الحر الشديد والرطوبة الخانقة ، شيئان لم يعتدهما شخص مثلي ممن تربوا في بلاد الإعتدال سمتها ، و”دلهي” مدينة من تلك المدن التي يتركز فيها مزيج غريب من الرطوبة والحر والدخان ، تجد آثاره واضحة في كل شيء ، الناس ، المباني ، الأشجار ، الشوارع ، مزيج ينفث نفساً قوياً من الكسل والتراخي واللزوجة . الأشياء جميعها تبدو مختلفة في هذه المدينة ، السماء الحمراء ، المباني القديمة الشاحبة ، الأشجار التي تتدلى أغصانها بارتخاء غريب ،متعبةً منهكةً مهدودة ، الناس الذين يقبعون في الظل بإنتظار الحافلات الأثرية ، والتي تأتي بعد طول إنتظار تجر نفسها جرّاً محشوة حتى آخر نفس بالركاب ، فيسارع الواقفون إلى إقحام أنفسهم فيها لتعود تجر نفسها من جديد ،.ورغم إتساع الشوارع وكثرة الأشجار على جانبيها إلا أنها غير مريحة لا أدري لماذا ، ربما لتكاثف طبقات الدخان الذي يظهر كغلالات رقيقة معلقة في الجو ، وإنعكاس حمرة السماء في الأفق ، جو يدعو إلىالخدر ، إلى الإسترخاء ، إلى النوم . . .
شهر واحد في السنة خلاصتها هذا ما كنت أقوله لنفسي ، لو أعود يوماً من الأيام إليها سائحاً فلن يكون إلا في هذا الشهر ، فيصل بين شتاءها الضبابي القارس ، وصيفها الحر الرطب . ولكن الآن وقد حكم علي بالبقاء هاهنا ، أظن أن علي الهرب بأسرع ما يمكن إلى “مدينتي” والتي تبعد مسافة أثنتان وعشرين ساعة في القطار عن دلهي .المسافات هنا تحسب بالساعات والأيام ، إذ لا إعتبار للأمتار في هذا “العالم” ، الإتساع هاهنا هو السمة الغالبة ، إتساع المكان ، إتساع الزمان ، إتساع الإنسان ، إتساع ما هو كائن وما سيكون وما قد كان .والآن وقد قررت الرجوع لا بد من الحصول على تذكرة قطار بأسرع ما يمكن ، توجهت إلى مكتب الحجوزات وهو عبارة عن بناية بجانب المحطة الجديدة حيث كان آلاف من الناس يصطفون في صفوف طويلة أمام شباك زجاجي صغير ولوحة إلكترونية ، وفوق الشباك كتبت أرقام القطارات ومواعيدها واسماء الخطوط التي تخدمها ، ولوحة صغيرة كتب عليها بالإنجليزية :” آسفون الكمبيوتر معطل ” . يمتاز جو قاعة الحجوزات بخصوصية فريدة من نوعها ، فرغم أنه بارد جداً بسبب التكيف المركزي ، وهي نعمة لا تقدر بثمن في دلهي ، إلا أن هناك مزيج غريب من الروائح المختلفة ، حيث تتجمع روائح زيوت الشعر بأنواعها بروائح البودرة والعطور النسائية مع التبغ الممضوغ ورائحة “البان” النفّاذة ، إضافة إلى روائح كريهة مجهولةالمصدر . المقاعد الخشبية مرصوصة بالقاعدين ، والبعض يفترش الأرض ، ومجموعات من الواقفين المتكئين إلى الجدران في حلقات يناقشون مواضيع مختلفة يضحكون تارة ، ويتعجبون أخرى ، ينظرون في المجلات والجرائد التي بين أيديهم ويغمزون بعضهم البعض غمزات ذات معنى .
أين أقف في هذا البحر المتلاطم من البشر شعور باليأس والإحباط يراود المرء وهو ينظر إلى هذه الصفوف التي لا تتحرك ، بحث عن جزء فارغ من الجدار وأسندت ظهري إليه أتأمل وأفكر ومضت نصف ساعة و.الحال على حاله . مر العديد من الأشخاص من أمامي يسألونني إن كنت أريد تذكرة “من تحت الطاولة” على حد تعبيرهم ولكن وقوعي من قبل فريسة للمتعاملين في “السوق السوداء” جعل عروضهم لا تير إهتمامي ، ولحسن الحظ وجدت في محفظتي بعض الدولارات والتي تكفي ثمناً لتذكرة ، فتركت مبنى الحجوزات هذا الإنجاز الهندي الحضاري الضخم على الطريقة الهندية ، وتوجهت إلى المحطة وبالتحديد إلى مكتب في الطابق الثاني كتب على بابه “حجوزات الأجانب والسائحين” . دخلت الغرفة الكبيرة فوجدت الكثير من الأجانب بشعورهم الشقراء الطويلة وسراويلهم الممزقة والقصيرة جداً ، وحقائبهم الصغيرة المحشوة عن آخرها . كان مجرد دخولي إلى الغرفة سبباً لحلول هدوء مفاجئ ، ما لبث أن تبدد من جديد . كان بعض الموظفين يجلسون على طاولات خشبية .منخفضة وامامهم مجلات سياحية قديمة الإصدارثقبت من زواياها إلى طرف الطاولة بخيط غليظ خشية سرقتها ، أما الأجانب الحاضرين فقد كانوا ينظرون إلى خرائطهم الخاصة ويتصفحون كتب إرشادية عن المناطق السياحية في الهند ويتحدثون بأريحية وهم يعبثون بآلات تصوير متطورة ويريوها لبعضهم البعض . جلست في صف قصير بإنتظار وصول الدور الذي سرعان ما وصلني بالفعل فوجدت نفسي أمام إمرأة في الثلاثين من العمر تضع على جبهتها طبعة حمراء مستديرة صغيرة ، وخطاً أحمر قاني في مفرق رأسها ، وتلف جسدها بثوب رقيق يسمى “ساري” بينما يكشف كرشها بطريقة مقززة ..
-” نعم ، كيف لي أن أساعدك ” سألتني على الفور .
-” نعم ، كيف لي أن أساعدك ” سألتني على الفور .
-” الحقيقة . . أريد تذكرة إلى “بنغلور” ” قلت وقد أخذتني على حين غرة .
-” أنت أيراني أو أفغاني على ما أظن ، ألست كذلك ؟ إني أميّز بين الناس ، لقد أمضيت فترة طويلة في هذا المكتب . . ” قالت دون مقدمات .
لم أحبب أن أخيب ظنها فسكت ودفعت إليها بجواز سفري لإجراء المعاملة ، فأحرجت لخيبة توقعاتها ولكنها حاولت إخفاء ذلك ، وخلال فترة بسيطة كنت قد دفعت الدولارات وحصلت على التذكرة بسهولة لم أكن أتوقعها .
وفي المساء في حوالي الساعة السابعة كنت أحمل حقيبتي واقفاً على الرصيف رقم (6) أتأمل السكة الحديدية السوداء بما تحمله من أقذار تسرح وتمرح بين قضبانها الجرذان ، وعلى الرصيف أكوام من الحقائب والصناديق الحديدية رتبت على شكل أهرام ، وأكشاك الجرائد والمرطبات بأنواعها ، وأكياس كثيرة تعرقل حركة مئات البشر الماشين جيئة وذهاباً بهدف وبدون هدف ، أفراداً وجماعات ذكوراً وإناثاً من كل الأعمار والألوان واللغات والهيئات والأديان ، لم يطل إنتظاري لحسن الحظ ، حيث وصل القطار إلى المحطة قادماً من أول الرصيف ونزل منه آلاف الناس يتدافعون بينهم وهجم عشرات الحمالين من ذوي الملابس الحمراء وقطعة النحاس المربوطة على الذراع لإلتقاط زبائنهم مدهش أن تكتشف كم هي قادرة هذه الأجسام النحيلة على الحمل والتحمل .وبعد قليل من الوقت عادت الحال إلى سابق عهدها غير أن القطار كان قابعاً هناك على السكة مفتّحة أبوابه يخرج ويدخل منها عمال النظافة الذين يحاولون إنهاء مهمتهم قبل سير القطار مرة أخرى .وما لبث أن جاء المفتشون وبأيديهم قوائم طويلة جداً من الأسماء التي طبعت على أجهزة الكمبيوتر وقد تجمهر حولهم الكثير من الناس يحاولون رشوتهم للحصول على سرير أو مقعد لكنهم يتجاهلونهم بأنفة وازدراء ، ويمضون نحو العربات ليلصقوا عليها من الخارج القوائم التي تحوي أسماء الركاب لكل عربة وأرقام أسرتهم أو مقاعدهم ونوع التذكرة والإتجاه إلى آخره من معلومات .كانت دقائق عصيبة حاولت أن أعثر على اسمي في جميع القوائم إلا أن محاولاتي باءت بالفشل ومضى الوقت سريعاً واقترب موعد الإنطلاق ، فوقفت محتاراً على الرصيف يتدافعني الناس في طريقهم من جميع الإتجاهات وقلت لنفسي لا بد أن أعثر على إسمي إذا بحثت عنه بين الأسماء التي ستنزل في المدينة التي أقصدها سألت قليلاً وعرفت أن القاطرةالتي أريد قريبة جداً فسارعت إلى قائمة الأسماء وبحثت عن طريق عمر الراكب وجنسه على ما يطابق حالتي فوجدت أسمي يتربع بكل تحد وكبرياء على أرضية القائمة البيضاء غير أن أحرفه أصابتها هزة أرضية أو كمبيوترية فلم أستطع أن أتعرف عليه بسهوله في المرة الأولى .
حملت أمتعتي بسرعة وقذفتها داخل العربة وبحثت عن رقم المقعد فوجدته سريعاً وبعد لحظات كان القطار يطلق صافرته مؤذن بالتحرك ، وبعد عدة صفرات طويلة متقطعة سحب نفسه متحركاً ببطء خارج المحطة بينما مئات من الناس الواقفين على الرصيف وداخله يلوحون بأيديهم لبعضهم البعض . جلست على السرير-المقعد وهو عبارة عن مقعد طويل يتسع لأربعة أشخاص جلوساً وعند النوم يتحول إلى سرير لشخص واحد .جلست عليه وهو في مركز يطل على مقصورتين مفتوحتين دون أبواب بحيث يمكنني أن أشاهد من في المقصورتين بكل سهولة وهم كذلك ، وتتسع كل مقصورة لستة أسرة على شكل ثلاث طبقات عن اليمين وأخرى مثلها عن اليسار ، الطابق الأول يستعمل للجلوس في النهار ، والطابق الثاني يشكل ظهر المقعد وينصب في الليل فيتحول الى سرير للنوم ، والثالث مرتفع ويصعد إليه بسلم جانبي .
تحرك القطار وشعرت براحة كبيرة وأنا أستقر على مقعدي بعد طول تفتيش غير مصدق بأني “أنا” ولا أحد غيري أمتلك هذا المقعد لي وحدي دون كل هؤلاء الناس ، لم أكن أصدق أنني هنا بعد أن كنت مهدداً بالبقاء في هذه المدينة ، أمر لم أكن أتصوره أن أبقى في “دلهي” لفترة أخرى لأعود إلى دوامة البحث عن تذكرة والإنتظار من جديد .
كانت “دلهي” تجهز نفسها لإستقبال الليل حيث إنبعث دخان أبيض كثيف من المباني الطينية المنخفضة المحاذية للسكة والتي يستعمل سكانها روث البقر المجفف كوقود وحيد للطبخ والتدفئة في فصل الشتاء ، تستند هذه المباني الطينية الواطئة إلى أسوار عمارات عالية وقصور بيضاء متسعة تحتوي حدائقها على برك سباحة وملاعب التنس الأرضي المضاءة بالمصابيح الكهربائية ، ويمكن للجالس في القطار أن يشاهداللاعبين يركضون وراء كراتهم البيضاء الصغيرة ، فيما إمرأة عجوز نحيلة خلف السور تحاول إيقاد تنورها بالنفخ المستمر داخله . بدأ الليل يفرش رداءه تدريجياً على المدينة وأمست أنوارها أكثر توهجاً ، وما زال القطار يسير بنا داخل “دلهي” حتى وصلنا إلى محطة “نظام الدين” فوقف ليلتقط الركاب والبضائع . “نظام الدين” هي منطقة قديمة جديدة تحوي الكثير من الأثار الإسلامية الجميلة وفيها مقام الشيخ “نظام الدين” المصلح والداعية الشهير في بلاد الهند ، وكذا مركز “جماعة التبليغ” في العالم ، وفيها قسم جديد يضم مبان جميلة على الطراز الحديث ، وفي هذا القسم تقع المحطة .
دلف إلى العبة مجموعة من الرجال يحملون الكثير من الحقائب الكبيرة يتبعهم حمّال مغمور بكم هائل من الحقائب الصغيرة ومجموعة من الفرشات فوق رأسه ، صوت مرتفع قادم من الخارج يقرع الرجال :” أيها الملاعين يا أبناء العاهرات ، أخرتمونا عن الركوب في هذا النعش في محطة “نيودلهي” وتريدون أن تبقونا في كوم القمامة هذا ، هزوا آلياتكم يا عبيد البقر قبل أن يتحرك هذا القطار اللعين . . ” . ظهر رجل منتفخ البطن يضع تحت إبطيه مجموعة من الزجاجات الخضراء ، ينحدر العرق من جبينه الأسمر وقد بلل لباسه التقليدي الأبيض يلهث بصوت مرتفع ويطلق الشتائم المقذعة بكل اللغات ، ولم يكد يصل إلى المقصورة التي تقع على يميني حتى رمى نفسه على المقعد بكل ثقله وإلتقت عيناي بعينيه فابتسم محيياً ثم أسند ظهره إلى المسند يلتقط أنفاسه بينما إحتل الرجال أماكنهم وفرشوا الفراش الذي يحملون علىالمقاعد وبدت على محياهم إبتسامة تدل على الرضى والأمان .
في هذه الأثناء دخل بنجاني ضخم على رأسه عمامة عظيمة تزيده ضخامة وهيبة يتبعه رجل في السبعين من العمر يدل لباسه أنه من مشايخ المسلمين يتبعهما مجموعة من العتالين يحملون كيس خيش كبير ثم رموه وسط المقصورة التي على شمالي بينما وقف الرجلان يتجادلان مع العتالين بخصوص الأجرة .
-” ملاّ صاحب ، يمكنك الآن إعتبار النقود في جيبك ” وجه البنجاني كلامه للشيخ .
-” لا تمدح العنب حتى تشعر بحلاوته تحت أسنانك ” رد عليه الشيخ قائلاً ، إبتسم البنجاني وأتخذ له مقعداً مقابله . في الوقت الذي جلس إلى جانبيهما على المقعدين رجلان وامرأتان ومجموعة من الأطفال .
وسار القطار يتمايل يمنة ويسرى طوال الوقت بصوت هادر غير منقطع ،يمر على القضبان الحديدية القديمة محدثاً نغماً ما يلبث الراكب أن يألفه حتى يصبح من طبيعة الأشياء . رحلة القطار شيء لا يعرفه إلا من جرّبه إنها تشبه إلى حد كبير رحلة الباخرة ولكن بصورة مصغرة ، خصوصاً في الهند حيث تمتد المسافات إلى آلاف الكيلومترات وتنقضي الساعات الطوال ، بل الأيام أحياناً في نفس العربة . الناس في القطار يأكلون ، يشربون ، ينامون ، يتحدثون ، يتعارفون ويستحمون إذا لزم الأمر ، يلهون ، يقرأون ، يتغزّلون ، يحبون ، يتصادقون ويتناقشون ، ويتشاجرون أحياناً ، يصلّون ، يغنون ، يبيعون ، ويعزفون الموسيقى .يشحذون أيضاً بصور مختلفة ، حضارية أحياناً ومتخلفة أحياناً أخرى ، خليط عجيب من شخصيات مختلفة ، ملابس مختلفة ، لغات مختلفة ، سحنات مختلفة ، عادات كثيراً ما تكون مختلفة ، إلا أنها بصورة ما متجانسة كأجزاء آله واحدة ، مختلفة لكنها متكاملة تؤدي غرضها في النهاية .
سار القطار مر من قرى وبلدات كثيرة حتى وصل إلى مدينة “ماتورا” ، صعد إلى القطار رجل وامرأته وولده الصغير وتبعهم رجل وحيد يحمل شنطة سفر صغيرة ملفوفة بقماش خاكي على عادة الهنود ، تخيروا لهم مجلساً فدعوتهم للجلوس معي ، إبتسم الرجل وسلموا علي وجلسوا جميعاً بادرني بالقول :” شكراً لك ، لطف منك ، لن نثقل عليك سننزل في مدينة “أجرا” ، هل زرتها ؟ “
-” نعم ومن لم يسمع بتاج محل ومدينة “أجرا” الشهيرة ؟ “
-” نعم صحيح ، هل زرت “ماتورا” ؟ “
-” فالواقع لا ، لم أسمع بها “
-” هذا عجيب فكل السائحين يأتون إليها . أنت مسلم ألست كذلك ؟ “ماتورا” عندنا نحن الهندوس تعادل “مكة” عندكم أنتم المسلمين . أنا أسكن هنا وألتقي العديد من الأجانب ، منهم رجل عربي من السعودية أسمه “إبراهيم العازم” كنت أشرف على علاجه في المستشفى ، آه حقاً ، نسيت أن أخبرك بأنني طبيب وأعمل في المستشفى الحكومي . أنت إيراني ألست كذلك ؟ أو لعلك أفغاني .”
-” الحقيقة ، أنني عربي “
-” أنت عربي ؟!! ولماذا لا تلبس الثوب الأبيض الطويل مثل “إبراهيم العازم” ؟ “
إبتسمت وقلت :” لا يلبس جميع العرب نفس الملابس ، وخصوصاً حديثي السن ، والمتعلمين . يبدو أن هناك صورة خاصة تكونت في أذهان الغير عن العرب ، وصار من الصعب محوها “
-” هذا صحيح ” أجاب بإقرار هادئ ” فانا على سبيل المثال ، أتصوّر بلاد العرب صحراء واسعة يتنقل الناس فيها على سنامات الجمال ، يلفح الرمل الحار وجوههم مع كل نسمة هواء ولا يأكلون إلا اللحم والتمر ، وعلى شواطئها الكثير من الموانئ “
-” على العكس تماماً ،من حيث أتيت لا نرى الجمال إلا كما ترون الفيل ، في المناسبات ، والجو معتدل طوال السنة تقريباً ، أمّا الموانئ فشبه معدومة .”