كم في التاريخ من مفارقات، ولعل الصينيين يذكرون خطة مؤتمر السلام في باريس عام 1919م، الذي نظّمته القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، التي كانت تسعى لتسليم الامتيازات الألمانية في محافظة شان دونغ شرق الصين إلى اليابان. فأوروبا التي كانت قبل قرابة قرن من الزمان تتقاسم الصين، هذا البلد الكبير مساحة وسكانا والموغل في الحضارة الإنسانية، أصبحت اليوم محتاجة إلى المال والنفوذ الصيني، وتخشى انفرادها بالدول الأوروبية الصغيرة.
والأكثر فزعا من هذا الصعود الصيني اليوم؛ الولايات المتحدة الأمريكية، التي تطالب حلفاءها الأوروبيين بالوقوف سدّا أمام الاختراق الصيني للقارة العجوز – كما يسمونها – ولكن يبدو أنّ واشنطن قد نسيت أن الولايات المتحدة الأمريكية عملت بشكل دؤوب على منع بروز أي قطب أوروبي، وتكريس اعتماد الأوروبيين على حماية حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ضد روسيا. فهي قد قوضت الإجماع الأوروبي وعملت على إبقاء الاتحاد الأوروبي ضعيفا، بل إنّ الرئيس دونالد ترامب أيد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ومشروعه بالخروج من الاتحاد الأوروبي، الذي سدّد ضربة مؤلمة لهذا الكيان الهش.
هل السلوك الأمريكي مع ما يُسمى الحلفاء والشركاء يعزّز النديّة بالفعل أم التبعيّة؟ وهل المصالح الأمريكية هي أيضاً مصالح حلفائها؟
هل السلوك الأمريكي مع ما يُسمى الحلفاء والشركاء يعزّز النديّة بالفعل أم التبعيّة؟ وهل المصالح الأمريكية هي أيضا مصالح حلفائها؟ دعك من التعامل مع الدول الآسيويّة ودول الخليج وخصوصا السعودية، التي قامت على سياسة “الحلب” على حد تعبير ترامب. لقد انطلقت العلاقة بين الطرفين على الدوام من تبعيّة الدول الأوروبيّة لأمريكا، وخصوصا ما يسمى بالعلاقة المميزة للندن بواشنطن، وعندما جاء الرئيس دونالد ترامب كان صريحا حد الصدمة بهذا الخصوص، فالأوروبيون من وجهة النظر الأمريكية ما هم إلاّ عبء على الولايات المتحدة الأمريكية من الناحية الاقتصادية والأمنية، ولذا ما الذي تغيّر اليوم سوى رغبة الولايات المتحدة الأمريكية ومصالحها؟ لقد تجاهل ترامب الواقع الذي صاغته واستفادت منه الولايات المتحدة الأمريكية عقب الحرب العالمية الثانية، مع ابتزاز حلفائه الأوروبيين بالجمارك، واتهامهم بالركوب المجاني في العربة الأمريكية وعدم القيام بما عليهم من أعباء مادية في هذا المجال.
ثم لماذا على ألمانيا وهي إمبراطورية آفلة بالفعل؛ أن تتماهى مع الولايات المتحدة كقوة تخشى الأفول؟ وهل لديها ما تخسره من التعامل مع الصين؟ فالصين هي الشريك التجاري الأول لألمانيا، وأكثر من أربعة آلاف شركة ألمانية تعمل وتستفيد من السوق الصينية. ثم هل الصين كروسيا كي تنخرط أوروبا في حرب باردة ضدها؟ إنّ روسيا جار كبير وقوي، تاريخه مبني على الرغبة بالتوسع، أمّا الصين فهي بلد في أقاصي القارة الآسيويّة، وأوروبا بأمسّ الحاجة إلى سوقها الكبير، فلماذا عليها أن تتخذها خصما كُرمى لعيون الولايات المتحدة الأمريكية؟
لقد أوشكت القوى الأوروبيّة الكبرى التي كانت إمبراطوريات عظمى تحكم العالم حتى عهد قريب؛ أن تتحوّل إلى أطلال، فما كان يصل إليها من ثروات من مستعمراتها السابقة انقطع أو كاد، والنمو الديمغرافي أمسى متراجعا، ما خلا بعض الزيادات السكانية الحاصلة نتيجة الهجرة من العالم الثالث. كما تدهورت قوى العمل والإنتاج بسبب الرعاية الصحية المتقدمة التي أطالت بأعمار السكان، فأصبحت تكاليف التقاعد كبيرة والقوى العاملة صغيرة، كل ذلك يترافق مع تحسّن في اقتصادات العالم الثالث ودخولها على خطوط الإنتاج الصناعي والزراعي التي كانت أوروبا تحتكرها إلى زمن قريب. لذلك وأكثر، فإنّ التأثير الأوروبي في السياسة الدوليّة قد تراجع كثيرا، وصار من المنطقي أكثر التفكير في المحافظة على الذات، بدلا من الدخول في صراعات عالمية مكلفة، كما تريد واشنطن.
التأثير الأوروبي في السياسة الدوليّة قد تراجع كثيراً وصار من المنطقي أكثر، التفكير في المحافظة على الذات، بدلا من الدخول في صراعات عالمية مكلفة، كما تريد واشنطن
أوروبا اليوم بحاجة إلى الصين من أجل الاستمرار في بقاء مجتمع الرخاء، والاستقرار المجتمعي، وإن كان هذا يصح في حالة القوى الكبرى كألمانيا وفرنسا وبريطانيا، فإنّه أكثر صحة في حالة القوى الأوروبيّة الأصغر، التي تم نهبها على صعيد الثروة البشريّة من قبل شقيقاتها الأكبر، وهي في حكم المفلسة بالفعل، كاليونان ورومانيا وصربيا والبرتغال، وكان المنقذ الوحيد الذي مدّ لها يد التعاون هو الصين، وبشروط ميسّرة، خلافا للشركاء الأوروبيين، فضلا عن الأمريكيين.
لقد حوّل الضغط الأمريكي مشاريع 5G التي تنفذها شركة هواوي الصينية في أوروبا؛ إلى موضوع خلاف بين الأوروبيين، بادعائهم أنّ الصين تسعى إلى اختراق الأوروبيين أمنيا والتجسس عليهم، ولكن في الوقت نفسه، هل الأمريكيون بريئون من هذه التهمة؟ تم الكشف عام 2015م أنّ وكالة الأمن القومي الأمريكية (NSA) كانت تتجسس على هاتف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ومستشاريها، هذا فضلا عن سياسة الولايات المتحدة التي قامت على “الاستفادة” من دراسات العلماء الألمان وخبراتهم عقب الحرب العالمية الثانية. ففي عملية تسمى مشبك الورق (Paperclip)، قامت الولايات المتحدة بين عامي 1945 و1959م باختطاف 1600 عالم وفني وتقني ألماني، بعضهم مع مشاريع جاهزة للتنفيذ.
إنّ الانزعاج الأمريكي من توسع مبادرة الحزام والطريق الصينية (BRI) في أوروبا، صار لا يمكن كتمانه، فالصين من وجهة النظر الأمريكية تسعى إلى استخدام مشاريع البنية التحتية التي تعتمد عليها المبادرة إلى تحقيق مكاسب جيوسياسية، وتوريط الدول المستفيدة منها في مستنقع الديون بحيث تكون دائما تحت الضعط الصيني، ولذا فإنها تسعى لإقناع الأوروبيين أن يكون لديهم بديل عن المبادرة الصينية، لكن الحديث عن محاولات وخطط أوروبية لقطع الطريق على مبادرة الحزام والطريق الصينية (BRI) في أوروبا، والعمل على مشروع أوروبي خاص مضاد، هو أمر مستبعد؛ وذلك لغياب القدرة الاقتصادية الأوروبية، ولغياب القدرة على اتخاذ قرار موحّد، كما أنّ ذلك معناه الدخول في مواجهة مباشرة مع الصين، الأمر الذي سيكون الأوروبيون أغنى الناس عنه.
كرّست السياسة الخارجية الأمريكية؛ المدرسة الواقعية المتوحشة مع طلاء أخلاقي مكوّن من الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي انتقائية التطبيق وذات معايير مزدوجة
لقد كرّست السياسة الخارجية الأمريكية؛ المدرسة الواقعية المتوحشة مع طلاء أخلاقي مكوّن من الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي انتقائية التطبيق وذات معايير مزدوجة. وقد برز ذلك جليا في التعامل مع كل من مآسي دارفور، والروهينغيا والإيغور، التي يتم استحضارها على الدوام كي تحقق الأهداف السياسة الخارجية الأمريكية عن الحاجة، وها هي أمريكا ترفع لواء الديمقراطية بشعف أيديولوجي، وتطالب الأوروبيين بالانضواء تحته في حربها ضد قوى الاستبداد الدولي ممثلة بالصين.
ولكن، صحيح أن الأنظمة الديمقراطية لها ميزات عديدة، أهمها أنّها مثّلت حلّا لمشكلة التنازع على السلطة وما يتبع ذلك من صراعات دمويّة عليها، ولكن في الوقت نفسه لها جانب سلبي، وهو تأثرّ الحكومة بالمزاج الشعبي الذي تعكسه نتائج الانتخابات، ومن ثم فإنّ النظام الديمقراطي يجعل الحكومات في كثير من الأحيان تخطب ود الجمهور، وتبتعد عن اتخاذ قرارات اقتصادية وأمنية مهمة لا تحظى بالشعبية، وذلك من أجل تعزيز فرص بقائها في الحكم، ويكون البديل عادة اللجوء إلى سياسات النفس الطويل وتمرير القرارات بشكل هادئ، وهو ما يمكن أن يقود إلى ضياع الفرص والدخول في حالة من التكلس والتآكل، الأمر الذي وإن كان واضحا للخبراء على المدى القصير، إلّا أنّ عامة النّاس نادرا ما تدرك تأثيره إلّا على المدى البعيد، وذلك بعد أن يترك أثرا شديد الفتك والتدمير.
السؤال في سياقه العربي هو: هل سيسير العرب على نهج الأوروبيين نفسه بالتقارب مع الصين؟ يبدو هذا مرجحا للأسباب نفسها، لكن في ظل عدم القدرة العربية على توليد قوة عربية مركزية، فإنّ هذا الوضع سيكون فرصة للقوى الإقليمية كتركيا وإيران لأخذ زمام المبادرة وتكوين دوائر نفوذ خاصة بها، مع انحسار التأثير الأوروبي والأمريكي. أمّا دولة الأحتلال الإسرائيلي، فإنّ مصيرها وسياستها مرتبطة بتلك الجهات التي أنشأتها ورعتها، وهي الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.