توجه سعيد التائه وصاحبه رفيق إلى مقربة من الشقّة حيث يتزاحم الناس على باب العمارة، ورجال الإطفاء منهمكون بمد خراطيم المياه وإطلاق الماء في جميع الاتجاهات. اخترقا جمهور الواقفين، وهمّ سعيد بدخول العمارة عندما أمسك أحد رجال الإطفاء ذراعه وجرّه إلى الخارج. . “أمجنون أنت ؟ “صاح رجل الإطفاء في وجه سعيد.
“أريد أن اعرف الذي حصل . . أريد أن أرى المنزل من الداخل.”
“ليس الآن . . ليس الآن . . “
لم تمض عشر دقائق حتى أتمّ رجال الإطفاء عملهم، ربما لأن النار أتت سريعاً على كل شيء. دخل سعيد وصاحبه الشقة التي تحولت إلى كهف أسود الجدران وغاصت أقدامهما بوحل أسود يكسو الأرض . كان المنظر رهيباً، مجرد أكوم من الكتل السوداء، قطع الأثاث، الإطارت على الجدران، الستائر، هياكل الأجهزة الكهربائيّة، كلها تحولت إلى مادة سوداء بلا شكل، حتى قضبان الحديد تدلت متقوسة من السقف تحت تأثير الحرارة المرعب.
جثة متفحمة قد أمسكت بقضبان الحديد التي تحمي النوافذ وقد جمدت على حالها، وجثث أخرى قد تناثرت هناك وهناك في أوضاع مختلفة.
“أنتما . . ماذا تفعلان هنا . . ؟ “جاء صوت من الخلف “أنتما ما الذي تفعلانه هنا بالضبط . . ؟ “
“نحن ؟ “سأل سعيد وقد التفت نحو مصدر الصوت، فإذا ضابط شرطة وحوله مجموعة من أفراد الشرطة والإطفاء.”هل أنتما من أصحاب البيت ؟””نحن، لا الحقيـــقة . . “رد رفيق محتاراً.” إذن ما الذي أتى بكما إلى هنا؟” سأل الضابط.
“سيدي . . سيدي . . هذا الفتى حاول دخول الشقة أثناء الحريق ولكنني قمت بمنعه.”قال أحد رجال الإطفاء مشيراً إلى سعيد.
“آه . . دعني أخمنّ قليلاً، أشعلتما النار بالشقة على أمل أن ترعبوا أهلها فيفروا منها ويخلو الجو لكما لتسرقاها، لكن انظرا ما الذي حدث، كم من الأنفس قتلتما، يا لكما من مجرمين! خذوهما ريثما ننتهي من التحقيق هنا . . “صرخ الضابط مغضباً .
“مهلاً . . مهلاً . . لم نفعل شيئاً جئنا لنشاهد ما حدث فقط . . صدقوني هذا ما حدث فقط . . لست من أشعل النار . . صدقوني لم أفعل شيئاً . . “صرخ رفيق محاولاً إقناع الجميع لكن رجال الشرطة واصلوا سحبهم إلى الخارج، وبحركة مفاجئة تمكَّن رفيق من الإفلات من قبضات رجال الشرطة، وركض هارباً بكل قوته.
ركب سعيد في سيارة الشرطة التي مضت على الفور. كان العرق البارد ينحدر على رقبته ليتدحرج على ظهره باعثاً في جسده رعشات من القشعريرة. أخذ سواد الليل المقبل يختلط بحمرة نارية والسيّارة تخترق شوارع المدينة باتجاه مركز الشرطة، وسعيد تداهمه نوبات من البرد تسري في أنحاء جسده، بينما بدا وجهه المتشح بطبقة من الرماد الأسود خال من أي تعبير، عيناه تهيمان في دنيا غير حاضرة في المكان . .
“أنزل . . لقد وصلنا . . “قال أحد رجال الشرطة مخاطباً سعيد الذي نزل بمساعدة شرطي آخر وتوجها إلى زنزانة انفراديّة في أقصى المركز.
“أدخل . . هيّا . . هذا هو المكان الذي يليق بالمجرمين أمثالك . . “قال الشرطي وهو يدخل سعيد غرفة ضيقة تنبعث من أنحائها رائحة كريهة “لا تقلق سنجد صاحبك سريعاً حيثما ذهب لن يفلت من أيدينا أعدك بذلك . . “ابتسم الشرطي وصفق الباب الحديديّ بشدة فأصدر دويّاً هائلاً تردد صداه في أنحاء المركز.
وقف سعيد في وسط الغرفة الضيقة وشخص ببصره إلى علٍ، كانت هناك نافذة صغيرة قرب السقف يدخل منها هواء شديد البرودة يتدلى أمامها مصباح كهربائي خافت يتأرجح مع هبوب الريح جيئة وذهاباً . .
جلس سعيد على كتلة إسمنتيّة باردة يمكن أن تسمى سريراً، كان عقله عاجزاً عن التركيز في أي شيء فضلاً عن التفكير. لمحات من الضوء الساطع تذهب ثم تعود بسرعة هائلة لتملأ صفحة دماغه . .
“سعيد هل أعجبك ركوب القطار ؟ “
“نعم يا جدي . . لقد أعجبني كثيراً. “
كانت الأنوار تدخل عبر النوافذ وتختفي بسرعة فائقة كلما مرت النافذة تحت عمود من أعمدة الإنارة المنتشرة على طول سكة الحديد في ظلمة الليل.
“إذن نم الآن وفي الصباح سنصل إلى منزلنا، عليك بأن تعدني بأن لن تسبب أية مشاكل لجدتك وإلاّ فإنها سترجعك إلى منزل والديك فوراً وستكون المرة الأخيرة التي تأتي فيها لقضاء إجازتك المدرسيّة معنا . . أفهمت ؟ “
“حاضر يا جدي .”
– “أحسنت يا ولدي إنك صبي طيب، غداً صباحاً سأشتري لك الحلوى التي طلبتها مني.”
“جدي . . “
“نعم يا ولدي .”
– “أشعر بالبرد يا جدي.”
– “إذن نم على السرير وتغطى بعباءتي هذه .”
مدّ سعيد جسده على الكتلة الإسمنتيّة الباردة وتغطى ببطانيّة رطبة، تكوّر على نفسه علّه يجد بعض الدفء لكنّ رطوبة المكان ورائحته الكريهة كانت تطبق على صدره، سعل سعلة جارحة فاضطرب جسده تحت تأثير القشعريرة . مازال المصباح يتأرجح جيئة وذهاباً كبندول الساعة مع هبات الريح الباردة . .
– “أبي إنني أشعر بالبرد، أريد أن أنزل .”قال مسعود والدمع يتطاير من جانبي عينيه وأنفه يسيل.
– “لا نستطيع التوقف الآن، لا بد أن تتوقف الأرجوحة من تلقاء نفسها . . “
– “لا أستطيع تحمّل هذا البرد إنني أتجمد . . “
– “أنت الذي صمّمت على القدوم إلى مدينة الألعاب وركوب الأرجوحة في هذا الجو البارد، يجب أن تتحمل الآن نتائج فعلتك . . “ضحك والده “شعرك يقف كالشوك لا أدري أمن البرد أم من الخوف . . “
“أبي . . إنني أتجمد يا أبي . . أبــــــ……ي . . “يبكي سعيد بصوت مرتفع. يأتي صوت هادر من الخارج “كف عن هذا يا فتى، هناك أناس يريدون النوم في هذا المكان.” يفتح الحارس كوّة في باب الزنزانة الحديديّ “نم الآن نم . . كي تستيقظ صافي الذهن للتحقيق في الصباح . . “
“إنني أشعر بالبرد في هذا المكان، ألا يوجد مدفأة أو بطانيّات إضافيّة ؟ “قال سعيد.
“أحسب أنك ستطلب كوباً من النسكافيه بالحليب مع طبق من البسكويت أيضاً. إنك في زنزانة لا في فندق خمس نجوم، نم الآن . . نم وإلا عرفت كيف أنيمك . . نم .”صرخ الحارس بحزم وأغلق الكوة.
وضع سعيد جبهته على السرير كمن يسجد في صلاة خاشعة وألقى البطانية على ظهره، وفجأة استيقظ على صدى دوي عظيم ملء دماغه ولمعة غطت شاشة بصره، كان المصباح يتراقص في سقف الغرفة أمام عينيه وقد استلقى على الأرض دون حراك .
“أية ليلة ملعونة هذه التي أتت بهذا الولد الشقي إلينا، نم جعلها الله نومتك الأخيرة . . “جاء صوت الحارس من خارج الزنزانة.
“دعونا نوقد ناراً فالجو بارد هنا.”قال سعيد مخاطباً صديقيه.
– “يا صديقي في الليل وفي هذا المكان المهجور، النار رفاهية لا نستطيع تحمل ثمنها الباهض.”قال رفيق .
– “أجل، إن نحن أشعلنا ناراً في هذا الليل وفي هذه الخربة تم كشفنا، وأنت تعلم جزاء من يضبط وهو يقوم بما نقوم به.”قال متعب.”ولكن الجو بارد، بارد جدّاً.”رد سعيد.
“إذن خذ استنشق هذا المسحوق وستشعر بنار الآخرة تشب بين ضلوعك.”قال رفيق ضاحكاً.
“وأنا أريد نشقة أيضاً.”قال متعب.
“أصمت. أنت تعرف القاعدة . أدفع ثم تنفّس . . “قال رفيق بحزم وضحك .
انكمش متعب على ذاته كيتيم مرعوب، بينما سحب مسعود نفساً عميقاً نشر المسحوق الأبيض في خياشيمه.
– “آه . . نار تشتعل في انفي . . “قال سعيد.
– “انتظر حتى تنتقل النار إلى جنبيك.”قال رفيق ضاحكاً.
– “اسمع يا رفيق، أعطني الليلة فقط وأقسم بكل الأيمان بأنني سأدفع لك.”قال متعب راجياً.
– “أنا أتعامل بالنقد فقط ولا أقبل الشيكات ولا الأقساط، أتحسب أنني جمعية خيريّة ؟ لا يهمني إن تسولت أو سرقت أو قتلت، المهم هو أن تدفع أولاً ثم تحصل على ما تريد .”
– “هذه المرة فقط وهي آخر مرة صدّقني.”
– “لا أريد أن أكرر كلامي، لقد أصبحت مملاً . هناك التزامات عليّ أن أوفي بها أم تحسب أنني أجد هذا القطران الذي تتناوله ملقى في الشارع ؟ “
– “نعم هكذا أفضل . . يا سلام . . دنيا أخرى مع هذا المسحوق العجيب، أقصد القطران، ولكن القطران أسود يا رفيق فكيف تصف هذا الشيء بالقطران وهو أبيض؟! “قال سعيد منتشياً.
– “كله يقتل فكله قطران، أبيض أسود لا فرق . . “رد رفيق.
– “اسمع يا رفيق، أعط متعب هذه الليلة فقط وأنا أتعهد بأن يدفع لك غداً.”قال سعيد وهو يغمز رفيق بطرف عينه.
استنشق متعب نصيبه ودخل في عالم النشوة المحرمة، وتحولت تلك الخربة الباردة في ذلك الليل البارد إلى كهف للذات كما كان يحلو لرفيق أن يطلق عليها.
– “رفيق . . رفيق . . “نادى سعيد بأعلى صوته وهو مستلق على أرض الزنزانة الباردة، والريح تعبث بالمصباح الكهربائي المدلّى أمام عينيه “القليل من القطران يا رفيق. . “.
– “أصمت أيها الملعون .”صرخ أحد الحرّاس وقد فتح الكوة في الباب الحديدي، وحالما وقع بصره على سعيد نادى بأعلى صوته “سيدي الضابط . . سيدي الضابط . . أدركنا يا سيدي . . “هرع الضابط المناوب إلى الزنزانة ونظر من الكوّة وأمر بفتح الباب على الفور . وقف عند رأس سعيد، كان أبيض كالشمع، وشفتاه زرقاوين، والزبد ينبعث من فيه، وقد فتح عينيه على سعتهما، وشخص بصره. انحنى الضابط عليه ووضع يده على جسمه “يا إلهي إنه قطعة من الثلج.”وضع أذنه على صدر سعيد “النبض ضعيف جداً، استدعوا الطبيب على الفور . . هيّا . . “
“اسمع يا متعب لقد كفلتك عند رفيق وعليك الآن أن تدفع له.”قال سعيد وهم يقفون على ناصية الشارع، بينما رفيق ينظر بالاتجاه الآخر مغضباً.
“قلت لك هددني والدي بأن يحرقني حيّاً إن أنا عدت لطلب النقود.”قال متعب والرجاء يفيض من عينيه.
– “كان عليك أن تتذكّر هذا قبل أن ترجوني أن أعطيك القطران لتدسه في أنفك القذر، ثم لا عليك يمكنك أن تحرقه أنت أولاً.”التفت رفيق قائلاً بغضب.
“لا يا متعب لا تصدق أن والداً يستطيع أن يفعل ذلك بولده مهما فعل. هيّا اذهب إلى البيت وحاول أن تحصل على أي شيء لترد لرفيق حقه. اذهب ونحن بانتظارك.”قال سعيد وهو يدفع متعب بلطف لينطلق باتجاه البيت.
فتح سعيد عينيه ونظر إلى الضابط قائلاً . .
“لا يمكن لأحد أن يحرق ابنه مهما تكن الأسباب، أليس كذلك، فلماذا أحرق العجوز ولده متعب ؟ وما ذنب بقية الأسرة ؟! وبعد كل هذا يقولون عنّا مجرمين، إذن أنتم أيها الكبار العقلاء . . ما أنتم ؟ “
“لست أفهم ما تقول ولكن إن كنت تسأل عن متعب فهو الوحيد الذي لم يمت في الحريق حيث شاهده أحد الجيران يخرج من المنزل قبل الحريق بقليل . . “قال الضابط.
“اللعنة . . “هتف سعيد “فعلها المجنون . . “