(قصة واقعية)
أمسك بخشب التابوت المسجى على الأرض أمام إمام المسجد، وهو يبكي ويصيح وينادي بكلام غير مفهوم وعيناه مليئتان بالدموع، محمرتان كالجمر من شدة البكاء، وصوته يتردد في قبة هذا المسجد المملوكي القديم المجاور لمقبرة المدينة، ليعود مضخّماً كصوت فرقة من النائحات المختبئات في الجدران، غير أنّ هذا المشهد ليس مستغرباً في هذا المسجد الذي يؤتى إليه بالموتى منذ مئات السنين للصلاة عليهم ودفنهم في المقبرة المجاورة، حتى ولو كان النائحة رجل جاوز الخمسين وله شعر أشيب ومظهره فلاّحي قاس، فكم من الرجال الذين خيّم الشيب على رؤوسهم بل وعلى أرواحهم، بكوا على موتاهم كأصغر الأطفال وناحوا ولطموا وجوههم وشقوا ملابسهم وفعلوا الأفاعيل في هذا المسجد من قبل، كل ذلك وأكثر منه اعتاد عليه مصلو المسجد وخصوصاً إمامه الشيخ، إلاّ أن هذا الرجل ذو الكتفين العريضين والعينين الحمراوين، يرفض أن يخلي التابوت وشأنه، حتى مضى وقت غير قصير وهو ملتصق به لا يريد فكاكاً، بدأت رجاءات المصلين له بأن يبتعد ليدع الناس تصلى على الموتى، لكن بلا نتيجة، ثم تحولت الرجاءات إلى توسلات والرجل يرفض أن يخلّي التابوت رغم كل محاولات الحاضرين بل إن بكاءه كان يتحول إلى صياح منكر كلما حاول أحد إبعاده عن التابوت ولو سنتيمترات قليلة، فاقترب منه رجال ثلاثة وأخذوا يقنعونه بالهدوء والذوق ولكن أنّى لهم ذلك، فلم يجد أهل الموتى في التوابيت الأخرى بداً من التدخل محاولين إقناعه بأن يدع الإمام يصلي على أمواتهم ثم فليفعل ما يريد، لكنه انبطح على التابوت هذه المرّة وأمسك به كمن يمسك بلوح خشبي في قلب محيط متلاطم الأمواج يخشى أن ينزلق عنه فتكون نهايته. ترددت عبارات رجاء وإقناع كثيرة” يا أخانا، يا حبيبنا، يا ابن الحلال، لأجل ذقني، يا طيب، امسحها بلحيتي..” دون فائدة، حتى أن بقية المصلين تركوا صفوفهم وتجمعوا في حلقات متتابعة ضاغطة حول المنبر حيث كانت التوابيت تنتظر الصلاة عليها، حاول بعضهم أن ينزعه عن التابوت بالقوة فمكثت قرب التابوت واقفاً كنمر يستعد أن يسحق فريسته وظهرت في عينيه نظرة مرعبة، وأخذ يطلق الشتائم من كل نوع وعيار، ويهدد كل من يجرؤ على انتزاع التابوت منه بأن ينهي حياته ويضعه في نفس التابوت، فثارت في المسجد ضجة تصم الآذان بين احتجاج على بذاءته واستغراب من حالته وتساؤل عن دوافعه، كل يحاول فهم الموضوع على طريقته ومن وجهة نظره، عندها تدخّل الإمام محاولاً فظ النزاع، ” يا أخانا كلنا سنموت، لا أحد منا سيخلد في هذه الدنيا، ما تفعله حرام، أما علمت أن الميت يعذب بنواح أهله عليه.” فإذا الرجل يقول بصوت مضطرب يخرج من بين شهقات قصيرة:
” وانا ما لي؟ ما يتعذب والاّ يروح في ستين داهية.” في تلك اللحظة أدرك الإمام أن الوضع غير ما كان يفهمه، ولكن هجوم رجال ثلاثة على الرجل الباكي لم يدع مجالاً للإمام أن يستوعب الموقف، وبسرعة البرق نشبت معركة بالأيدي سرعان ما انفضت على أيدي فعلة الخير وتحت تأثير عبارات مثل ” وحدوا الله، ما اتصلوا على النبي، اخزوا الشيطان، إحنا في بيت الله يا جماعة، هذا لا يصحّ..” أدرك الإمام من خلال خبرة ثلاثين سنة في الصلاة على الأموات أن هناك وضع غير عادي، مما أثار قلقه وفضوله معاً، وجعله أكثر اهتماماً، ” ارجع انت واياه لورا، نحن في بيت الله.” نهر الإمام الجموع المتدافعة، ثم خاطبهم بحزم ” دعوا الرجل وشأنه حتى نفهم الموضوع.” أراد أحد الواقفين التطوع بالشرح، لكن الإمام زجره زجرة جعلته يقعي في مكانه صامتاً، وقد خفض بصره تحت تأثير نظرة الإمام الناريّة، تنهد الإمام تنهيدة طويلة وصوب بصره تجاه الرجل الشاتم وقال له بنبرة فيها كثير من النزق ” أيها الرجل، أما علمت أنه لا يجوز على الميت سوى الرحمة، كما أننا في بيت من بيوت الله، فلم قلت ما قلت عن الميت، وقد كنت أحسب أنك ستقتل نفسك حزناً عليه؟!”
احمرّت عينا الرجل وأخذ يذرف الدموع فتنحدر على خديه كسواقٍ صغيرة، وشهق وهو يمسح عينيه، وقال:
” يا سيدي اسألهم” وأشار إلى الرجال الثلاثة بملابسهم الريفية الفضفاضة وهم يقفون عند قدمي التابوت وقد أخفضوا رؤوسهم إلى الأرض بذلة كمن يحاول الاضمحلال والاختفاء في الهواء، ” اسألهم، إن لم أكن أعطيت قريبهم الميت هذا” وأشار بإصبعه إلى التابوت، ” أربعة آلاف جنيه، هي كل ما أملك، على أن يسدد لي المبلغ، لكنه مات ولم يفعل. اسألهم ألم يكونوا، هم بالذات، شهوداً على ذلك.”
نظر الإمام والمصلون تجاه الرجال الثلاثة، الذي تحولوا إلى ما يشبه الورق الشفاف من الخجل، فهزّوا رؤوسهم بالموافقة، فسألهم الإمام إن كان الميت قد ترك إرثاً يمكن أن يسدّد دين الرجل، فحركوا رؤوسهم بالنفي، فصاح الدائن وهو يبكي :” الله أكبر! أنا رجل فقير ذهب كل مالي، لا والله لا تدفنوا الميت حتى يرجع إليّ مالي.”
عندها قرّر الإمام بأن لا صلاة على الميت حتى يدفع أهله دينه، فثارت في المسجد ضجة هائلة، واجتمع الناس في حلقات صغيرة كل منهم يحاول حلاً للمشكلة، ولعل أكثرهم تأثراً بهذه المصيبة أهل الموتى الآخرين الذين حملوا أحمالاً ثقيلة من القلق والخوف على مصير موتاهم في هذا الحرّ بالإضافة إلى حزن فقدهم، فراحوا يتوسلون للإمام بأن يجد مخرجاً شرعياً لهذه الأزمة قبل أن تنتن جثث موتاهم وتفوح رائحتهم والإمام رأسه وألف سيف لا يتزحزح عن موقفه ولا يصلي على أي من الموتى حتى تحل المشكلة، انتحت جماعة أهل الموتى بصاحب الدين يتوسلون إليه بأن يسامح بحقه وأخذوا بتقبيل رأسه والتربيت على كتفه وبيان كم هو رجل كريم وأهل لكل خير وكيف أنه سيسامح الآن لأنه لا يرضى بأن يذهب رجل إلى النار بسببه، إلاّ أنه لم يسامح ولم يتوقف عن تلويح رأسه يمنة ويسرة وهو يردد عبارة واحدة باستمرار ” حقي يا ناس، حقي يا ناس”، ثم ما تلبث هذه المجموعة أن تتوجه إلى أهل الميت، وكلهم أمل بأن يجدوا الحل عندهم، فيحذرونهم من عاقبة عدم سداد الميت، وكم في ذلك من إثم عظيم وعار عليهم، وكيف أن مصير الميت سيكون في الدرك الأسفل من النار مع فرعون وهامان وأبي جهل وربما أسفل من ذلك، لكن هؤلاء كان يصفقون بأيديهم ويحوقلون ويهزون رؤوسهم ثم يقلبون جيوبهم ويقسمون أغلظ الأيمان بأنهم فقراء لا يملكون شيئاً حتى أنهم استدانوا ثم الكفن، ولو كان الأمر بأيديهم لما تأخروا لحظة واحدة عن السداد ولما وضعوا أنفسهم في هذا الموقف المحرج، ثم تعود المجموعة مرة أخرى إلى الدائن يرجونه ويقبلون يديه هذه المرة ويجرّونه نحو أهل الميت كي يتنازل عن حقه لكنه يسحب يده من أيديهم ويأبى المصالحة متمسكاً بعبارة اليتيمة ” حقي يا ناس، حقي يا ناس” وعندما ييأس منه أهل الموتى، يأخذ دورهم بعض المصلين الذين يظنون بأنفسهم القدرة على النجاح فيما فشل فيه الآخرون، حتى أن بعض أهل الموتى أخذوا بالبكاء والصياح ” حرام يا ناس، الدنيا حر ورائحة الموتى ستطلع.” وتؤيدهم مجموعة من المصلين الذين يريدون الانصراف إلى أعمالهم وهم مطمئنون إلى أنّ المشكلة قد انتهت ” إكرام الميت دفنه يا اخوننا.” والإمام يسمع كلام الجميع مصمماً على عدم إضاعة حق الدائن بالصلاة على الموتى، إذ سرعان ما يتفرق الحضور إن هو فعل ذلك وسيذهب معه حق الرجل الفقير إلى غير رجعة.
أخيراً تردد نداء جهوري في أنحاء المسجد الذي كان أبعد ما يكون عن الهدوء والسكينة ” وحّدوا الله! ما توحِّدوا الله؟!” فجاء الرد كأنما يخرج من مسامات الجدران ومن كل ذرة في المكان ” لا إله إلا الله محمد رسول الله.”، لقد كان صوت الإمام الذي سئم كل تلك المجادلات والمفاوضات التي لا تنتهي وضاقت عليه نفسه جرّاء الحرّ ورائحة الموت التي بدأت بالفعل بالانتشار في الجو، ثم أمر الحضور بالجلوس في أماكنهم غير ان فئة قليلة عزّ عليها أن يأمرها أحد ما حتى ولو كان إمام المسجد فبقيت واقفة، فما كان من الإمام إلا أن زجرهم بعنف وقد توتر صوته كوتر قوس توشك أن ترمي بملايين السهام دفعة واحدة، فذاب الواقفون في الأرض وما لبث أن أصبح حلّ الصمت ، جال الإمام ببصره ناحية اليمين واليسار ثم تنهد تنهيدة طويلة ورفع عمامته ومسح صلعته المصقولة بمنديل قماشي ثم تنحنح وبدأ كلامه بالحمد والصلاة والسلام على رسول الله، وقرأ بصوت بث الخشوع في القلوب وذكّر بالله وبرسوله، وانتقل من بعد ذلك إلى سير الصاحبة والتابعين والصالحين وأورد من حكم الشعر والنثر حتى دمعت عيون الحاضرين، وذكّر بوحدة المسلمين وتكافلهم وأنهم كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، حتى سرت الحميّة والحماسة في أبدان الجالسين كتيار كهربائي ساخن، ودبت الشهامة في عروقهم حتى ليصعب على أحدهم البقاء قاعداً، ثم دعا الإمام بدعاء ارتفع معه صوت بكاء الجالسين وسرعان ما تحول إلى نحيب، وبلهجة خبت تدريجياً صلى وسلّم على نبيه الكريم ودعا الجميع إلى التبرع لقضاء دين أخيهم الميت، فصار كل منهم يخرج ما في جيبه ويضعه في عباءة الإمام التي فردها على الأرض، حتى أن بعضهم خرج إلى منزله أو دكانه ليأتي بالنقود، وبعضهم استدان من جيرانه ليساهم في رفع كربة الميت وليشارك بالثواب. وورقة نقدية وراء ورقة نقدية، وقطعة معدنية خلف قطعة معدنية، اجتمع كوم كبير من النقود في عباءة الشيخ والناس تتوالى تلقى بالمال حتى لم يبق فرد واحد في المسجد صغيراً أو كبيراً إلاّ وشارك، وعندما توقف أخيراً سيل المتبرعين نادى الإمام إن كان هناك من يود التبرع، فلمّا لم يجبه أحد وأدرك أن الجميع قد قام بما عليه وزيادة، رفع صوته ووجهه إلى الدائن الذي رحلت من عينيه علامات الحزن وحلت مكانها علامات السرور والرضا، قائلاً:
” أيها الرجل، يا صاحب الدَين، هل ترضى أن تأخذ ما تبرع به هؤلاء الناس الطيبين هكذا دون عدّ؟ ما رأيك؟” كان الإمام يسأل هذا السؤال وهو يعلم تمام العمل أن المبلغ قد لا يصل إلى ما يطلبه الرجل ذلك لأنه من الفئات النقدية الصغيرة، فأغلب أهل الحي من الفقراء، لذا أراد أن يعقد صفقة سريعة تنهي كل هذا الشد والجذب. صمت الدائن قليلاً فلم يدع له الواقفون فرصة للتفكير طويلاً والتردد، فأخذوا بتخجيله وحثه على القبول، فقبل عرض الإمام بابتسامة أخذت تكبر شيئاً فشيئاً حتى حلّ الوئام مكان الخصام، فتصافح أهل الميت مع الدائن علامة التراضي وتعانقوا، فضج المسجد بالتكبير والتحميد وخيّم على الحاضرين شعور بلذة الرضا عن النفس، وفُرِّج عن أهل الموتى الآخرين الذين بدأت رائحة موتاهم بالانتشار بسبب الحر، فحثوا الإمام والجميع على المسارعة بالصلاة، فأعلن الإمام بصوته الواثق صلاة الجنازة، فاصطف الناس في الصفوف يتملكهم شعور بأنهم يصلون على وليّ كبير أو من هو أعظم من ذلك، فغشيهم الخشوع وتملكتهم رقة ورحمة لم يعرفوهما من قبل، وما أن كبّر الإمام تكبيرته الأولى حتى أخذوا يصلّون من أعماق قلوبهم صلاة كما لم يصلوا من قبل، كان كل منهم يصلي بقلب قديس أو وليّ، فشعروا بأرواحهم تصفو وتسمو وترتفع في سماء المسجد ثم تتحد في روح عظيمة واحدة، شفافة رقيقة أخف من الهواء، وما أن بدأوا بالدعاء حتى ضج المسجد بالبكاء ولهجت الألسن بأدعية تقاطرت على الأذهان من سماوات علويّة، وكاد المصلون يرون الملائكة بأم أعينهم وهم يزفّون المرحوم الذي تم إنقاذه من غرم الدين، إلى جنّات النعيم وقد تفتحت أبوابها واصطفت حسانها، وانتشرت عطورها، فيا له من شعور ويا لها من عاطفة صادقة مخلصة حتى أن إمام المسجد الذي اعتاد أن يصلي على الجنائز منذ دهر طويل، بلغ منه التأثر كل مبلغ، فأجاد بالدعاء وزاد وأعاد، وأطال بالصلاة والترحم، حتى شفيت الصدور، وذهبت الأحزان، وكأن القوم في زفة عريس لا في جنازة ميت، وما أن سلّم مؤذناً بانتهاء الصلاة حتى رفع كفيه بالدعاء، والناس يؤمنون على دعائه حتى كلّت الأيدي المرفوعة وتعبت السيقان المنصوبة، فصلى وسلم على الرسول الكريم وختم الدعاء، ثم نادى كل أناس ليحملوا ميتهم إلى مثواه الأخير، فتقاطر الناس من جميع الجهات وحملوا التوابيت على أكتافهم كل منهم ينافس الآخر ابتغاء الثواب، وما هي إلاّ ثوان حتى ارتفعت التوابيت جميعها عن الأرض على أكتاف المشيعين، إلا تابوت واحد لم يرتفع، ولم يتقدم نحوه أحد، استغرب الإمام من ذلك، إذ كان نفس التابوت الذي ثارت حوله المشاكل، تلفت الإمام عساه يرى أحداً من الرجال الثلاثة، أهل الميت في التابوت، لكنه لم يرى أحداً منهم، فتّش عن الدائن الذي ما زال صوته يتردد في جنبات المسجد، لكنه لم يره، ضاق صدر الإمام فأخذ يسأل عنهم لكن أحداً من الواقفين لم يرهم، أخذ يناديهم بمكبرات الصوت، لكن لا مجيب. هتف هاتف في روع الإمام بشيء جعل وجهه يتكدر ونفسه تنقبض، فاقترب من التابوت ورفع عنه الغطاء ليجد وسادة قطنية ضخمة تحل مكان الميت المزعوم، فجحظت عيناه وفغر فاه ولم يتمالك نفسه من أن يهمس ” يا اولاد الأبالسة.”