غرقت في المرآة تتأمل وجهها الأبيض الجميل، وتتفقد قوامها وهندامها. كانت تقف عند كل قسمة من قسمات وجهها لتطمئن أنها في أفضل حال، وتدير وجهها لترى قسماته من زوايا مختلفة لتحدد أفضل الزوايا التي يظهر عليها أنفها وفمها واستدارة وجهها، وتلاحظ انعكاس النور والظلال وترفع رأسها إلى علٍ لتسمح للنور أن يسقط على أكبر مساحة من وجهها فيبعث فيه التوهج كمصباح من بلور شفاف. تدخل أناملها الرقيقة ذات الأظافر الطويلة الملونة في شعرها المصبوغ لتنفش بعض الشعرات هنا وهناك، وتنزل بيديها بعد طول تأمل إلى فستانها لتشد بعض أطرافه وتدور يمنة ويسرة معجبة بقوامها الرشيق، ثم تبتسم لنفسها ابتسامة سرعان ما تضمحل لتنقلب إلى ضدها، تصحبها زفرة حارة طويلة. تيار مرّ يجري في فمها وحلقها منذ استيقظت في الصباح يشعرها بالغثيان، رفعت كأس ماء عن التسريحة أمامها، ورشفت قليلاً منه، ثم أعادته إلى مكانه، هرعت الخادمة الصغيرة نحوها ومعها جهاز الهاتف النقال ونادتها قائلة: ” سيدي على الخط.”
لم تلتفت إليها وبقيت تحدق في المرآة ثم زمّت عينيها وهي تشعر بتيار المرارة يجري في فمها وحلقها من جديد، رشفت قليلاً من الماء مجدداً، ثم تناولت جهاز الهاتف من يد الخادمة وقالت: ” ألو .. أهلاً.. لا لا لا… سأبقي الطفل لدى الخادمة.. أنت تعلم أن لدي نشرة أخبار تجريبية اليوم… لا، لا يمكنني تأجيلها… لقد عملت في محطات تلفزيونية مغمورة لوقت طويل والانضمام إلى هذه المحطة المشهورة حلم يتحقق بالنسبة إليّ.. أُف .. الطفل الطفل الطفل ، أنت هكذا دائماً تريد أن تمتلكني.. أنت لا تهتم لمستقبلي.. لم أعد أحتمل هذه المعاملة .. الأفضل أن يمضي كل منا في طريقه.. مع السلامة.” ورمت الجهاز على السرير وأوشكت على ذرف الدموع لكنها علمت أنها إن فعلت ذلك فسوف تفسد زينتها فتمالكت نفسها ونظرت في المرآة إلى عينيها الحمراوين وتنفست بانتظام محاولة العودة إلى وضعها الطبيعي وشربت مزيداً من الماء محاولة التغلب على شعور المرارة الذي يصيبها بالغثيان.
نظرت في ساعتها واطمئنّت أن لديها وقتاً كافياً قبل أن تذهب للتسجيل في الأستوديو وعادت لتطمئن على زينتها مرة أخرى فلفت انتباهها نمو شعرات فوق شفتها العليا، أصيبت بالذعر وقرّبت وجهها إلى المرآة ودققت النظر فلم تصدق عينيها، فقد أزالت هذه الشعرات عند المزين قبل أيام قليلة فقط، أوشكت أن تفقد وعيها وقد قفزت إلى ذهنها صورة أمها وهي ترتدي زيها التقليدي وينمو تحت أنفها شارب أسود لا تخطؤه العين، وكم كانت تصاب بالذعر وهي تتخيل نفسها قد ورثت هذا الشارب عن أمها. فتحت أحد أدراج تسريحتها وهي تغالب ذاك التيار الطاغي من المرارة في حلقها، وأخرجت شريطاً لاصقاً صغيراً وألصقته على الشعرات ثم شدته بعنف فتحول الجلد مكانه إلى بقعة حمراء، دققت في المرآة من جديد فوجدت بعض الشعرات قد أفلتت من قبضة الشريط فأخذت تنزعها بالملقط مما زاد البقعة احمراراً. لم يهدأ بالها، كانت على قناعة تامة أن عين المشاهد قادرة على رؤية النواقص في وجه المذيعة مهما حاولت إخفاءها. سارعت إلى وضع كمية كبيرة من البودرة على مكان الاحمرار ورشفت قليلاً من الماء. نهضت من مكانها محاولة التأكد أن كل شيء على ما يرام، وأنها أصبحت جاهزة للذهاب، أثناء ذلك دخل طفلها الوحيد ذو الخمس سنوات إلى الغرفة وأمسك بفستانها واحتضن رجليها فنادت على الخادمة كي تأخذه، فهرعت الخادمة إليه، ونزعته عن رجليها وهو يرفس برجليه وينادي:” ماما.. ماما.. خذيني معك.” فلم تلتفت إلى بكائه فقد اعتادت أن تتركه مع الخادمة، وأن يثير لها الكثير من الضجة كلما فعلت ذلك، كم تمنت أن طفلها لم يكن موجوداً لتخلصت من هذا الزواج بكل سهولة ويسر، وعندما همّت بالخروج من الغرفة دق جرس الهاتف، فالتقطته عن السرير وردت وهي تتحسس مكان شاربها، وعندما سمعت صوت زوجها أغلقت الخط بسرعة دون كلمة واحدة ورمت الهاتف مجدداً على السرير.
جرى ذلك التيار المر من جديد وصارت البقعة الحمراء تهرشها، أخذت تفكر كيف اقترنت بزوجها هذا، وعادت بها الذاكرة إلى أول أيام زواجها، في تلك الأيام كانت تعتبره كنزاً ألقي إليها من السماء، فهو شاب متعلم و ثري وقد حقق لها كل أمانيها من الفيلا إلى السيارة وأتاح لها فرصة الانضمام إلى المجتمع الراقي الذي طالما تمنت أن تنضم إليه، حتى حلمها بأن تصبح مذيعة تلفزيونية حققه لها عن طريق أحد معارفه المهمين في إحدى المحطات الرسميّة. ومع مرور الأيام بدأ يصغر في عينيها، واكتشفت أنه إنسان أناني، متسلط، تقليدي، يغار من نجاحاتها، وأنها لو صبرت قليلاً، لنالت من هو خير منه بكثير، بفضل جمالها، وخفة ظلها، وحسن حضورها، واليوم لن تسمح له أن يقف حاجزاً أمام تألقها. مشت في ممر الفيلا الطويل حتى وصلت إلى موقف السيارات في الأسفل. فتحت باب سيارتها، وأدارت المحرك، ثم ضغطت على جهاز اللاسلكي ففتح باب الموقف وغمر نور الظهيرة المكان. رجعت بسيارتها إلى الخلف، فاضطربت السيارة قليلاً، فعلمت أنها ربما صعدت على إحدى لعب ابنها التي كثيراً ما ينساها هناك عندما يعود مع أبيه من الخارج، ثم خرجت من الموقف، وعندما ابتعدت قليلاً وهمت بأن تنطلق في الشارع العام، رأت خادمتها تلوّح لها بيدها لكنها تجاهلتها ومضت إذ لا بد أن الخادمة أرادت أن تخبرها بأن تحضر شيئاً من احتياجات البيت، وتذكرت ذلك في اللحظة الأخيرة.
سجلت ذلك اليوم في الاستوديو، أفضل برامج في حياتها، وشعرت أنها تخرج إلى سطح الأرض للمرة الأولى في حياتها، وعندما عادت إلى المنزل والظلام يوشك أن يطبق على المكان، وجدت سيارات الشرطة وسيارة زوجها أمام الفيلا وآثار إطارات من الدم واضحة على الأرض، والخادمة جالسة القرفصاء بجانب باب الموقف وتبكي. شعرت بطوفان من المرارة يجري من فمها إلى حلقها فأمعائها وأوشكت أن تفقد الوعي تحت وطأة الغثيان الذي تملكها، استطاعت ان تتبين عيني زوجها كجمرتين حمراوين توشكان أن تنطلقا كرصاصتين نحوها. تمالكت أعصابها بصعوبة بالغة وسألت ضابط الشرطة عمّا حدث، فرد وهو يبتسم ابتسامة مبهمة: ” يبدو أنك قد سحقت طفلك بسيارتك يا سيدتي.”