خطَّ بيده خطوطاً كثيرة تحت كلمة في نهاية سطر أسود يتيم ينساب وحيداً على صفحة بيضاء. أغمض عينيه وحاول أن يغرق في العتمة مستجمعاً كل قدرته على التركيز ، عسى أن تلمع الفكرة في ذهنه وتفتح له طاقة من نور.
نظر إلى جملته المبتورة ووضع مزيداً من الخطوط تحت الكلمة . رفع القلم وقرع به أسنانه السّفلى مراراً لترن بتوتر ثم أخذ نفساً عميقاً ملأ به رئتيه وأخرجه تياراً حاراً صاخباً.
أصوات ترتفع خارج الغرفة لتزيد من عسر مهمته، التفت يساراً نحو النافذة المترعة بنور الشمس ، ثم أعاد بصره إلى باب الغرفة. كانت الأصوات تزداد علواً وإزعاجاً فتشدَّ كل عصب في بدنه حتى لتوشك أن تقطعه. انطلقت صرخة هائلة من فيه :” ما الذي يحدث في الخارج ؟” وضغط على زر كهربائي أحمر بجانب المكتب ففتح الباب على الفور.
- ” إحترامي سيدي المقدم.” ظهر شاب نحيل مؤدياً التحية العسكرية.
- ” ماذا يحدث في الخارج بحق الشياطين ، هل نحن في سوق خضار أم عسانا في مستشفى للمجانين؟”
- – ” سيدي . . . لو سمحت لي . . هنا عندنا . . . أقصد في الممر . . .يوجد . .آء . . آء . . يوجد . . واحد . . يا سيدي . . المدير غير موجود . . . أقصد . . “
- – ” تكلم هل أكل القط لسانك؟” مقاطعاً.
- – ” سيدي . . . في واحد يا سيدي . . . نعم . . يريد أن. . أن . . . “
- – ” تباً لهذا اليوم .” ونهض المقدم عن كرسيه متوجهاً إلى الباب فقفز الشاب من أمامه إلى خارج الغرفة مفسحاً له الطريق.
مد المقدم رأسه في الممر ونظر تجاه عاصفة الصوت ، فرأى ستة رجال يحملون شخصاً من يديه ورجليه كالذبيحة ويهمون بإنزاله إلى الطابق الأرضي وهو يقاومهم مقاومة شديدة محاولاً الإفلات من أيديهم ، وقد اختلطت صرخات الجميع وصيحاتهم اختلاطاً هستيرياً .
توجه المقدم إليهم وصاح بهم ” أنزلوه فوراً. . ” إلتفت الرجال نحو مصدر الصوت المألوف فاسترخت أصابعهم وسقط الرجل من أيديهم على الأرض محدثاً دوياً مفاجئاً .
- ” إحتراماتي سيدي.” أدى الرجال التحية وهدأ الممر هدوءً مميتاً ، وقد تبدّد صدى الضجيج.
نظر المقدم إلى الرجل الملقى على الأرض نظرة فاحصة سريعة ثم نظر إلى الرجال وقال بغضب:” هل أنتم بشر ؟ ألن تتعلموا ؟ إلى متى سنبقى نردّد على أسماعكم نفس الكلام ؟ زمان أول ولىّ، نحن في زمن الديمقراطية . . الديمقراطية . . ألا تفهمون ؟ . . ألم تسمعوا بها من قبل ؟ . . “
- ” نعم سيدي، لكن إذا سمحت لي سيدي. . ” قال أحد الرجال.
- ” هل أنت مدير المخابرات؟” جاء صوت ما مقاطعاً، التفت المقدم قليلاً حتى استقر نظره على الرجل الملقى على الأرض، كان رجلاً في بداية العقد الرابع من عمره، يكسو وجهه النمش وعلى رأسه ووجهه شعر أحمر مشتعل، وقد ارتدى لباساً عسكرياً قديماً قذراً ووضع قدميه في شبشب بلاستيكي مقطّع .
- – ” أنا مساعده، عطوفته غير موجود في الوقت الحاضر ، هل لك أن تخبرني من أنت؟”
- – ” أنا أريد مدير المخابرات شخصياً.”
- – ” قلت لك أنه غير موجود حالياً، ألا أستطيع أن أقوم مقامه؟” وابتسم ابتسامة خفيفة من طرف فمه.
فكرّ الرجل المستلقي على الأرض قليلاً وقد وضع رجلاً على رجل فبانت أظافر قدمه الطويلة الصفراء من خلال الشبشب البلاستيكي المقطّع، وقد احتشدت تحتها قذارة سوداء ، وقد أخذ يحدق في سقف الممر كمن يشاهد فيلماً سينمائياً ثم التفت إلى المقدم قائلاً:
- ” لدي اعترافات خطيرة . . خطيرة جداً . . أتظن أن لديك القدرة على سماعها ؟” قال وكأن صوته آت من قعر بئر عميق.
- ” إعترافات؟!” قال المقدم وصمت قليلاً واضعاً يده على ذقنه ناظراً إلى الرجل وهو في تلك الوضعية الطريفة، ” سأحاول أن أبذل جهدي، أدخلوه إلى مكتبي على الفور.” قال المقدم مخاطباً رجاله، فاقتادوه إلى الغرفة بينما المقدم ما زال يقف في الممر متأملاً ذلك العدد الكبير من المشاهدين الذين برزوا من أبواب مكاتبهم وانتشر بعضهم على السلالم يراقبون.
- – ” ألا تخجلون من أنفسكم؟ أليس لديكم عمل لتقوموا به؟ هيا إلى مكاتبكم.” قال المقدم بلهجة آمرة فانسل الجميع إلى مواقعهم فخلى الممر إلا من بقعة ضوء لامعة على الأرضية المصقولة.
دخل المقدم مكتبه وجلس في كرسيه ونظر إلى قلمه الملقى على سطح الطاولة وأعاده إلى مكانه، ثم رفع رأسه لتقع عينيه على ذلك الرأس الأحمر .
– ” بإمكانكم الخروج الآن.” قال المقدم مخاطباً رجاله الذين وقفوا على أتمّ الاستعداد لتلقي أوامره.
- ” والآن وقد هدأت الأمور هل لك أن تخبرني من أنت أيها السيد وما الذي تريده بالضبط، وإياك والتلاعب معي فأنت لا تعرفني جيداً.” قال المقدم بلهجة هجوميّة.
- ” لقد جئت لاعترف بأمر خطير ولا وقت لديّ للتهديدات الفارغة ، هل ستسمعني أم أذهب إلى من هو أعلى منك؟” وهم الرجل بالنهوض من كرسيه.
- – ” إجلس . . إجلس . . يبدو أنك ما زلت متوتراً، ارتح أولاً ثم نتكلم.”
ساد صمت قصير الغرفة ثم قال المقدم وهو يشعل سيجارته:
- ” إذن، ألن تعرّفني باسمك ؟”
- ” أمركم عجيب! كانت العرب تستضيف الناس ثلاثة أيام قبل أن تسألهم عن أسمائهم، وأنتم تستقبلونني أسوء استقبال ثم تسألوني عن اسمي حتى قبل أن تقدموا لي كأساً من الماء .” قال الرجل محتجاً.
ابتسم المقدم وقال:” معك حق . . معك كل الحق. . ماذا تحب أن تشرب؟ شاي ، قهوة ، لدينا قهوة ممتازة ، ما رأيك؟”
- ” لا لا أنا أحب “القافشتينو” ، واحد القافشتينو لو سمحت.”
- ” قافشتينو . . قافشتينو. . لعلك تعني كابتشينو.”
- – ” ماذا صعبة ؟! فنجان من القافشتينو صعبة عليكم؟!! وأنا الذي كنت أظن أنكم قادرون على كل شيء.” قال الرجل وهو يهزّ رأسه متأسفاً.
ضغط الضابط على الزّر الكهربائي فظهر المراسل من الباب في الحال:
- إحترامي سيدي المقدم.”
- ” فنجان كابتشينو للأخ بسرعة.”
- – ” كابتشينو سيدي؟!”
- – ” كابتشينو يا بني آدم ، كابتشينو ألا تفهم العربية؟”
- – ” حاضر سيدي على الفور سيدي.” قال المراسل وانصرف بسرعة.
بعد مضي دقائق عديدة كان الرجل قد استمتع خلالها بشرب فنجانه من الكابتشينو ، وارتاح في كرسيه غاية الارتياح ، والمقدم ينظر إليه من خلال غمامات الدخان التي ينفثها، جاء سؤال المقدم من جديد:
- ” والآن وقد ارتاحت أعصابك وشربت الكابتشينو ، ألا تريد أن تتكلم؟”
- ” نعم بالطبع ولكنني جائع، وأريد أن أتناول الفلافل.”
- – ” الفلافل؟ . . الفلافل؟ . . ” قال الضابط بلهجة متصاعدة ، ” الفلافل ؟. . ” هذه المرة بغضب” الفلافل أيها المتشرد الصعلوك، قم . . قم أنهض عن الكرسي فورا.ً” ودار حول الطاولة ووقف قبالة الرجل الذي تلقى صفعة مدوية اهتز لها المبنى بأسره.
- – ” لقد طوّلت بالي عليك كثيراً، أتحسب أننا في كوفي شوب أو في مقهى الانشراح؟” صارخاً بأعلى ما عنده ” إن لم تقل ما عندك فوراً فسأجعلك تلعن “سنسفيل” اليوم الذي رأت الدنيا فيه سحنتك المنكرة هذه، أفهمت؟”
حكّ الرجل خده الذي تلقى الصفعة بيده ثم قال:
- ” هذا أول كف سياسي أذوقه في حياتي، كنت أحسب أن صفعات المخابرات “غير شكل”.”
- ” إن لم تتكلم حالاً فسأجعلك ترى النجوم في عزّ الظهر.”صاح المقدم وهو يلوح بسبّابته في وجه الرجل.
- – ” آه أكيد أنك تقصد ذلك النور الذي رأيته قبل قليل عندما صفعتني. على كل حال أنا معتاد على رؤيتها منذ ولدت ، فوالدي كان عامل بناء ويده ما شاء الله ليست يد إنها قدم مركبة على ذراع ، وكثيراً ما كان يصفعني لكنها صفعات . . صفعات لا كصفعتك. صفعتك تذكرني بصفعة الأستاذ فايز معلم اللغة الإنجليزية في المدرسة الابتدائية ، كنت أتلقاها وأنا أضحك في نفسي وأقول لو أن الأستاذ يتلقى صفعة واحدة من صفعات أبي لعرف معنى الصفعات الحقيقية أو ربما لمات. يعني لا تتعب نفسك أنا معتاد على الضرب، أستطيع التحمل أكثر من حمار قبرصي.”
صمت الضابط وأخذ نفساً قصيراً ثم استدار عائداً إلى كرسيه وراء الطاولة وجلس بكل ثقله، أشعل سيجارة وأخذ يسحب نفساً عميقاً من بين إصبعين مشدودتين.
- ” عجيب أمرك أيها الرجل ” قال الضابط” هل أجبرناك على القدوم إلينا ؟ ألم تأت إلينا برجليك، وقلت تريد أن تعترف ؟ حسناً نحن بانتظار اعترافك، هيا اعترف وخلّصنا. . “
- ” وكيف لي أن أعترف وقد صفعتني على وجهي وقد أتيتكم بنية طيبة من تلقاء نفسي. . “
- – ” يا حبيبي هذه صفعة محبة صفعة أخوّة من باب العتب ليس أكثر، نحن لسنا هنا لنضرب الناس وإنما لنحميهم . . لنساعدهم . . “
- – ” لا . . ما هو واضح . . ” قال الرجل وهو يحكّ أثر الصفعة.
- – ” والآن . . ها أنا استمع . . ” قال الضابط ” تفضل . . غرّد . . “
- – ” حسناً ولكن على شرط ، تحضرون لي فلافل . . “
أوشك المقدم أن ينهض من كرسيه مجدداً عندما عاجله الرجل قائلاً :
- ” خلاص . . بلاش الفلافل.”
- ” طيّب . . تفضّل أسمعنا، أول سؤال ما اسمك؟”
- – ” ألن تسجّل اعترافاتي؟!” تساءل الرجل بعجب.
- – ” فيما بعد . . هيّا تكلم.”
- – ” حسناً . .” قال الرجل بتردد ” اسمي رشيد. . “
- – ” رشيد . . أيش؟”
- – ” كل البلد تعرفني، فقط قل رشيد والكل سيدلك عليّ.”
- – ” يا ابني . . يا أخي . . أنت في دائرة حكوميّة رسميّة ولست في الشارع ولا في سوق الخضار. اسمك الرباعي وخلّصني. . “
- – ” أيش يعني إسمك الرباعي؟” قال رشيد.
- – ” إسمك انت لا اسمي أنا ، اسمك، اسم أبيك، وجدك، وعائلتك الكريمة، إن كان لك عائلة.” قال المقدم بنفاد صبر.
- – ” لقد قلت لك اسمي وأمّا اسم أبي فهو أبو رشيد، والباقي لا أحفظه الآن خصوصاً بعد الصفعة التي صفعتني إياها، ثم هل تريد أن تناسبني؟”
ابتسم المقدم وهزّ رأسه بهدوء مصطنع، محاولاً إمساك أعصابه بصعوبة بادية ثم قال:
- ” حسناً لا بد أن معك بطاقة شخصية ، أعطني بطاقتك الشخصية.”
- ” وهل يحتاج الرجل إلى بطاقة في بلده؟! ثم كل البلد تعرفني.” قال رشيد باستغراب.
- – ” يا رشيد يا حبيبي . .ألست هنا لتعترف، هيا. . كلي آذان صاغية تفضّل أنا في أتم الاستعداد لسماعك ، غرّد . . “
- – ” نعم، أنا جئت أعترف أنني مع الواقفة . . أقصد القاعدة.”
- – ” حسناً، مع أية واقفة، أقصد مع أية قاعدة حضرتك؟”
- – “مع القاعدة التي في التلفزيون، طبعاً.”
- – ” مع القاعدة التي في التلفزيون؟!!” ردد المقدم ” في أي تلفزيون يا رشيد؟”
- – ” في كل التلفزيونات وفي الراديوات أيضاً.”
- – ” وفي الراديوات يا رشيد؟! لا بد أنه عمل مهم، حسناً وماذا تعمل القاعدة يا رشيد بالضبط هل تبث إشارات البثّ الكهرومغناطيسي. . “
ضحك رشيد فجأة بأعلى صوته واضعاً يده على صدره واستغرق في نوبة طويلة سعل على إثرها سعلات متقطعة ثم هدأ وقال:” هل أنت جاهل ، ألم تشاهد العمارات في “نيويورط.”
- ” تأدب أيها الصعلوك، أنا جاهل يا من لا يعرف اسم أبيه.” صاح المقدم بعدائية.
- ” يعني، هل هناك في هذا العالم كله من لم ير العمارات العالية وهي تسقط في نيويورط.”
- – ” قصدك نيويورك. طبعاً شاهدتها، ماذا عنها؟” سأل المقدم.
- – ” أنا معهم.” قال رشيد.
- – ” أنت تعمل في برج التجارة العالمي؟! ما شاء الله، وماذا تعمل خبير اقتصادي؟” قال المقدم بسخرية.
- – ” من هؤلاء؟ أنا مع الواقفة، أقصد مع القاعدة.”
- – ” آه تقصد أنك عضو في تنظيم القاعدة الذي فجر برجيّ التجارة العالمية في نيويورك، الآن فهمت.”
- – ” حمداً لله على السلامة، وماذا أقول لك من الصبح.” قال رشيد وأشاح بوجهه محتجاً.
تنحنح المقدم قليلاً ثم مسح شعره إلى الخلف ببطء، ووضع رجلاً على رجل ثم أشعل سيجارة جديدة وصمت لثوان، ضغط على الزّر الكهربائي فدخل المراسل من الباب:
- ” استدع أحد الشباب لنفتح محضر تحقيق.”
- ” حاضر سيدي، حالاً.” وأغلق الباب.
- – ” يعني سيدي ستحققون معي؟” سأل رشيد بسعادة.
- – ” بالطبع، أليس هذا ما تريد؟ ألا تريد أن تعترف؟”
- – ” وهل ستظهر صوري في التلفزيون والجرائد وكل مكان؟” سأل رشيد متحمساً.
صمت المقدم ونظر إلى رشيد نظرة جانبية وقد أمال رأسه كمن يريد التحقق من شيء ما، ثم قال:
- ” يا ابني نحن هنا مؤسسة أمنيّة . . أمنيّة . . لسنا سينما ولا تلفزيون، نحن هنا لنحافظ على أمن البلد، أتفهم؟ هل تسمعني جيداً؟ . . هل تفهم ما أقوله لك؟”
- ” لا يهم، المهم أنني سأظهر في التلفزيون.”
طُرق الباب طرقاً خفيفاً ثم فُتح ودخل شاب أسمر اللون خفيف البنية.
- ” احترامي سيدي، على أتم الاستعداد لتنفيذ الأوامر سيدي.” وأدّى التحية.
- ” إجلس وافتح محضراً بتاريخه وساعته. . “
- – ” مرحباً ” أبواصطيف”.” قال رشيد مخاطباً الشاب.
رفع الشاب عينيه ونظر تجاه رشيد ثم ابتسم ابتسامة خفيفة هازّاً رأسه.
- ” طيّب يا رشيد ، قلت لي أنك مع تنظيم القاعدة، متى كانت أول زيارة لك إلى أفغانستان؟” قال المقدم.
- ” أبغستان . . أبغستان . . ” ردد رشيد لنفسه ” الحقيقة يا سيدي أنا لم أذهب في حياتي إلى أبغستان ، أبعد بلد رحت إليه هو العاصمة، ولكن إن شاء الله سأذهب إلى أبغستان في المستقبل.”
- – ” لم تذهب إلى أفغانستان!” قال المقدم مخاطباً نفسه ” فكيف إذن تم تنظيمك؟”
- – ” في البلدية يا سيدي. . “
- – ” جميل . . في البلدية. . لماذا وهل فتحت البلدية فرعاً لتنظيم القاعدة؟!”
- – ” سيدي المقدم . . ” قال الشاب محاولاً التدخل.
- – ” ليس الآن يا مصطفى، سجّل كل كلمة تقال.” قال المقدم.
- – ” لكن سيدي . . حاضر سيدي.” رد مصطفى.
- – ” ولكن كيف تم تنظيمك في البلديّة؟” تابع أسئلته.
- – ” سيدي المقدم . . لو سمحت لي . . ” قال مصطفى محاولاً التدخّل.
- ” ليس الآن يا مصطفى . . ليس الآن . . “
صمت مصطفى وتابع عمله مرغماً.
- ” وكيف تم تنظيمك في البلدية يا رشيد؟” تابع المقدم سؤاله.
- ” الصحيح يا سيدي، أن أمي –رحمها الله- كانت مريضة ولم تكن تريد رؤية الطبيب، كانت تقول أن الله تعالى هو الطبيب . . “
- – ” وما دخل أمك بالبلدية يا رشيد؟” قال المقدم مقاطعاً.
- – ” لو لم تقاطعني يا سيدي لقلت لك. إن الله مع الصابرين، اصبر يا سيدي أصبر الصبر طيّب.”
- – ” حسناً . . أنا آسف يا رشيد، تفضّل تابع كلامك.”
- – ” قلت أن أمي رحمها الله كانت مريضة، فتركت العمل في مخبز أبي صالح المقابل للمسجد، كنت أعمل عتالاً أحمل الطحين، وكان أبو صالح الله يسامحه سيئاً معي ويقول أنني ضعيف وكسول ولا أصلح لشيء.”
نظر المقدم إلى جسم رشيد النحيل المتقوس وتعجّب في نفسه كيف يمكن لشخص بهذا الضعف أن يعمل عملاً من هذا النوع، وضع المقدم وجهه بين كفيه متكئاً على الطاولة وأخذ يتأمل وجه رشيد بعينيه الرماديتين الصغيرتين وهو يتكلم.
- ” وعندما تركت المخبز للعناية بأمي” تابع رشيد كلامه ” وجدها فرصة وطردني من العمل، ألله لا يسامحه. وبعد وفاة الوالدة رحمها الله، توسّط لي بعض أهل الخير لدى رئيس البلدية ، ومنذ ذلك الوقت وأنا في البلدية.”
- ” ممتاز يا رشيد، وماذا عملت في البلدية؟” سأل المقدم.
- – ” الحقيقة يا سيدي عملت كل شيء إلا رئيس بلدية. في قسم الأسواق ، في قسم المباني ، في مقسم الهاتف ، ثم المطعم وأخيراً وضعوني مع عمّال النظافة.”
- – ” يعني أنت زبّال.” قال الضابط مبتسماً.
- – ” احترم نفسك.” قال رشيد قافزاً عن الكرسي كمن لدغه عقرب “أنا عامل نظافة ، أتفهم؟ الشغل ليس عيباً، أنا آكل لقمتي بعرق جبيني . . ” كان رشيد يصرخ بعصبية فحاول مصطفى تهدئته وأجلسه على كرسيه مرة أخرى.
- – ” أنت أيها الصعلوك من تظن نفسك، ألا تعرف مع من تتكلم؟” قال المقدم.
- – ” لا يهم، المهم أنني عامل نظافة ولست زبالاً.” قال رشيد بغيظ مكظوم وهو يشيح بوجهه إلى الجهة الأخرى.
- – ” سيدي . . سيدي . . لو سمحت لي . . ” قال مصطفى.
- – ” كفى يا مصطفى ولا تحاول التدخل مرة أخرى، مفهوم دعني أتعامل معه على طريقتي.” أسكت المقدم مصطفى الذي لم يجد بداً من الصمت، ثم وجه كلامه إلى رشيد قائلاً:
- – ” وأنت، إياك وقلة الأدب، أفهمت؟ لنتابع التحقيق.” قال مخاطباً رشيد الذي ظل صامتاً بغضب ” المهم أنت تعمل في البلدية، جيد . . ممتاز . . وكيف صرت في تنظيم القاعدة؟”
- – ” ولكنني لست في تنظيم القاعدة.” قال رشيد.
صفق المقدم الطاولة بعنف ونهض عن كرسيه صائحاً:
- ” إذن ما الذي كنّا نفعله منذ الصباح؟”
- ” يا سيدي أنا قلت أنا مع تنظيم القاعدة ، لا أنني أعمل مع تنظيم القاعدة.” قال رشيد محاولاً التوضيح.
- – ” سيدي لو سمحت لي . . ” حاول مصطفى التدخل من جديد.
- ” إياك أن تنطق بكلمة واحدة هذا المجنون وحده يكفيني . . “صرخ المقدم بوجه مصطفى.
- – ” يا سيدي . . يا سيدي. . ” حاول رشيد جذب انتباه المقدم ” أنا لدي كل المواصفات لأكون من تنظيم الواقفة، أقصد القاعدة. المسألة بالعقل، ألا يكرهون أمريكا وإسرائيل؟ وأنا أيضاً أكرههما، ألا يصلون ويصومون، وأنا كذلك أصلي وأصوم، حتى يمكنك أن تسأل إمام الجامع. وإن كان الأمر بطول اللحية فأنا منذ يومين لم أحلق لحيتي، وخلال أسبوع واحد، واحد فقط لا غير ستراها قد وصلت إلى سرّتي، لذلك خذوني إلى سجن ” قومناناموا” ولبسوني الطقم البرتقالي وخلّصوني . . “
ضرب المقدم جبهته بكفه ثم قال مخاطباً مصطفى:
- ” أتصل . . أتصل لي برئيس البلدية، سأرى حقيقة هذه المهزلة . . “
- ” سيدي، رئيس البلدية معك على الخط.” قال مصطفى وسمّاعة الهاتف بيده.
- – ” حسناً، أفتح السمّاعة الخارجيّة.”
- – ” مرحباً عطوفة الرئيس.” حيّا المقدم رئيس البلدية.
- – ” أهلاً سيادة المساعد . . هل من خدمة أؤديها لك؟” رد رئيس البلدية، فتردّد الصوت في أرجاء الغرفة.
- – ” الحقيقة لدى شخص هنا يقول أنه يعمل زبّال لديكم، أقصد عامل نظافة . . “
- – ” مرحباً سيدي . . ” قال رشيد مخاطباً الرئيس وقد تكور على سمّاعة الهاتف الخارجية مبتسماً بعجب”أنا رشيد . . هل تسمعني؟ أنا أسمعك جيداً . . “
- – ” من هذا الذي يتكلم؟”جاء صوت الرئيس عبر السمّاعة.
- – ” هذا الذي أسألك عنه يا عطوفة الرئيس، يقول أن اسمه رشيد.”
- – ” رشيد؟ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ماذا فعل هذه المرة؟ نعم إنه يعمل لدينا.”
- – ” لا شيء على الإطلاق إنه يقول أنه مع تنظيم الواقفة، أعني القاعدة ، أقصد يريد أن يصبح عضو في تنظيم القاعدة.”
- – ” عضو في أيش؟ هذه نتيجة صبري عليك يا رشيد الشؤم، كان عليّ أن أطردك منذ أول يوم رأيت فيه وجهك، لكنني كنت أقول لنفسي “حرام، مسكين وفقير أعطه فرصة أخرى” لكنك لم تترك أحداً في البلدية أو في الأسواق أو من المواطنين إلا وتورّطت معه في مشكلة، أمّا أن تصل بك أن تورّطنا مع أمريكا، يا عمي نحن لسنا نداً لأمريكا. . عليّ الطلاق بالثلاث لو جاء…………… بنفسه شخصيّاً ليتوسط لك ما أعدتك إلى البلدية.”
- – ” الله لا يوفقك يا سيدي.” غمغم رشيد.
- – ” عطوفة الرئيس.” جاء صوت المقدم بحزم” أرجو أن تحفظ لسانك، وأرجو أن تتذكر أنك تتكلم مع رجل أمن، وإطالة اللسان تقع تحت طائلة العقوبة.”
- – ” آسف يا سيدي . . . والله آسف، لقد أفقدني هذا المعتوه صوابي، إسمع يا رشيد.” جاء صوت رئيس البلدية عبر مكبر الصوت.
- – ” حاضر سيدي.” قال رشيد وقد تكور على السماعة من جديد.
- – ” إذا رجعت إلى البلدية فسأكسر رجليك ويديك هل سمعتني؟” قال الرئيس بحدّة.
- – ” رح الله لا يوفقك، يا مرتشي يا نسوانجي. .” رد رشيد مبتعداً عن السمّاعة وجلس في كرسيه.
- – ” حسناً . . حسناً . . عطوفة الرئيس . . لا تقلق نحن سنتولى الأمر من عندنا . . ” قال المقدم محاولاً إنهاء الحوار بسرعة” مع السلامة . . مع السلامة . . ” وأغلق السماّعة وصوت الرئيس مازال يأتي هادراً بالشتائم عبر الأسلاك.
- – ” سيدي . . سيدي لازم تسمعني . . ” قال مصطفى وقد أمسك بساعد المقدم راجيّاً ومتوسّلاً.
نظر المقدم في عيني مصطفى قليلاً ثم قال:
- ” تفضل يا سيدي . . تفضل . . لن نخسر شيئاً بسماعك الآن يا سيد مصطفى. . تفضل . . “
- ” سيدي، مع احترامي لو استمعت إليّ منذ البداية لوفّرت عليك كل هذا التعب.”
- – ” وكيف ذلك يا سيد مصطفى، نوّرنا؟” بنبرة ساخرة.
- – ” أنا أعرف رشيد جيداً . . الحقيقة كل أهل البلد يعرفون رشيد جيداً . . “
- – ” تقصد كل أهل البلد ما عدا أنا.”
- – ” هذا طبيعي يا سيدي لأنك نقلت إلى مدينتنا حديثاً.”
- – ” أسمعت يا سيدي، كل البلد تعرفني.”قال رشيد منتصراً.
نظر المقدم إلى رشيد ثم إلى مصطفى وسأل :
- ” وماذا تعرف عنه أيضاً؟”
- ” رشيد يا سيدي هكذا هو ، الذي في قلبه على لسانه ، رجل على باب الله ، كل الناس تحبه لأنه صادق وتكره لنفس السبب. إنه لا يؤذي أحداً، صحيح يا رشيد؟” وجّه مصطفى سؤاله إلى رشيد.
- – ” إذن ما حكاية تنظيم القاعدة هذه؟” سأل المقدم
ضحك مصطفى وتوجه بالسؤال إلى رشيد من جديد:
- ” رشيد، متى آخر مرة قابلت فيها “ابن لادن”؟”
- ” أبو لادن . . أبو لادن . . ” قال رشيد مفكّراً ” نعم أنا أعرف أبو لادن أتظن أنني لا أعرف أبو لادن، آخر مرة قابلته فيها في مقهى أبي صالح ، الجمعة الماضية . .”
- – ” وهل يأتي إبن لادن إلى مقهى أبي صالح؟ لعلك تقصد المسجد؟”
- – ” وهل يوجد تلفزيون في المسجد يا رجل؟ قابلته على قناة الجزيرة في تلفزيون أبي صالح في المقهى.”
- – ” ممتاز . . ممتاز . . يعني أنت لم تره وجهاً لوجه؟”
- – ” بلى كان وجهه أمام وجهي، حتى أن أبا صالح طلب مني أن أبعد وجهي عن شاشة التلفزيون كي يستطيع الجميع رؤيته.”
- – “أقصد أنك لم تره في غير التلفزيون.”
- – ” لا، رأيته في الصحيفة أيضاً.”
- – ” خلاص . . خلاص . . إنتهى . . إنتهى . . ” قال المقدم بنفاد صبر ” أغلق محضر التحقيق وأحضر فلافل لرشيد كي يأكل.”
- – ” شكراً لك يا سيدي ، الله يطوّل عمرك، طول عمري وأنا أقول أنّكم لستم كما يقول الناس عنكم.” دعا رشيد من أعماق قلبه.
- – ” أتعرف يا رشيد” قال المقدم وقد خلا برشيد في الغرفة ” نحن مظلومون كثيراً، الناس تظلمنا. أنا مثلاً، خذني كمثال، عندي غداً محاضرة عن الديمقراطية لطلاب الجامعة. صدقني لقد تعبت في تحضيرها تعباً لا يعلمه إلا الله. منذ الصباح الباكر لم استطع كتابة سطر واحد.” وأشار المقدم إلى الورقة البيضاء حيث أوشكت كلمة الديمقراطية أن تختفي تحت خطوطه السوداء في آخر سؤال يقول” ما هي الديمقراطية؟”
- – ” الله يعطيك العافية يا سيدي.”
- – ” بالمناسبة يا رشيد، يقولون أنكم، أعني أنت وأمثالك مكشوف عنكم الحجاب، هل تستطيع أن تقول لي ما هي الديمقراطيّة؟”
- – ” الحقيقة يا سيدي، لم أسمع بها ولم أرها في حياتي، صدقني.”