19 نوفمبر، 2024
مبادرة الحزام والطريق الصينية وحتمية الجغرافيا العربية
الرئيسية » مبادرة الحزام والطريق الصينية وحتمية الجغرافيا العربية

مبادرة الحزام والطريق الصينية وحتمية الجغرافيا العربية

عندما وقف الرئيس الصيني شي جين بينغ في جامعة نزارباييف بكزاخستان عام 2013 ليعلن إطلاق فكرة طريق الحرير للقرن الواحد والعشرين؛ فإنه دشّن بذلك مرحلة جديدة من الصراع الأميركي الصيني البارد. إنّها حرب باردة جديدة لكنها ليست مع الحزب الشيوعي السوفياتي بل مع نظيره الصيني، ويبدو أنّها لن تكون أقل صعوبة بالنسبة للأميركان.

صراع القطبين على الهيمنة
منذ انهيار الاتحاد السوفياتي بداية تسعينيات القرن الماضي، استشعرت الولايات المتحدة خطورة نمو الصين الاقتصادي وما يمكن أن يشكله ذلك من تهديد لسيادتها للعالم، رغم السياسة المتحفظة التي قادها الرئيس الصيني السابق جيانغ زيمين، وبناء على ذلك وضعت مجموعة من الخطط لاحتواء الصين على المستوى الدولي والإقليمي.

تطورت هذه الخطط خلال عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وتبلورت عبر مشروعين هما مشروع “محور آسيا” (Pivot to Asia) ومعاهدة التجارة الحرّة المسمى “التجارة عبر الهادي” (TPP)، التي ضمت كل دول شرق آسيا باستثناء الصين، واعتمدت على توفير حوافز اقتصادية لهذه الدول لتجعلها ارتباطها بأميركا أقوى من ارتباطها بالصين.


أسّست الصين رؤيتها -التي تريد أن تغيّر بها وجه آسيا لتنقلها إلى عصور الحداثة- على مشروع قديم عمره يزيد على ألفيْ سنة، ألا وهو “طريق الحرير”. كان هذا الطريق يمتد من الصين عبر آسيا الوسطى إلى شواطئ المتوسط، ومن هناك يمتد بحراً إلى أوروبا التي كانت تستقبل البضائع الآسيوية الثمينة حينها من البهارات والخزف والحرير الصيني

سرعان ما أطلق الصينيون اسماً جديداً على مشروعهم هو “مبادرة الحزام والطريق” بعد أن كان يُعرف بـ”مشروع حزام واحد طريق واحد”، أما الأميركان فما زالوا منخرطين في مفاوضات تفصيليّة مع الدول الآسيويّة حول اتفاقية التجارة عبر الهادي التي مرّرها الكونغرس الأميركي، بعد مقاومة اتهمت الاتفاقيّة بهدر الأموال وفرص العمل لصالح دول أجنبية.

أسّست الصين رؤيتها -التي تريد أن تغيّر بها وجه آسيا لتنقلها إلى عصور الحداثة- على مشروع قديم عمره يزيد على ألفيْ سنة، ألا وهو “طريق الحرير”. كان هذا الطريق يمتد من الصين عبر آسيا الوسطى إلى شواطئ المتوسط، ومن هناك يمتد بحراً إلى أوروبا التي كانت تستقبل البضائع الآسيوية الثمينة حينها من البهارات والخزف والحرير الصيني.

طرحت الصين في مبادرتها حلولاً لمشاكل مزمنة عانت منها عقودا. ومن هذه المشاكل تمكين الولايات الداخلية من الانخراط في الاقتصاد العالمي، وربط وتعزيز انتماء الولايات الحدودية إلى المركز وزيادة مساواتها الاقتصادية، وخصوصاً مناطق شينغيانغ (تركستان الشرقية سابقاً) والتبت التي تتنامى فيها نزعات انفصالية أخذت أحيانا شكلاً مسلحاً.

في عام 2015؛ أعلنت الحكومة الصينية ورقة تسمى “خطة تشغيليّة لمبادرة الحزام والطريق”، تضمّنت الخطوط العريضة للمبادرة التي دعت دول آسيا والعالم إلى الانضمام إليها، وجعلت المشاركة في البنك الآسيوي لتنمية البنية التحتية -الذي تساهم الصين بحصة الأسد فيه- المدخل للمشاركة في هذه المبادرة.

وقد بلغ اليوم عدد المشاركين فيه قرابة سبعين دولة، وليست كلها دولاً آسيوية أو دولاً من العالم الثالث؛ بل شاركت فيها دول أوروبية كألمانيا وبريطانيا مثلا، لكن الولايات المتحدة قاطعته.

كما أنشأت بكين صندوقاً لتمويل المشاريع المرتكزة على المبادرة سمته “صندوق طريق الحرير”، وقد اختلف الخبراء في تقدير القيمة المتوقعة لمشاريع المبادرة اختلافاً كبيراً، إذ إن بعضهم يقدر التكلفة بنحو تريليون دولار، وآخرين يقدرونها بثمانية تريليونات دولار أميركي، وينبع هذا التفاوت أساسا من أنّ المبادرة ما زالت في مرحلة سيولة، ولم يتحدّد بشكل نهائي الشركاءُ فيها والمشاريعُ التي سيتم تبنيها.

المبادرة وحتميّة الجغرافيا العربية
تشير الخطط الأوليّة للمبادرة إلى أنّ الخطوط التي تم تبنيها (ستة خطوط) يمر نصفها أو ينتهي على ضفاف البحر الأبيض المتوسط عبر الشرق الأوسط والبلدان العربية، وهذا ما يجعل الصين تولي هذه المنطقة عناية كبيرة في خطة العلاقات العامة التي تمارسها لإقناع العالم بالمبادرة.

ولعل أكثر ما يميز السياسة الخارجية الصينية في الشرق الأوسط هو تركيزها على تهدئة هذه المنطقة، التي توصم عادة بعدم الاستقرار بسبب الحروب والثورات الداخلية، وذلك بدعمها للأنظمة الحاكمة.

فبكين لا تهتم بطبيعة النظام الحاكم من الناحية الأيديولوجية أو العرقية أو الطائفية، بل كل ما يهمها هنا هو تأمين أكبر قدر من الاستقرار الأمني، بحيث تستطيع الطرق وسكك الحديد والموانئ وأنظمة الاتصالات والمدن التجارية الحرة أن تزاول عملها بسلاسة وأمان، وهي مستعدة لتقديم كل مساعدة ممكنة لتلك الأنظمة اقتصاديا وعسكريا وسياسيا لتحقيق ذلك.


بكين لا تهتم بطبيعة النظام الحاكم من الناحية الأيديولوجية أو العرقية أو الطائفية، بل كل ما يهمها هنا هو تأمين أكبر قدر من الاستقرار الأمني، بحيث تستطيع الطرق وسكك الحديد والموانئ وأنظمة الاتصالات والمدن التجارية الحرة أن تزاول عملها بسلاسة وأمان، وهي مستعدة لتقديم كل مساعدة ممكنة لتلك الأنظمة اقتصاديا وعسكريا وسياسيا لتحقيق ذلك

وهو ما نراها تفعله اليوم في كل من ميانمار وسوريا؛ فرغم أنّ بكين تعلن أنّ مصير بشار الأسد يحدّده الشعب السوري فإنها زادت الدعم العسكري لنظامه، وقدّمت الحماية له في مجلس الأمن بالتعاون مع روسيا، بحيث صار الموضوع السوري هو أكثر موضوع استخدمت فيه الصين حق الفيتو في تاريخها (ست مرات).

أمّا في مصر، فحكومة الصين تقيم علاقة طيبة مع نظام عبد الفتاح السيسي، مع أنّ الحكومة التي تحكم القاهرة اليوم انقلبت على أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر، وهو محمد مرسي الذي أبدى حسن نية كبير تجاه الصين، فكانت زيارته الخارجية الأولى لدولة غير عربية إلى الصين، واصطحب معه وفداً كبيراً حينها ضم سبعة وزراء وأكثر من سبعين رجل أعمال.

ورغم أن السيسي أقرب بكثير من مرسي إلى الخصم اللدود للصين أي الولايات المتحدة، فإنه ينتمي إلى النخبة العسكرية التي حكمت مصر على مدى أكثر من نصف قرن، وأصبحت الصين على دراية واسعة بطريقة تفكيرها وإدارتها لعلاقاتها الدولية، كما أنها تشترك -إلى حد بعيد- مع بكين في النظرة إلى الموضوع السوري والليبي.

ومما يلفت الانتباه اليوم أن اليمن هو الدولة العربية الآسيوية الوحيدة التي لم تنضم بعدُ إلى بنك البنية التحتية الآسيوي، وربما يُعزى ذلك إلى الحرب التي تعصف به، وما قد يشكله ذلك من تهديد محتمل لخطوط الملاحة التي تمر من مضيق باب المندب. بيد أنّ العلاقة مع دول إيران والسعودية والإمارات -التي تدعم كل منها جانبا من القوى المتصارعة في البلاد- حسنةٌ بما فيه الكفاية حسبما يبدو.

وذلك يجعل الصين أكثر اطمئناناً فيما يختص بهذا الجانب، إلاّ أن الأمر ليس على هذا النحو على الدوام؛ فكثيراً ما تُتهم السعودية بأنها وراء تمويل الجماعات الانفصالية في كل من ماينمار وشرق إيران والعراق وسوريا، وكلها مناطق تمر بها مسالك الحزام الصيني، مما يعني اتهاماً للسعودية بالتماهي مع الإستراتيجية الأميركية لتعطيل المشاريع الصينية واستنزافها بصراعات داخلية وإقليمية.

الإسرائيليون وحدهم الفائزون
تمثّل الشواطئ الفلسطينية -ابتداء من غزة وحتى حيفا- المحطة الطبيعية لطريق الحرير، وهو ما كان قديما على مدى أكثر من ألف عام؛ غير أن الظروف اليوم تغيرت بوجود سلطة جديدة بهذه البقعة الهامة من العالم (إسرائيل)، ولا يهم من المنظور البراغماتي الصيني ما إن كانت هذه السلطة سلطة احتلال أم سلطة وطنية، بل المهم هو إلى أي مدى هي راغبة في التعاطي مع هذه المبادرة الكونيّة؟

وقد بادرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بالتوقيع مبكرا على الشراكة في بنك البنية التحتية الآسيوية، ويبدو أن لها خططاً واعدة تتكامل مع العلاقات الإسرائيلية الصينية المتنامية في مجال الاقتصاد والتسليح.


تعِد إسرائيل اليوم نفسها بأرباح وفيرة نتيجة لما يطرحه الباحثون الإسرائيليون من توافر إسرائيل على موانئ حديثة وسكك حديد متطورة ومنظومة إدارية عصرية، فهي لا تحتاج إلى زمن طويل حتى تتكامل مع المشاريع الصينية المقترحة خلافاً لكل البلدان الآسيوية التي تمر عبرها مبادرة الحزام والطريق، وتطرح خطاً برياً جاهزاً للاستعمال بشكل فوري

تعِد إسرائيل اليوم نفسها بأرباح وفيرة نتيجة لما يطرحه الباحثون الإسرائيليون من توافر إسرائيل على موانئ حديثة وسكك حديد متطورة ومنظومة إدارية عصرية، فهي لا تحتاج إلى زمن طويل حتى تتكامل مع المشاريع الصينية المقترحة خلافاً لكل البلدان الآسيوية التي تمر عبرها مبادرة الحزام والطريق، وتطرح خطاً برياً جاهزاً للاستعمال بشكل فوري، وهو ينطلق من ميناء إيلات المطلّ على البحر الأحمر إلى الموانئ الجنوبية كأسدود وعسقلان والشمالية كحيفا.

أمّا ما يمكن أن تخبئه أيامُ الصفاء القادمة مع الدول العربية كما يصرح به رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو وزمرته؛ فهو خط للسكة الحديدية يمكن أن يمتد من الخليج عبر السعودية مروراً بالأردن الذي طالما تحدثت عن خططه لإنشاء سكة من هذا النوع، وصولاً -عبر الأراضي الفلسطينية المحتلة- إلى حيفا على البحر الأبيض المتوسط.

وهو أمر سيكون -إن حدث- أسمى ما تطمح إليه إسرائيل، إذ فضلاً عن جنيها لأرباح طائلة نتيجة لهذا الخط المختصر والفعّال؛ فإنّه يكرّسها جزءا طبيعيا ضمن المنظومة الدولية في المنطقة.

وعلى الجانب الفلسطيني، فإنّ الصين تقيم علاقات مميزة مع الرئيس محمود عبّاس الذي يعبّر دائماً عن رغبته في علاقات طيبة مع الصين، علماً بأنّ العلاقات الفلسطينية الصينية تعود إلى عهد ليس بقريب، حيث كانت الصين أيام الحرب الباردة تدعم المقاومة الفلسطينية، أمّا اليوم فيبدو أنّ الأولويات الصينية قد شهدت تغيّراً كبيراً تراجعت معه الدوافع الأيديولوجية لتحل مكانها الدوافع “الواقعية”.

ولذلك تغيَّر نوعُ الدعم المقدم وصار الحديث اليوم عمّا يمكن أن يقدمه الطرفان لبعضهما بعضا، ولعل أهم ما يمكن أن تستفيده الصين من هذه العلاقة هو محاولة إقناع عباس بتبني “حلول سلميّة” للقضية الفلسطينية، تجعل المنطقة مستقرة ومناسبة لتنفيذ المشاريع الصينية.

وهو ما يمكن أن يثير الحيرة؛ إذ إنّ الإسرائيليين أنفسهم باتوا يشكِّكون في قدرته على التحكم في القرار الفلسطيني ومجريات المقاومة الشعبية المسلحة على الأرض، مما يعني أنّ الطرف القادر اليوم على إشعال فتيل أي مواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي وجرّ المنطقة بأسرها إلى هوة سحيقة من الصراع ستجعل تنفيذ المشاريع الصينية أمراً متعذراً؛ هو المقاومة الفلسطينية التي لا نسمع لها -فيما يظهر- صوتاً في هذا الشأن.

Share:FacebookX
Join the discussion