يلاحظ المتابع لأخبار الهند في الإعلام العربي، غياب التعليل المنطقي لغضب مسلمي الهند ومظاهراتهم العارمة في ما يتخص بقانون الجنسية الهندي، المعروف بـ”Citizenship Amendment Act” (CAA) “مادة تعديل الجنسية”، والذي يمنح الجنسيّة الهندية للمضطهدين من غير المسلمين القادمين من الدول المجاورة، وهو ما يبدو ظاهرياً أنّ المسلمين يحولون دون المضطهدين من الأقليات غير المسلمة والحصول على الجنسية الهندية، وهو ما يحوّلهم من ضحايا لهذا القانون إلى معتدين على حقوق المستضعفين.
لتجلية هذا الوضع الملتبس، يجب فهم الخلفيات التاريخية التي أحاطت بصدور القانون، ووضعه في السياق السياسي العام، وكيف شكّل القشة التي قصمت صبر المسلمين على السياسات التمييزيّة ضدهم منذ الاستقلال، والتي أدت إلى التدني الحاد في نسبة تمثيلهم في مؤسسات الدولة والبرلمان، وانتشار الفقر والبطالة، وتراجع الخدمات، وضعف تمكين الشباب والنساء في أوساطهم، كما أوضح ذلك تقرير حكومي شهير يُعد المرجع الأبرز عند الحديث في هذا الباب، وهو المعروف بتقرير لجنة ساشر عام 2005م، نسبة إلى القاضي الذي رأس لجنة التحقيق الحكومية حول مزاعم تهميش المسلمين.
ظهرت منذ بداية القرن الماضي، فكرة انفصال المسلمين في دولة خاصة بهم، في ظروف غاية في التعقيد، وبغض النظر عمن هو خلف هذه الفكرة وكيف حصلت، فقد حدث ذلك عام 1947م، عندما انفصلت المناطق ذات الأغلبية المسلمة في الهند، وهي ما كانت تعرف بباكستان الشرقية (باكستان حالياً) وباكستان الغربيّة (بنغلاديش حالياً)، في دولة. بينما أطلق على ما تبقى اسم دولة الهند. كان المسلمون حينها يمثلون في الهند الموحّدة ما يقرب من حوالي ثلث السكان، وعندما حصل الانفصال هاجرت بعض النخب المسلمة من شمال الهند إلى باكستان، وقام بعض غير المسلمين الذي كانوا يسكنون في المناطق ذات الأغلبية المسلمة بالانتقال إلى الهند.
ساد الاعتقاد بين طيف واسع من الهندوس أنّ المسلمين قد حصلوا على حصتهم من أرض الهند التاريخية، وأنّ على من تبقى منهم أن يغادروا البلاد، ولكن هذا الطرح لم يكن واقعياً؛ لأسباب أهمها أنّ المسلمين كانوا يشكلون حوالي 15 في المئة من نسبة السكان ما كان يعني مئات الملايين، بالإضافة إلى أنّ الفرز الطائفي في الهند وإقامة دولة دينيّة هندوسيّة، فضلاً عن أنّه يتصادم مع الأيدولوجيا التي كان يتبناها غالبية قادة الاستقلال، كمهاتما غاندي ونهرو، فهو غير عملي. فالهندوسيّة كما عرّفتها المحكمة العليا، هي ثقافة وليست ديناً بالمعنى الشائع الإسلام والنصرانية، وهو ما يمكن أن يقود إلى خلاف داخل الأديان الهندوسية، وكذلك مع الأقليات المتعددة ومنهم المسلمون. ولذا كان الأمر الذي وقع عليه اختيار قادة الاستقلال، هو دولة علمانية يتساوى فيها جميع المواطنين أمام الدستور، الأمر الذي اعتبره القوميون الهندوس طعنة في الظهر، وكان من نتيجته اغتيال مهاتما غاندي على يد أحدهم في 30 كانون الثاني/ يناير 1948م، أي بعد أقل من ستة أشهر على إعلان الاستقلال.
من أهم الجماعات التي سعت إلى تحويل الهند من دولة علمانية إلى دولة هندوسية، تنظيم المتطوعين الوطنيين، المعروف اختصار بـ”سانغ” أو “آر إس إس” (RSS). وتعد هذه الجماعة أكبر منظمة غير حكومية في العالم، وتضم في عضويتها حوالي ستة ملايين عضو، وقد عملت منذ تأسيسها عام 1924م إلى ترويج أيديولوجيتها المعروفة باسم “هندوتفا”، والتي تسعى إلى تحويل الهند إلى أرض هندوسيّة (هندو راشترا)، من خلال إنشاء مجموعة كبيرة من المؤسسات في مختلف مجالات الحياة، على رأسها المجال السياسي. ورغم إخفاقها بالنجاح بالوصول إلى السلطة لمدة طويلة، إلا أنها نجحت في بداية تسعينيات القرن الماضي (عام 1992م)، بعد قيادتها حملة أدت إلى هدم واحد من أقدم مساجد المسلمين في الهند (بابري مسجد)، في الوصول إلى السلطة عن طريق حزبها السياسي “حزب الشعب الهندي” (BJP). لكن لم تصمد طويلاً في السلطة، ثم عادت في انتخابات عام 2014م إلى الحكومة برئاسة ناريندرا مودي، وعزّزت وجودها بالانتخابات التي جرت في شهر نيسان/ أبريل هذا العام، وصار بمقدورها من خلال ما حصلت عليه من أصوات في البرلمان المركزي والبرلمانات المحليّة، تغيير الدستور، الأمر الذي كان يحذر منه الكثيرون، والذين يعتبرون الدستور هو الضمانة الأبرز لحفظ وحدة الهند وسلمها الأهلي.
كان من أبرز ما قام به حزب الشعب الهندي عند عودته للسلطة وتعيين مهندس نجاحاته أميت شاه وزيراً للداخلية، الإعلان عن إلغاء المادة 370 من الدستور، والتي تمنح إقليم جامو وكشمير وضعاً خاصاً، ووضع الولاية تحت الحكم المركزي وهي الولاية الوحيدة التي كان يحكمها مسلمون، ثم أعلن عن تطبيق ما يعرف بقانون سجل الجنسية الوطني “National Register of Citizenship” (NRC) على عموم الهند، كما حصل من قبل خلال الدورة الماضية في إقليم آسام في شرق الهند، غير أن تطبيق سجل الجنسية الوطني في آسام ترتبت عليه أضرار غير متوقعة، فتبين أن الذين تم نزع الجنسية الهندية منهم وفقاً لهذا القانون، وعددهم بعد التدقيق حوالي مليون و900 ألف شخص، أغلبهم من غير المسلمين، ما يعني أن تطبيقه على عموم الهند سيضر بالهندوس أكثر مما يخرج من المسلمين، ولذا فإنّ الحكومة بادرت لحل هذه المشكلة بإعادة منح الجنسيّة لمن نزعته منهم قانون سجل الجنسية، من غير المسلمين، وتثبيت ذلك بحق المسلمين، وهو ما عُرف أولاً بـ”CAB”، ثم صار يعرف بعد إقراره في غرفتي البرلمان بـ”CAA”، الأمر الذي أشعر عامة المسلمين بالتهديد فخرجوا إلى الشارع بمئات الآلاف يتظاهرون. وقد قُتل نتيجة لهذه المظاهرات عشرات الأشخاص وتم اعتقال عشرات الآلاف منهم. على إثر ذلك أعلنت الحكومة أنّ القانون قد تم فهمه بطريقة خاطئة بل أن رئيس الوزراء أعلن أنّه لم يتم مناقشة تطبيق قانون سجل الجنسية الوطني، على عموم الهند أبداً، رغم توافر ذلك في تسجيلات ومحاضر البرلمان، وهو ما كان يصرح ويهدد به قيادات الحزب الحاكم.
علاوة على شعور المسلمين بالتهديد، ونزولهم إلى الشارع، فقد استفز ذلك العديد من غير المسلمين الذين يرون في قدرة حزب الشعب على تغيير الدستور، أمراً خطيراً سيقضي على مستقبل الهند كدولة لكل مواطنيها، وهو ما يقولون إنّه نابع في الأساس من العقيدة التي يتبناها الحزب، وليس أمراً معزولاً أو طارئاً، ويدعون إلى إسقاط الحزب الحاكم بكل الوسائل.
ختاماً، لا يبدو أن الأزمة الحالية في الهند ستنتهي قريباً، بل من المرجح أن تتصاعد إن لم يتراجع الحزب الحاكم عن سياساته (وهو أمر مستبعد) وسينضم العديد من الغاضبين إلى المعارضة يوماً بعد يوم، وربما يترافق ذلك مع تصاعد مستوى العنف في الشارع، أيضاً، وهو ما على حكومة الهند والأحزاب الرئيسة أن تأخذه بعين الاعتبار، لما له من أضرار خطيرة على مستقبل الهند السياسي والاقتصادي والاجتماعي.