شكّلت السياسة الخارجيّة الأمريكية في بداية عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، لغزا مستعصيا على الفهم حتى لأقرب حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية، إذ إنّ الرجل عمل على نقض كثير مما أبرمته أمريكا عقب الحرب العالمية الثانية، مبتدئا بالحلفاء الأوروبيين، والأصدقاء الآسيويين، وخافضا الجناح لدول طالما نظر إليها كقوى مارقة، على غرار مباحثاته مع كوريا الشمالية، وعلاقته الجيدة بالرئيس الروسي بوتين.
بل إنّه انسحب بالفعل من بعض الاتفاقيات والمنظمات التي دخلها أسلافه، كاتفاقية باريس للمناخ والاتفاق (UNFCCC) والاتفاق النووي مع إيران (JCPOA) المسمى 5+1، واتفاقية الشراكة العابرة المحيط الهادي (TPP) وكثير غيرها، كما هدّد بالانسحاب من أخرى وعلى رأسها منظمة حلف شمال الأطلسي (NATO) ومنظمة التجارة الدولية (WTO)، ومارس سياسة الابتزاز حتى على أقرب حلفائه، كالأوروبيين والخليجيين والشرق آسيويين؛ متهما إياهم بالتطفّل على قوة الولايات المتحدة وعدم دفع ما عليهم من استحقاقات مقابل الحماية.
أكثر من ذلك، تجاهل في كثير من الأحيان ترسانة الخبراء الأمريكيين من أكاديميين وبيروقراطيين ودبلوماسيين، الذين يطبعون السياسة الأمريكية بطابعها المؤسسي، وأحل مكانهم مجموعة من الأقارب على غرار ابنته إيفانكا وزوجها جاريد كوشنر، وزملاء المهنة السابقين كجيسون غرينبلات، وكثيرا ما أقال/ استقال طاقمه، كمستشاري الأمن القومي مايكل فلين وجون بولتون، ووزير الخارجية ريكس تيلرسون، ووزير الدفاع جيمس ماتيس، وترك كثيرا من مناصب وزارة الخارجية كالمدراء والسفراء شاغرة فترة طويلة، واعتمد في بناء سياساته على فئة محدودة من الناس؛ تجلّى ذلك بأوضح صوره في ما يسمى بصفقة القرن، التي ولدت مشوّهة في مؤتمر المنامة (25 حزيران/ يونيو 2019م) والمسمى “ورشة عمل السلام من أجل الازدهار”.
لقد كان ترامب أيضا صريحا حدّ الوقاحة في خطابه، وتجاهله الأعراف الدبلوماسية، ما جعل كثيرا من زعماء العالم حتى من حلفائه يعبّرون سرا وعلانية، عن امتعاضهم من أسلوبه الرخيص في استقبالهم ومصافحتهم والحديث معهم. ولا يقل عن ذلك سوءا في ما يختص بالمرأة وحقوق الأقليات، واستهدافه للمسلمين منذ أول ولايته، من خلال قرار يحظر على مواطني ثماني دول أغلبها إسلامية دخول بلاده، الأمر الذي سدّد ضربة مؤلمة لصورة الولايات المتحدة الأمريكيّة في الخارج، التي كانت نتاج عمل طويل وكانت تجليا للقوة الناعمة الأمريكية، ثم إدارته السيئة لجائحة كورونا التي بدأها بالإنكار ثم إلقاء اللوم على الآخرين، دون وعي كاف بخطورة المرض وآثاره على ما يبدو.
ولم يشأ أن يترك منصبه حتى أوشك أن يهدم البناء الذي قامت عليه البلاد، وهو الديمقراطية، من خلال إنكاره المستمر لنتائج الانتخابات وأخيرا تحريضه الغوغاء وبعض مجموعات اليمين المتطرف على اقتحام مبنى الكونغرس (The Capitol Hill)، واضعا النموذج الأمريكي الذي وصل حد الافتخار به أن يضعه المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما كنهاية للتاريخ، مع دول الشرق الأوسط التي تقع في قعر الحضارة الإنسانية في الوعي الأمريكي.
كما قام دونالد ترامب بالتضحية بالحقوق الفلسطينية تحت عنوان صفقة القرن، وعمل كوزير خارجية نشيط مهمته أن يضغط على الجميع من أجل تحقيق أهداف رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بالتطبيع، مستهدفا التقرّب من حلفائه الأمريكيين في اللوبي الداعم لإسرائيل، وقوى اليمين المسيحي، عسى أن يساعده ذلك على الفوز بالرئاسة مرة أخرى، فإنّه لأجل نفس السبب وضع مستقبل بلاده على شفير الهاوية، فصار “الإرهاب الأمريكي الأبيض” وليس “الإرهاب الإسلامي” هو الذي تلاحقه عيون مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، كما حصل في حفل تنصيب الرئيس الجديد جو بايدن عند التحقق من هويات أفراد الحرس الوطني.
يتركنا هذا الميراث الثقيل مع جملة من الأسئلة، لعل أهمها يتعلق بحجم الضرر الذي أحدثه ترامب داخل المجتمع الأمريكي، ومدى اتساع الهوة المجتمعية بين مكوناته، وإمكانية تأثيرها على أداء الدولة وانصرافها عن الاهتمام بالعالم الخارجي أو جعل ذلك أمرا ثانويّا، واحتمال المساس بمستقبل الولايات المتحدة الأمريكية كقوة مهيمنة على العالم، وما يتبع ذلك من اختلالات في النسق الدولي في حال تأثر هذه المكانة، خصوصا مع صعود قوى إقليمية طامحة كالبرازيل وكوريا وإيران وتركيا، وأخرى ترنو إلى أداء دور عالمي يعبر الإقليم كالصين والهند.
إنّ استراتيجية العصا والجزرة التي لطالما استعملتها الولايات المتحدة الأمريكية لإخضاع دول العالم وإجبارها على الاعتراف بالزعامة الأمريكية، مستندة إلى قوة ردع عسكرية هائلة واقتصاد هو الأقوى في العالم، يمكن أن تتأثر بشكل كبير إن اشتمّت تلك الدول التي ضبطت علاقاتها الخارجية وفق النغم الأمريكي؛ شيئا من تراجع الحضور الأمريكي والانشغال بالشؤون الداخليّة، مما يمكن أنّ يشجع الكثير منها على الدخول في مغامرات إقليمية، قد تُدخل العالم كله في نوع من “الفوضى الخلّاقة”؛ التي ستكون نتيجتها عالم جديد ستجد أمريكا نفسها مرغمة على التعامل معه على علاّته.
صحيح أنّ ترامب لم يحصل على ما يكفي من المقاعد، لكنّه قام بتحطيم الكثير منها على مبدأ عليّ وعلى أعدائي. فهل ستذهب فترة بايدن في محاولة تلافي أخطاء ترامب واسترداد ما فرط به، في وقت أصبح الجميع يتحدثون عن الصعود الصيني الصاروخي، جاعلا الهوة تتقلص بسرعة بين القوتين، ومحوّلا الصين عمّا قريب إلى قطب عالمي جديد، سيكون على الولايات المتحدة الأمريكية الاعتراف به كشريك أو خصم، وسينهي – على الأرجح – حالة القطب الواحد التي برزت على مسرح السياسة الدولية عقب انهيار الاتحاد السوفييتي؟
لقد سمعنا الكثير من التصريحات من بايدن نفسه ومن وزير خارجيته والمسؤولين في إدارته، عن التخلص من ميراث ترامب، والعودة إلى المؤسسيّة والشراكة مع الحلفاء، ولكن ليس كل ما ينكسر يمكن إصلاحه، وليست كل الاتفاقيات كاتفاقية باريس للمناخ، التي أعلنت إدارة بايدن العودة إليها. لقد أصبحت هنالك مجموعة من الحقائق التي لا يمكن القفز عليها، خصوصا في شرق وجنوب شرق آسيا، أهمها أنّ الولايات المتحدة الأمريكية قوة لا يمكن الركون إليها عند الحاجة، بينما الصين التي تصل تبادلاتها التجارية إلى أربعة تريليونات دولار مع المنطقة؛ جار تاريخي يمكن التعايش معه والاستفادة من صعوده، أمّا التعويل على الديمقراطية الأمريكية وإفرازاتها، فهي كمن يدخل في مقامرة غير محسوبة العواقب.
لقد أصبح الاعتبار الاقتصادي هو المقدم على كل الاعتبارات في هذا الجزء من العالم، حتى على الاعتبار الأمنيّ، إذ لا يمكن أن يُبنى بالأمن الأمريكي وحده مجتمع يتمتع بالرخاء، وهو ما تنشده هذه الدول. كما أنّ الولايات المتحدة ليست في وضع اقتصادي يمكنها من اتباع سياسة “دفتر الشيكات”، ولا يمكن أن تعيد التاريخ رغم وجود بعض الحلفاء لها في المنطقة، خصوصا بعد إلغاء اتفاقية التجارة العابرة للهادي (TTP)، ومبادرة الصين لطرح اتفاقية تجارية جديدة (RCEP)، التي شكّلت بديلا إلى حد ما للاتفاقية الأمريكية الملغاة، ووقع عليها حتى حلفاء أمريكا التقليديون مثل اليابان وأستراليا.
في هذا السياق أيضا، جاء رد الفعل الأمريكي تجاه الانقلاب العسكري الذي حصل في الأول من شباط/ فبراير في ميانمار، إذ إنّها فرصة تستعرض خلالها الإدارة الجديدة التغيير الحاصل بعد ترامب، ولكن رغم جمعها لحلفائها الأوروبيين وكل من اليابان وأستراليا ودول أخرى عديدة، لم يكن باستطاعتها إدانة النظام العسكري، ولا يُعتقد أنّ حراكها الدبلوماسي يمكن أن يؤدي بصورة مباشرة إلى تغيير حقيقي في المشهد، والسبب الرئيس هو المظلة الصينية التي ترى في ذلك ضررا على مصالحها.
يمكننا القول؛ إنّ الكرة الأمريكية قد تدحرجت نزولا على المنحدر الآسيوي، ومن الصعب على بايدن وإدارته أن يعيدها إلى القمة مرة أخرى، خصوصا أنّ هنالك من بات ينافسه على هذه القمة، وهو أكثر تماسكا على الصعيد الداخلي، وأقوى على الصعيد الاقتصادي، وأكثر فهما وقربا من تطلبات المنافسة.