مثّل الانسحاب الأمريكي المذل من أفغانستان تحديا من نوع جديد للشعب الأفغاني، وهو تحدّي الاستقرار والتنمية، إذ ما زال هذا البلد الغني بثرواته الطبيعية وموقعه الجغرافي المميز وثروته البشريّة، يعاني من عقود طويلة من الاحتلال الأجنبي وغياب الدولة الوطنية، ما دفع أفواجا من الشباب الأفغاني باتجاه الهجرة وإدمان المخدرات والإرهاب.
بدا عقب الانسحاب الأمريكي أنّ دول الجوار معنيّة بأن تذهب أفغانستان نحو استقرار نسبي يحدّ من المشاكل العابرة للحدود، كمشكلة الهجرة والمخدرات والإرهاب، وقادت هذه الجهود باكستان على وجه الخصوص، إذ إنّ عملية الانسحاب كانت تُعد نصرا للدبلوماسية الباكستانية، غير أنّ العديد من الأحداث التي حصلت منذ ذلك التاريخ تشير إلى أنّ أطرافا خارجية لا ترغب لهذا الاستقرار بأن يحصل؛ لأنّه ببساطة يمكن أن يصب في خانة خصومها، وخصوصا كلا من باكستان والصين وإيران. لذا فقد شهدنا منذ الأيام الأولى لعملية الانسحاب هجمات إرهابية، استهدفت في المقام الأول تقويض الحالة الأمنية، وإظهار حكومة الأمر الواقع التي تقودها طالبان عاجزة وغير قادرة على إدارة الدولة، ما يعني إجهاض أي فرصة حقيقية لأي جهود اقتصادية أو تنمويّة أو حتى إغاثية.
شهدنا تطورا جديدا وخطيرا في هذا السياق، وهو إقالة حكومة عمران خان العاصفة، ما يعني تغيرا حقيقيا في الجهة الداعمة الأهم للاستقرار في أفغانستان ولجهود حركة طالبان. وقد شهدنا بشكل شبه فوري قصف الطيران الباكستاني لأفغانستان قبل حوالي أسبوع
مؤخرا، شهدنا تطورا جديدا وخطيرا في هذا السياق، وهو إقالة حكومة عمران خان العاصفة، ما يعني تغيرا حقيقيا في الجهة الداعمة الأهم للاستقرار في أفغانستان ولجهود حركة طالبان. وقد شهدنا بشكل شبه فوري قصف الطيران الباكستاني لأفغانستان قبل حوالي أسبوع، في مناطق في ولاية كونار وخوست، التي راح ضحيتها أكثر من 40 شخصا من بينهم أطفال ونساء، كما أعلنت وسائل الإعلام المختلفة.
صحيح أنّ الجيش والحكومة الباكستانيين نفيا ذلك، إلاّ أنّه على الطرف الآخر في أفغانستان، فإنّ حركة طالبان بعد مضي 24 ساعة، على لسان نائب وزير الخارجية والناطق الرسمي باسمها ذبيح الله مجاهد، استنكر الفعل وحذّر باكستان تحذيرا شديد اللهجة، قائلا؛ إنّ على باكستان ألا تغامر بتجربة الشعب الأفغاني، وهو ما يؤشر إلى حجم التوتر الذي تسبّبت به هذه الحادثة، وما رافقها من أحداث أمنيّة أخرى بين أفغانستان وباكستان.
بالطبع، فإنّ للتوقيت دلالة خطيرة جدا، إذ جاء هذا القصف وهو الأول في تاريخ باكستان عقب الإطاحة بحكومة عمران خان، الذي كان يقف ضد إجراء أي عمليات عسكرية خارجية في المنطقة الحدوديّة مع أفغانستان، والذي كان له أيضا تصريح مسبق أزعج الولايات المتحدة الأمريكية، حين وصف ابن لادن بالشهيد، بالإضافة إلى الثناء على طالبان لحظة خروج الاحتلال الأمريكي من أفغانستان، ومواقف أخرى تدلّ على استيائه الشديد من الموقف الأمريكي تجاه باكستان، وخصوصا موضوع طائرات الدرون الأمريكية التي كانت تضرب في المناطق الحدودية مع أفغانستان، وأثارث كثيرا من الغضب بين الباكستانيين.
كانت الولايات المتحدة الأمريكية تنظر إلى عمران خان بأنه كان غير منسجم مع المصالح والسياسة الأمريكية في المنطقة، وإن كان هذا الموقف المستاء من السياسة الأمريكية في باكستان لم يكن -في الحقيقة- مقتصرا على عمران خان، بل إنّ غالبية النخبة الباكستانية مقتنعة بأنّ أمريكا ولّت ظهرها لباكستان متجهة إلى الهند
ولذلك؛ فقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية تنظر إلى عمران خان بأنه كان غير منسجم مع المصالح والسياسة الأمريكية في المنطقة، وإن كان هذا الموقف المستاء من السياسة الأمريكية في باكستان لم يكن -في الحقيقة- مقتصرا على عمران خان، بل إنّ غالبية النخبة الباكستانية مقتنعة بأنّ أمريكا ولّت ظهرها لباكستان متجهة إلى الهند، خصمها اللدود.
وبالطبع، فإنّ هناك ذريعة استخدمها الجيش الباكستاني والحكومة الباكستانية لهذا التدخل العسكري، فقد كان الرد على مقتل بعض الجنود الباكستانيين على يد حركة طالبان باكستان قبل يوم أو يومين من حصول القصف الباكستاني، وزعمت الحكومة الباكستانية أنّ المهاجمين يجدون ملجأ في أفغانستان؛ ولذلك كان لزاما عليها أن ترد.
سبق حادثة القصف الباكستاني تصعيد شعبي أفغاني ضد إيران، إثر ظهور مقاطع فيديو تظهر اضطهاد اللاجئين الأفغان في إيران والتعدي على كرامتهم، مما أثار حالة من الغضب الشديد في أفغانستان؛ فقام المتظاهرون الأفغان بمحاصرة القنصليات الإيرانية في أفغانستان، الأمر الذي أوجد قدرا كبيرا من التوتر بين إيران وأفغانستان، إلى درجة أن الحكومة الإيرانية وجهت تحذيرا إلى حكومة طالبان، وذكرتها بمسؤولياتها تجاه حماية القنصليات الإيرانية.
يأتي ذلك كله في وقت ما زالت فيه حكومة طالبان تنتظر الاعتراف الدولي، والإفراج عن أموال الموازنة الأفغانية المجمدة في البنوك الأمريكية، التي يفترض أن تستخدم لمواجهة نقص المواد الغذائية في البلاد، والتي ارتفعت أسعارها على مستوى العالم بشكل جنوني، عقب المواجهات العسكرية بين روسيا وأوكرانيا، ما ينذر بخطر مجاعة محدقة ببلد يعد من أفقر بلدان العالم.
باكستان ستذهب في المستقبل القريب إلى مزيد من الخطوات المعلنة في سياقات أخرى لتحسين العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، إلّا أنّ ذلك لن يكون -على الأرجح- سببا لتحسين الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في باكستان
بالإضافة إلى ما سبق ذكره من تفشي الإرهاب والحرمان من الاعتراف الدولي وأموال الشعب الأفغاني المجمدة في البنوك الأمريكية، فالحادثان الإيراني والباكستاني يؤشران إلى وجود خطة ترمي إلى تقويض أية فرصة للاستقرار في أفغانستان، وإذا توترت العلاقة مع جاري أفغانستان الأكبر، باكستان وإيران، فالأوضاع ذاهبة إلى كثير من عدم الاستقرار في أفغانستان، وهو أمر يصبّ في مصلحة الهند التي كانت منزعجة تماما من قدوم طالبان إلى السلطة، ويخدم كذلك الاستراتيجية الأمريكية التي ترمي إلى عدم ترك الفراغ الذي تركته في أفغانستان لتتوسع فيه الصين، وذلك بخلق بيئة غير آمنة تجعل الاستثمار الصيني داخل أفغانستان يصبح شبه مستحيل.
عودة إلى الموقف الباكستاني، حيث ترمي الحكومة الحالية في باكستان إلى تلافي الضرر الذي حصل في العلاقات الباكستانية الأمريكية في أثناء فترة عمران خان، بتقديم بعض الخطوات التي تعبر عن حسن نواياها، وربما كان القصف قد جاء في هذا السياق، وبما يعني أنّ باكستان ستذهب في المستقبل القريب إلى مزيد من الخطوات المعلنة في سياقات أخرى لتحسين العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، إلّا أنّ ذلك لن يكون -على الأرجح- سببا لتحسين الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في باكستان، إذ إنّ المشاكل التي تعاني منها البلاد غير مرتبطة حصرا بأداء عمران خان، بل إنّ قدومه إلى السلطة جاء ابتداء نتيجة أزمة في النظام السياسي الباكستاني، التي تجلّت أبرز مظاهرها بإفلاس الطبقة السياسية التقليدية، وبالأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد.