20 نوفمبر، 2024
الانتـحـار . .
الرئيسية » الانتـحـار . .

الانتـحـار . .

تمتد الصحراء بغبارها ووهجها كمرآة مصقولة وضعت في عين الشمس لتعكس حرّها وحدتها فتخطف الأبصار . السيّارة تسير ببطء وأحياناً بسرعة في صعود ونزول جارفة الرمل تحت عجلاتها ليتحول إلى زوبعة لولبية تطاردنا كشبح يطارد قزماً تافهاً.

ما زلت أذكر عنوان الجريدة والصورة ، قفص كبير كالذي توضع فيه القرود يقبع بداخله شخص عجيب المنظر بشعره المنتشر كشجيرة صحراوية ولحية كثة متشعبة مخيفة ومضحكة ، يمسك بالقضبان وينظر إلى اللاشيء. مكتوب تحت الصورة ،”رجل الكهف ، اصطاده صيادون أثناء رحلة في الصحراء.”

في مساء ذلك اليوم اتصل بنا ضابط من حرس الحدود وطلبوا منّا إرسال سيارة “جيب” لاستلام رجل الكهف ، كانت فكرة مثيرة أن تتولى مديريتنا التحقيق في هذه القضية ، لذا أصررت على المشاركة بنفسي باستلام “رجل الكهف” إنه لشيء رائع أن أشارك في هذا الحدث الغريب ، أستطيع أن أحدث عنه أصدقائي لعمر بأكمله ليعرفوا كم هي مثيرة وخطيرة حياة رجال الأمن.

وصلنا إلى مبنى ” حرس الحدود” المركزي في ساعة متأخرة من الليل ، اجتازت سياراتنا نقاط التفتيش واصطفت أمام بوابة حديدية سوداء كبيرة يقف على بابها عسكري بسلاح رشاش.

فتحت البوابة وكان القفص بانتظارنا ، نزلت من السيارة الأمامية ودرت حول القفص وضوء المصابيح الكشّافة يغمر الموقع ، نظرت إلى الرجل محاولا التعرف على ملامحه ، نظر إلي الرجل نظرة مباشرة كان ضئيل الجسم متكوراً بشك اختزل حجمه إلى الربع ، شعر هائج خالطه البياض ، وعينان زجاجيتان. وقفت أمامه تماماً وكلمته ولكنه لم يجب ، لوحت بيدي أمام عينيه ، لم يبد أية حركة ، صرحت به ، بلا فائدة.

مدّ ضابط من حرس الحدود ملفاً بيده تجاهي ، التقطته ، فتحته ، قرأت قليلاً ثم قلت :” افتحوا هذا القفص ” تلكأ الحرّاس قليلاً ثم فتحوه ببطء مددت يدي وسحب الرجل فلم يبد أية مقاومة ، وقف على رجليه والتفت يمنة ويسرة ، ثم استدار إلى الأنوار وتأملها فجمد على حاله مددت يدي وجررته إلى السيارة التي كنت أجلس فيها ، كانت تفوح منه رائحة كريهة تبعث على التقيؤ ، أجلست وأخذت أختلس النظرات إليه وهو يحدق بالأنوار طوال الطريق حتى وصلنا إلى مركزنا.

أنزلناه في المركز ووضعناه في زنزانة منفردة ثم انصرفنا إلى غرفة المدير:

  • أريدكم أن تنشروا له صورة في الصحف المحلية عسى أن يتعرف عليه أحد.”
  • ” نعم سيدي.”

في اليوم التالي كانت صوره في جميع الصحف المحلية ، كُتب تحتها “مطلوب ممن يعرف صاحب هذه الصورة الاتصال بمركز شرطة العاصمة حالاً.”

مضت الأيام ورجل الكهف لا يأكل مطلقاً إلا أن يشرب شيئاً قليلاً من الماء ، أصبحت حالته تسوء يوماً بعد يوم ، كان المدير يحضره يومياً للتحقيق ولكن لا يخرج منه بكلمة واحدة ، كان صامت كالقبر.

  • ” سيدي لدي فكرة.” قلت ” لم لا نحلق له شعره ونجعله يستحم لعل الناس لا يستطيعون التعرف عليه بسبب تغير ملامحه ، ثم إن رائحته تزكم الأنوف.”
  • ” فكرة معقولة . . فكرة جيدة . . نفّذ حالاً.”

بعد الحمام والحلاقة صار رجل الكهف إنساناً كبقية الناس ، شارب دقيق وشعر أشيب وعيون حائرة.

في صباح اليوم التالي كانت صورة الجديدة تحتل مكاناً بارزاً في الصحف ، أصبح رجل الكهف كما كان يحلو للصحافة أن تسميه موضوع الساعة ولم تبق جريدة أو مجلة أو مجلس أو ديوان إلا وتناول قصته ، وصار الجميع ينسج الأقاصيص حوله. يبدو ان الصورة التي نشرت له أثارت خيال الكثيرين فأخذت تنهال على المديرية عشرات المكالمات الهاتفية. وتسرد قصص عجيبة غريبة وتعطي أسماء مختلفة وعشرات من الناس كانوا يأتون لرؤيته ، يحدقون بوجهه يسألونه فلا يرفع ولا يجيب ، ولست أدري أكان يأتون للتعرف عليه حقاً أم كانوا يأتون لمشاهدته كمن يشاهد حيواناً نادراً في حديقة الحيوانات.

بدأت الحيرة تأكل نفوسنا ونحن نرى الرجل يتآكل أمام أعيننا يوماً بعد يوم ، فهو ممتنع عن الأكل ويزداد شروداً كلما مضت الأيام ، أشفقت على حاله ، فأمرت أن يفتح له القفص فأخذ يركض في ساحة المديرية وحاول أن يتسلق السور المرتفع فأخذنا نركض وراءه حتى أمسكنا به وأعدناه إلى القفص.

  • ” لا أدري ماذا أفعل به ، أليس بشراً ، فلماذا إذن نحتجزه كحيوان ؟! ” قلت منفعلاً.
  • ” يمكن أن نتصل بالمستشفى.” قال أحدهم ، ” وماذا ستفعل له المستشفى ؟ ” سألت.
  • –      ” يمكن أن يعاينونه ، أو يعطوه شيئاً يحافظ على قوته حتى نعرف من هو.”
  • –      ” فكرة حسنة.” أيدته ، وفي مساء ذلك اليوم كان رجل الكهف مربوطاً على سرير في المستشفى الحكومي ومجموعة من الأطباء يقومون بفحصه.
  • –      ” كم عمر هذا الرجل ، أيها الطبيب ؟ ” سألت.
  • –      ” لست متأكداً ، في نهاية الستين أو ربما في بداية السبعين.”
  • –      ” لا بد أنك تمزح ، لقد كنت أظنه . . ربما في نهاية الأربعين أو على الأكثر . . في بداية الخمسين.”
  • –      ” أنا لا أعرف عمره بالضبط ولكن كما قلت لك هو في نهاية الستين على الأقل.”

نظرت إلى الرجل وقد تملكني العجب ، وتأملت جسده الخفيف وشعره الأشيب ، ” عجيب أمر هذا الرجل ! “

  • ” دكتور ، هل يعاني من أية أمراض ؟ أعني . . هذا الرجل لم يأكل منذ عدة أيام .”
  • ” لا . . لا . . على الإطلاق ، على العكس فأنا لم أر طوال حياتي المهنية رجل في مثل سنه بمثل صحته وقوته . “
  • –      ” والطعام يا دكتور ، ماذا نفعل بمشكلة عدم الأكل ؟ “
  • –      ” لا أدري كل ما أعرفه أن هذا الرجل الذي أمامي لا يعاني من مرض عضوي على الإطلاق . أقترح أن تعرضوه على طبيب نفسي . “

وهذا ما كان فبعد وقت قصير كانت مجموعة من الأطباء النفسيين يحوطون الرجل ، وكل منهم يضع كفه على ذقنه مستغرقاً في بحر عميق من الأفكار.

  • ” إذن ما حكاية هذا الرجل بالضبط ؟ ” سألت وقد أغاظني صمتهم.
  • ” هذا الرجل يتمتع بحواس سليمة دون شك ، فهو يسمع ويرى ويدرك ، لكنه في حالة عزلة ذاتيّة.” قال كبيرهم.
  • –      ” أوافقك تماماً ، لا بد أنه تعرض لأزمة نفسية رهيبة جعلته ينكفئ على ذاته ، فالاختبارات التي أجرينها له قبل قليل تؤكد ذلك.” قال آخر.
  • –      ” لكن كم له على هذه الحال ؟ “
  • –      ” لا نعرف تماماً ، لكن يبدو أنها لم تكن مدة قصيرة ، ربما سنوات أو عشرات السنوات . “
  • –      ” لكن . . هل يعني هذا أنه مجنون ؟ “
  • –      ” لا لا . . إنه مصاب بحالة نفسية لا غير . “
  • –      ” والطعام ، ماذا عن الطعام ؟ “
  • –      ” لا مشكلة بالطعام ، يجب أن تعلم أن الشخص المصاب بمثل هذه الحالة لا يقيم وزناً لأي شيء مادي ، مما يعني أن الطعام ليس بالشيء المهم بالنسبة إليه ، كل ما عليكم فعله هو وضع الطعام الذي اعتاد عليه بين يديه ، وفي النهاية أعتقد أنه سيأكل عندما يشعر بالرغبة في ذلك . “

عند عودتنا مساء إلى المديرية أمرت بإفراغ غرفة من الأثاث وحجزه فيها ووضع شيء من الفاكهة أمامه. في صباح اليوم التالي أسرعنا بالذهاب إليه لنتأكد من تناول الطعام .وكم كانت مفاجأتنا عظيمة عندما وجدنا بعض النوى على الأرض ، صارت المديرية كلها تتحدث عن الموضوع حتى أن صحيفة يومية اتصلت بنا لتتأكد من صحة الخبر.

أناس كثيرون كانوا يحاولون التعرف على رجل الكهف ليتأكدوا بأنه حقيقة لا خرافة ، وأناس كثيرون اتصلوا بنا مدعين بأنهم أقارب الرجل وتم تحديد مواعيد الزيارة لهم ، لكنهم جميعهم كان في النهاية ينفون معرفتهم به.

أصبح الموضوع كبيراً أكثر مما يحتمل ، وأخذ يسبّب لنا حرجاً عظيماً حتى أن شخصيات كبيرة في الدولة كانت تتصل بنا لتتأكد من صحة القصة وضرورة معرفة حقيقة الرجل بالسرعة القصوى ، بل إن أجهزة أمن أخرى أتت وحققت ووعدت أن ترد قريباً ، إلا أنّ الأمر سرعان ما كان يصطدم بصخرة المجهول.

في صباح يوم جمعة اتصلوا بي من المديرية في المنزل ” تعال الأمر ضروري . . ” عند وصولي إلى الشارع الذي تقع فيه المديرية رأيت العديد من أفراد الأمن الخاص وسيارات عسكرية ينتشرون على طول الطريق ، وعند وصولي البوابة رأيت ضابطاً بانتظاري مع مجموعة من الزملاء ، وحشد من رجال الأجهزة الأمنية الأخرى.

  • ” بسرعة . . فخامة الرئيس قادم للتفقد . . ” قال الضابط.

عند مغادرة الرئيس كان قد أكد على ضرورة حل مشكلة رجل الكهف بالسرعة القصوى والتعامل معها كقضية أمن قومي ، وعدم ترك المجال للصحافة وأحزاب المعارضة لاستغلالها وتشويه صورة البلد والحكومة.

ضاعفنا جهودنا في الموضوع فوزعنا أوراقاً تحمل صورته على الناس وألصقناها في الأماكن العامة ونشرت الجرائد صوره يومياً ، وصار رجل الكهف همنا الأول والأخير.

وأخيراً صرنا لا ننام الليل ولا نعرف طعماً لطعام وتملكتنا عصبية مخيفة ، وأصابنا القلق المفرط حتى لم يعد تفكيرنا يستطيع الخروج من إسار قضية رجل الكهف ، فكان أي كلام في غير قضيته كفراً لا يحتمل وجهلاً لا يطاق ، ولكننا اكتشفنا مع مرور الوقت أن إثارة القضية أخذت تخبو شيئاً فشيئاً ، وتناول الصحافة يقل تدريجيّاً ، ثم اختفت عن الصفحات الأولى إلى الصفحات الداخلية ، ثم أصبحت قليلة الذكر ، ثم اختفت نهائياً.

وفي يوم وصل الإعياء بنا ذروته ونحن نرى رجل الكهف يهزل مع مرور الأيام ويذوب رويداً رويداً ، ” يجب أن نفعل شيئاً ما .” صحت قائلاً ” هذا الرجل يموت بين أيدينا ، لن آخذ الأمر على عاتقي ، سأتصل بالمدير . . “

رفعت السماعة وتحدثت إلى المدير :

” سيدي ، هذا الرجل مجنون مجرد مجنون عادي أقسم على ذلك ، هناك الآلاف منه في كل مكان ، صدقني.

أجل لقد شخّصنا حالته وسيكون الملف على مكتب سيادتكم غداً صباحاً . . .

لا لا ، إنه يموت.

رأيي ألا نتحمل مسؤولية ذلك.

نعم هناك حل بسيط أن نرجعه حتى تم العثور عليه أول مرة.

 في صباح اليوم التالي رافقنا الرجل إلى مبنى حرس الحدود وخرجنا في دورية مشتركة نشق أديم الصحراء في رحلة استغرقت ساعات طويلة ، وعندما جلسنا لنستريح في ظل شجرة ، وعندما هدأ الغبار كان رجل الكهف قد قفز من السيّارة واختفى في الصحراء.”

Share:FacebookX
Join the discussion