والهند معاً، يعزّز أهم ما يخشاه، وهي انتقال بؤرة التأثير العالمي من الغرب إلى الشرق، أي تحوّل آسيا إلى مركز العالم من جديد، كما كانت قبل القرن الثامن عشر، فالاقتصاد الصيني والهندي كان كل منهما يشكّل أكثر من ربع إنتاج العالم، أي أنهما مجتمعين كانا يمثلان أكثر من نصف اقتصاد العالم، فضلاً عن حصة باقي القارة، ثمّ ما الذي يضمن أنّ الهند لن تجد مصلحتها في يوم من الأيام مع كل من الصين وباكستان، وتحوّل موقفها بناءً على ذلك، وهو أمر في العالم السياسة ليس مستحيلاً، لذلك ومع كل الدعاية الغربية عن توحدّ “العالم الحر” و”القوى الديمقراطية” تحت راية واحدة من أجل مواجهة “الاستبداد الصيني”، من المستبعد أنّ تذهب أمريكا والدول الغربية مع الهند إلى نهاية الطريق، إلاّ إذا دخلت في مواجهة مباشرة مع الصين يكون نتيجتها دمار العملاقين الآسيويين.
في ظل هذا الصراع المحتدم بين القوى الكبرى، يلفت الانتباه غياب العالم العربي عن مسرح الأحداث. صحيح أنّ المعارك الكبرى تجري على أرضه، وبدماء أبنائه، وعلى خيراته، مع ذلك لا تكاد تسمع لهم همساً ولا رِكزاً، فالحكومات العربية لديها دائماً ما يشغلها، فهي تمضي الوقت في الصراع مع مواطنيها، أو مع نفسها أو مع جيرانها، في غياب كامل للدور يذّكرنا برواية جورج أورويل 1984.
وتكاد لا تخطئ العين القوى الصاعدة في المنطقة، وهي إيران وتركيا، وقد يجد العرب يوماً ما، أنفسهم مضطرين لقرع باب إحداهما، إن استمر الوضع العربي على ما هو عليه، رغم كل جعجعة الإعلام الرسمي العربي، فالجعجعة كما يعلم الجميع، لا تنتج طحيناً.