تطوّرت علاقة الهند بالولايات المتحدة الأمريكية بوتيرة سريعة أثناء حكم الرئيس الأمريكي بوش الإبن، وخلال عهد الرئيس باراك أوباما، على حساب العلاقة مع باكستان والتي كان ينظر إليها على أنّها جزء من المحور الغربي، خلافاً للهند التي تزعمت لمدة طويلة حركة عدم الانحياز، والتي كانت رغم إعلانها الحياد في الصراع بين حلف الأطلسي وحلف وارسو، أقرب إلى الاتحاد السوفييتي، وقد استمرت هذه العلاقات الحسنة مع الوريث الروسي، حيث تعتمد الهند في حوالي 70% من تسليحها على السلاح الروسي، والذي هي بأمس الحاجة إليه لمواجهة جاريها النوويين، الصين وباكستان.
ولعل من أسباب تطور العلاقة بين الطرفين، قناعة الولايات المتحدة بتراجع أهمية باكستان الاستراتيجية عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، وحضورها بقواتها إلى المنطقة لتقوم بمهامها بالأصالة لا الوكالة، مما جعل الدور الباكستاني دوراً هامشياً بالنسبة إليها، كما أنّ تحوّل الموقف الأمريكي من الصين، والذي كان يستخدم الصين ضد الاتحاد السوفييتي من أجل إضعاف المعسكر الشيوعي، قد انتهى وباتت الصين تمثل تهديداً استراتيجياً للتفوق الأمريكي، كما هي تهديد مباشر للهند، فاجتمعت المصالح الأمريكية والمصالح الهندية بعد فراق طويل على مواجهة الصين، وكان من نتائج ذلك إنشاء تجمع كواد (QUAD) والذي يضم بالاضافة إلى أمريكا والهند، كلاً من استراليا واليابان، بغرض مواجهة التهديد الصيني في منطقة آسيا باسفيك.
غير أنّ هذه العلاقة المميزة بين الشريكين دخلت مؤخراً في اختبار حقيقي، عندما وضع الأمريكيون شركاءهم الهنود أمام اختبار الاختيار بينهم وبين حلفائهم التقليديين من الروس، فلقد تابعنا مؤخراً المطالبة الأمريكية من قِبل الرئيس جو بايدن لرئيس الوزراء الهندي مودي بأن يتم تخفيض كميات النفط التي تستوردها الهند من روسيا، واعتبر أنّ الهند لا يمكن لها أن تتبوأ المكانة العالمية التي ترجوها إن هي استمرت في هذه الممارسات، يحدث ذلك بعد إحجام الهند عن إدانة العمليات العسكرية في أوكرانيا، في الأمم المتحدة.
سبق ذلك في الأول من نيسان (إبريل) الحالي، زيارة وزير الخارجية الروسي إلى نيودلهي واتفاقه مع نظيره الهندي على أن تكون التبادلات التجارية بين الطرفين بالعملتين المحليتين، وتحدّث لافروف عن مواجهة العقوبات الغربية من خلال التوجه نحو الأسواق الآسيوية ومنها الهند، والجدير ذكره أنّ عدد سكان الهند مليار وأربعمائة نسمة كذلك عدد سكان الصين والتي تقف هي أيضاً بجانب روسيا بشكل أو بآخر، مما يعني أننا نتحدث عن تقريباً نصف سكان الكوكب تقريباً إن نحن أضفنا الأسواق الآسيوية الأخرى التي يرمي لافروف إلى توسع بلاده فيها، وبالتالي فإن نجاح الخطوة الروسية تجعل الحصار الغربي لروسيا فاقداً معناه.
عقب مكالمة الفيديو التي تمت بين جو بايدن وناريندرا مودي، توجه كل من وزير الخارجية ووزير الدفاع الهنديين إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وتهدف الزيارة فيما يبدو إلى تلافي أي ضرر يمكن أن يصيب العلاقة بين البلدين على خلفية موقف الهند من العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، خصوصاً مع إصرار أمريكا على جلب الهند إلى المعسكر الأمريكي بالكامل، وممانعة الهند التي تعتبر علاقتها مع روسيا لا تؤثر على المصالح الأمريكية.
الهنود ينظرون إلى العلاقة مع روسيا كفرصة ذهبية ولا بد من اغتنامها ـ في هذا الظرف الصعب ـ ولا يرون بأساً في أخذ بعض المخاطرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، لأنّهم يدركون تماماً بأنّ حاجة الولايات المتحدة الأمريكية إلى الهند هي حاجة استراتيجية، ستجعلها تتغاضى عن أية خلافات قد تنجم عن العلاقة الهندية ـ الروسية، بين الطرفين.
لقد كان الرد الهندي على مطالب أمريكا يعكس استياء نيودلهي من الضغوطات الأمريكية، وبدا ذلك واضحاً من خلال رد وزير الخارجية الهندي على الصحفيين الأمريكيين في أنّ الهند تستورد ما يمكن أن يعادل ما تستورده أوروبا من النفط الروسي في يوم أو في ظهيرة واحدة، وطالبت الهند الولايات المتحدة الأمريكية بأن تبدأ أولاً بأوروبا حليفتها المباشرة.
تدرك الهند تمام الإدراك، بأنّ المواجهة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية ليست هي المواجهة الكبرى، فهناك مواجهة مؤجلة مع الصين هي أكبر وأخطر بكل تأكيد، وقد أنشأت الولايات المتحدة الأمريكية خلال السنوات الماضية، لهذا الغرض مجموعة من التحالفات كان من أهمها تجمع كواد، والهند هي أكبر الدول المنضوية تحت التحالف، وأكثرها تأثيراً فيه بحكم موقعها الجغرافي المحاذي للصين، وامتلاكها أكبر جيش في التحالف وتعتبر قوة اقتصادية صاعدة بشكل سريع، ستجعل كل هذه المزايا تأثير الهند كبيرا جداً في هذه المواجهة، ولذلك لا تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية أن تفرّط بعلاقاتها المميزة مع الهند.
كما أنّ الهند التي كانت تحظى بعلاقات تاريخية مميزة مع إيران وهي دولة إقليمية محوريّة، تراجعت علاقاتها مع إيران نتيجة لانصياعها للضغوطات الأمريكية، وتجاوبها مع العقوبات الأمريكية الاقتصادية التي فرضها الرئيس ترامب على إيران، عندها تلقت نيودلهي وعوداً من واشنطن بأنّ أي نقص من إمدادات الطاقة القادمة من إيران سيتم تعويضه من السعودية والإمارات وقد تم ذلك، وبالتالي قبل الهنود هذا النوع من المقايضة ولكنهم خسروا الإيرانيين إلى حد بعيد، وعلى إثر ذلك لمسنا تغيراً في الموقف الإيراني من قضية كشمير، من خلال تصريحات حادة للمرشد آية الله خامنئي، وهو ما عنى أنّ الموقف الإيراني أصبح أقرب للموقف الباكستاني منه إلى الهندي، الأمر الذي يمكن عدّه خسارة استراتيجية للسياسة الخارجية الهندية.
كما في الأمر مع إيران، وعد الأمريكيون الهند هذه المرة إن هم توفقوا عن استيراد النفط والغاز من روسيا، بأن يتم مساعدتهم في تلافي أي نقص في إمدادات الطاقة، والافتراض الطبيعي أن هذا المدد غالباً ما سيكون من خلال السعودية والإمارات. لكننا نعرف بأنّ العلاقات الأمريكية السعودية اليوم، ليست في أحسن أحوالها وكذلك هي مع الإمارات، بل إنّنا شهدنا فصولاً من الغزل بين دول الخليج وروسيا لم تتوقف تبعها مواقف خجولة ناقدة لروسيا تحت وطئه الضغوطات الأمريكية. معنى ذلك أن الوعود الأمريكية للهند بتعويض النقص عن طريق دول الخليج هي وعود مشكوك في قدرتها على تنفيذها.
إنّ موضوع العلاقات الهندية الروسية ليس مقتصراً على ملف الطاقة والتعاون العسكري وحسب، فالهنود ينظرون إلى العلاقة مع روسيا كفرصة ذهبية ولا بد من اغتنامها ـ في هذا الظرف الصعب ـ ولا يرون بأساً في أخذ بعض المخاطرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، لأنّهم يدركون تماماً بأنّ حاجة الولايات المتحدة الأمريكية إلى الهند هي حاجة استراتيجية، ستجعلها تتغاضى عن أية خلافات قد تنجم عن العلاقة الهندية ـ الروسية، بين الطرفين