دخل قاعة المصرف يرفل بعباءته المقصّبة رافعاً رأسه بكبرياء، تلفت يميناً ويساراً على مهل ورَدّ تحية بعض الموظفين بيد يزينها خاتم فضي ضخم بفص من العقيق، وتتدلى منها سبحة من خشب اليسر الأسود المطعم بالفضة. تقدم نحو مكتب المصرف الزجاجي، عدّل كوفيّته البيضاء بحركة خفيفة من يده وتأكد من فتل شاربه المصبوغ الذي يقف عليه الصقر كما كان يحلو له أن يفتخر دائماً.
وقف أمام الباب ونظر عبر زجاج الغرفة فرأى مدير المصرف يقف خلف مكتبه بانتظاره ورجلان يقفان أمامه، أحدهما شاب في مقتبل العمر قد كفت كمي قميصه وارتدى ربطة عنق حمراء، وهو أحد موظفي المصرف دون شك . والآخر كهل ذو سمات عامة ليس فيه ما يلفت الانتباه.
فتح الباب وقد علق على ساعده عصاً سوداء مطعمة بالصَدَف وسلّم على الحضور.
- “وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.”رد الجميع.
خرج المدير من خلف مكتبه وصافحه وعلى وجهه ابتسامة واسعة قائلاً :”أهلاً . . أهلاً . . أبو زياد . .فرصة طيّبة أن نحظى بزيارتكم الكريمة، أين أنتم عنّا كل هذه المدّة ؟”
- “تعرف، مشاغل، هموم التجارة لا تنتهي، العمر ينتهي والعمل لا ينتهي .”
- “لا لا . . الله يعطيك طول العمر والعافية. تفضل بالجلوس . . تفضل . . تفضلوا . . “وأشار للجميع.
قعد أبو زياد وتنهد تنهيدة طويلة ثم اتكئ على عصاه السوداء وقال:
- “عسى أن يكون خيراً يا عارف بيك “مخاطباً مدير المصرف “لولا معزّتك عندي لما أتيت، فأنا تاجر معروف والوقت عندي بفلوس، ولكنني كرامة لك تركت كل مشاغلي وأتيت حالما استدعيتموني.”
- “اطمئن . . اطمئن . . كل خير إن شاء الله .”قال المدير “حاج أبو زياد، أنت تاجر معروف في هذا البلد وتجارتك في أحسن حال – ما شاء الله – ونحن نتعامل معاً منذ أكثر من . . “صمت محاولاً التّذكر.
- – “منذ عشرين سنة.”قال أبو زياد.
- – “نعم . . نعم، عمر بحاله، أليس كذلك؟ “
- – “بالطبع . . بالطبع . . عارف بيك.”
- – “الحقيقة . . الموضوع الذي استدعيتك من أجله بسيط لكنه مهم في نفس الوقت.”
- – “خيراً إن شاء الله.”قال أبو زياد وحرّك حبات السبحة السوداء بأصابعه.
- – “في البداية، اسمح لي أن أعرف على سامح.”وأشار إلى الشاب “وهو أحد موظفي البنك، شاب ممتاز ونشيط لكن الكمال لله طبعاً.”هزّ أبو زياد رأسه محيياً.
- – “والسيد إسماعيل المنسي مدير مدرسة المتنبي الابتدائية “تابع السيد عارف، فهزّ أبو زياد رأسه مرة أخرى.
- – “طبعاً لا بد أنك ما زلت تتساءل ما الذي حصل، سأشرح الأمر باختصار. السيد إسماعيل تلقى مجموعة من التبرعات النقديّة لصالح المدرسة فأراد إيداعها في حساب المدرسة المصرفي فقام سامح هنا “وأشار إلى الشاب “بالإجراءات اللازمة حسب المعتاد لكنه أخطئ برقم الحساب وعوضاً عن أن ينزل المبلغ في حساب المدرسة نزل في حسابكم، والحقيقة عندما علمت ذلك أيقنت أن حل هذه المشكلة سهل وبسيط فأنتم معروفون بسمعتكم الطيبة ومركزكم الاجتماعي والمالي المعروف.”
- – “حسناً، ثم ماذا؟” سأل أبو زياد.
- – “بسيطة، توقع حضرتك هذه الورقة “وأشار المدير إلى ورقة وضعت أمامه “تتنازل فيها عن المبلغ، ويا دار ما دخلك شرّ.”
صمت أبو زياد قليلاً ثم قال:
- “يحتاج الأمر أن أطلع على كشف حسابي وأتأكد أن المبلغ الذي ذكرت موجود حقاً في الحساب.”
- “هذه بسيطة. لقد سحبنا كشفاً لحسابك بتاريخ اليوم ويمكنك الإطلاع عليه.” وناوله الأوراق.
أخرج أبو زياد نظارته الذهبية من جيب معطفه الداخلي ووضعها على أرنبة أنفه ونظر في الكشف، وقال:
“المبلغ هو ثلاثون ألفاً.”وهزّ رأسه.
- “نعم، وكل ما تحتاجه هو أن توقع هذه الورقة.”وأشار إلى ورقة بين يديه.
فكّر أبو زياد بصمت ثم قال ببطء “يا عارف بيك هل رأيت أو سمعت عن أحد في حياتك دخل القبر ثم خرج منه؟”
ابتسم المدير حائراً وقال:”الحقيقة لم أفهم ما ترمي إليه، أرجو أن توضح لي.”
- “بصراحة لا أرى سبباً واحداً يجعلني أردّ النقود وأتخلى عنها وقد صارت في حسابي، خصوصاً وأن ليس هناك ما يثبت أني حصلت عليها بطريقة مخالفة للقانون.”
تململ الحضور في مقاعدهم فأشار المدير إليهم بالتزام الصمت محاولاً الخروج من الصدمة المفاجئة التي تلقّاها. تنحنح قليلاً محاولاً تصفية ذهنه وقال:
- “يا أبا زياد أنت رجل من أغنى أغنياء هذا البلد وهذه النقود لمدرسة ابتدائيّة، أي لأولادنا جميعاً، ولا أظن المبلغ مهما كبر يعني لك شيئاً.”
- “كل ما قلت لا يجعلني أعطي نقودي للناس، وكوني غنياً لا يعني أن أرمي نقودي في الشارع، وكون النقود لمدرسة ابتدائيّة يفترض أن يجعلكم أكثر حرصاً على عدم إعطائها للآخرين، مَن أخطئ ليتحمل مسؤولية خطأه.”
تنهد المدير محاولاً ضبط أعصابه وقال:
“يا أبا زياد الخطأ مردود كما يقال، والمال ليس لك أصلاً وإن كان تم تحويله إلى حسابك بالخطأ فلا يعني أنه أصبح لك. إنه مال حرام، أترضى أن تأكل مالاً حراماً ؟”
- “مال حرام؟! إنه رزق ساقه الله إليّ وأنا جالس في بيتي، وقد أمرنا الله أن نحافظ على رزقه، وأنت تريد مني أن أتخلى عنه بهذه البساطة، وتقول أنه مال حرام، ثم من أنت حتى تحلّل وتحرّم، مصرفكم هذا قائم كله على الربا، يعني كله حرام في حرام في حرام.”
- “سيد عارف، أنا أصر على الحصول على أموال المدرسة بموجب حقي القانوني وأنا لست هنا لأطلب تفضلاً من أحد.”قال مدير المدرسة الذي لم يستطع أن يلزم الصمت أكثر.
- – “اصبر يا سيد إسماعيل، لا تقلق المال سيصلك إن شاء الله.”
- – “يا أبا زياد يجب أن تعلم أنني أتعامل معك من منطلق احترامي لك كزبون كبير وقديم، وأنه باستطاعتي تحصيل المبلغ منك بالقانون والادعاء عليك في المحكمة إذا لزم الأمر، ولا أظنّك تحب أن يصل الأمر إلى المحاكم.”قال المدير بحزم موجهاً كلامه إلى أبي زياد.
- – “هذا ليس صحيحاً، أنا لم أرتكب أي خطأ يحاسب عليه القانون.”رد أبو زياد بهدوء وثقة.
- – “إذن أنصحك بالاتصال بمحاميك الآن والتأكد مما أقول لأنني سأجد نفسي مضطراً إلى فعل ما ذكرته سابقاً، إن أنت خرجت من هذه الغرفة دون أن تتنازل عن المبلغ.”
صمت أبو زياد قليلاً ثم أخرج هاتفاً نقّالاً بحجم علب الكبريت من جيبه واتصل:
“السيد فيصل المحامي . . “سأل أبو زياد ثم خرج من الغرفة الزجاجية ووقف يتحدث بجوار الباب والجميع ينظرون إليه، تكلم لمدة وجيزة ثم أقفل الهاتف وأعاده إلى جيبه ودخل الغرفة مبتسماً وقال:
“الخطأ مردود يا جماعة . . الخطأ مردود، أعطني الورقة يا عارف بيك لو سمحت.”وقع الورقة ووجّه كلامه إلى سامح قائلاً “إنه درس لك يا بنّي كي تكون أكثر حرصاً على أموال الناس في المستقبل، إنها أموال مدرسة ابتدائية، أموال أبنائنا.”