20 نوفمبر، 2024
أطفال النَّار والدَّمار
الرئيسية » أطفال النَّار والدَّمار

أطفال النَّار والدَّمار

نفس حار يتسرب من قبضته الحمراء الصغيرة ليتحول إلى بخار أبيض سرعان ما يتبدد. البرد يهبط بسكون ، والغمام طاقية إخفاء كبيرة تبتلع البيوت المهدمة كلما حاول البصر أن يخترق غلالات الضباب ارتد حسيراً. ساحة من الخراب عشرات من الجدران الخرسانية المهدمة تعانق بعضها محاولة تبادل العزاء ، وعدد لا نهائي من قطع الأثاث الممزقة ترصّع هذا المشهد حيث قضبان الحديد تبرز من قطع الإسمنت أيادٍ تمتد إلى النجاة. وعشرات من المنكوبين يجولون في الخراب محاولين استخراج بعض ما ردم تحت الأنقاض علهم يجدون شيئاً يقيهم سكين البرد.

– ” يدي حمراء جداً . . ” قال علي مخاطباً أصدقائه الثلاثة عارضاً يده.

  • ” وأنا يدي حمراء أيضاً . . ” قال فادي.
  • ” هل يستطيع أحد منكم أن يضم أصابعه هكذا . . ” قال أحمد ضاماً أنامله.

حاول الجميع مرات عديدة لكنهم فشلوا ، ضحك أحمد قائلاً:” أنظروا إلى أصابع زيد إنها لا تتحرك كأنها مصنوعة من الخشب.” ضحك الجميع فأدار زيد رأسه جانباً من الخجل وقال :” يدي باردة جداً ، وهي تؤلمني . . “

  • ” هيه ، انظروا إلي إنني أدخن .” قال فادي مطلقاً نفساً دافئاً من فمه تحول على الفور إلى غمامة بيضاء.
  • ” أنتم هناك أيها الصبيان لا تضيعوا الوقت دون فائدة ، تعالوا ساعدونا في تنظيف أرض الخيام أم تريدون النوم هذه الليلة في البرد والمطر . . ” ناداهم أحد الرجال من بعيد.
  • –      ” هيّــــا . . ” صاح علي متحمساً وركض الجميع نحو خيام الصليب الأحمر على تلك الأرض المنكوبة. عشرات من الخيام المخروطيّة الصغيرة تتناثر هنا وهناك بين أنقاض ذلك الجزء من مخيم “رفح” في قطاع غزة والذي أتت عليه الدبابات والجرّافات هدماً وتدميراً في ظلمة ليل بارد.

أخذ الصبيان ينظفون الخيام واحدة تلو الأخرى ويتراكضون بين مئات المشردين الجالسين على أنقاض منازلهم وقد جمدتهم الصدمة. أصوات بكاء الأطفال تختلط بسعلات الشيوخ ، وضجيج السيارات وهي تنقل مواد المعونة ومئات من الجيران الذين هبوا المساعدة ولكنهم اكتفوا بالمشاهدة غير مصدقين ومجموعات من العجائز يرفعن أيديهنّ إلى السماء ويطلقن الشتائم واللعنات على اليهود والعرب على حد سواء ، والعشرات الذين ما زالوا مصممين على استخراج حاجياتهم من بطن الردم.

  • ” هيه . . يا أولاد تعالوا إلى هنا .  . انظروا ماذا وجدت . . ” نادى علي وهو يلوح بشيء ما . هرع الصبيان إلى علي الذي كان يقف على كوم هائل من الأنقاض.
  • ” ما هذا . . إنها حقيبة . . ” قال فادي.
  • –      ” نعم هذه حقيبتي المدرسيّة ، انظروا في الداخل .” فتح حقيبته ” هذه الواني ، إنها بخير.” استخرجها وأخذ يقلبها بين يديه.
  • –      ” عندي فكرة رائعة ، دعونا نجمع الألوان ونزين الخيام ، ما رأيكم؟” قال زيد.
  • –      ” إنها فكرة رائعة حقاً ، هيّـــــــا . . ” صاح علي فانطلق الصبيان نحو الخيام.
  • –      ” أخذوا يرسمون قبة الصخرة وخارطة فلسطين وأشجار الزيتون وطيور محلقة وأزهار متفتحة وبعض البنادق والوجوه الملثمة ، ويكتبون عبارات طالما سمعوها وزينوا بها كراساتهم المدرسيّة : عائدون يا دار . . القدس لنا .  . ثورة حتى النصر . . هذا جهاد نصر أو استشهاد . . والكثير الكثير من الرسومات والعبارات. اختفى شعار الصليب الأحمر بين رسوم الأطفال الذين انضم إليهم العشرات من نظرائهم فتحولت تلك الخيام الباردة إلى لوحات تشرق بالألوان وتجذب العين.
  • هيا نزين هذه الخيمة من الداخل .” قال أحمد لأصدقائه فدخلوا وأخذوا بالرسم.
  • –      ” أريد أن أرسم دبابة كالتي جاءت أمس.” قال زيد.
  • –      ” وما أدراك أنت. إنها لم تكن دبابة واحدة بل عشرون دبابة وجرّافتان.” قال أحمد.
  • –      ” أعرف ذلك لقد كنت مستيقظاً ، عندما أخذت الأرض تهتز تحت سلاسل الدبابات ، هزّ الصوت منزلنا وأخذنا نصرخ وأبي يقول لنا ألاّ نصدر أي صوت.” رد زيد.
  • –      ” أجل وأنا أيضاً سمعتهم ينادون بمكبرات الصوت يقولون:” على الجميع الخروج من منازلهم على الفور لأننا سنهدمها.” ، صعدت إلى سطح المنزل والمطر ينزل بشدة ، لم يخرج أحد من منزله ، فبدءوا بهدم منزل الحاجة “عيشة” على طرف المخيم ، كان صوتاً مرعباً ، أخذت النساء تصيح وتولول والناس يفرون بأولادهم من البيوت ، عندها صعد والدي إلى السطح وصفعني ثم أنزلني إلى الأسفل ، ارتدينا ملابسنا وهربنا.” قال علي وهو يغالب دمعه.
  • –      ” أما أنا فلم استيقظ إلا بعد أن انتهى كل شيء ، حملني والدي إلى الخارج وأنا نائم ، وعندما فتحت عيني لم أعرف أين أنا ، ظننت نفسي أحلم.” قال فادي ” تصوروا لقد نسوا زجاجة حليب أختي الصغيرة في البيت ، وهي لا تنام أو تسكت دونها ، لا بد أنها قد تكسرت الآن تحت كل هذه الحجارة.”

وفجأة أخذ زيد بالبكاء ، وجلس على الأرض واضعاً رأسه بين ركبتيه منتحباً ، جلس الصبيان حوله وأخذوا بمواساته ” الآن . . ” قال زيد باكياً ” الآن لن نستطيع الذهاب إلى المدرسة . . كل الكتب تحت الأنقاض . . “

  • ” ومن يهتم بالذهاب إلى المدرسة ، فلتذهب المدرسة إلى الجحيم ، من سوء حظنا أنهم لم يهدموها أيضاً.” قال فادي.

واصل زيد البكاء وما زالوا يواسونه ” هيّا هيّا . . لا بد بأنك تشعر بالبرد ، دعونا نشعل ناراً .” قال علي.

  • ” فكرة ممتازة ، نستطيع جمع بعض قطع الأثاث المكسرة . .” قال أحمد.

اجتمعت في الخيمة الخالية كمية هائلة من أرجل الكراسي والطاولات والألواح الخشب المكسَّرة.

– ” هيا لنبدأ . . ” صاح عليّ.

  • ” أين أحمد . . لم يرجع بعد ؟” تساءل فادي.

حاولوا إشعال الخشب دون فائدة ، دخل أحمد الخيمة مسروراً وهو يحمل بيده صفيحة من البنزين.

  • ” انظروا شباب . . ” هتف أحمد بانتصار وهو يعرض الصفيحة.
  • ” ما الذي جئت به ؟ ” سأل فادي.
  • –      ” إنها صفيحة من البنزين. الآن سنشعل ناراً كبيرة . . “

بدأت الحفلة بإشعال مجموعة من أرجل الكراسي فارتفع اللهب عالياً في الخيمة.

  • ” أغلقوا باب الخيمة جيداً ، لا نريد أن يدخل أحد الكبار فجأة . .” قال علي فسارع فادي إلى ربط باب الخيمة من الداخل بإحكام ورجع بسرعة ليحتل مكانه بين المحتفلين.

الخيمة مدفأة كبيرة يملئها الدخان والنار والوهج ينعكس عن وجوههم الصغيرة فيكسوها بالحمرة اللامعة.

  • ” أترون هذه الخشبة الضخمة ، إنها “شارون” . . أجل . . الآن ستدخل النار يا شارون . . لأنك مجرم جبان . .هيّــــا . . ” صاح علي وقذف شارون في النار.

التقط فادي خشبة أخرى وقال :” أترون هذه الخشبة إنها “بيريز” المكّار . . هيّا يا بيريز أيها الشيطان الكبير أدخل النار . . ” وألقى الخشبة.

سحب زيد خشبة ثالثة :” جاء دوري الآن. أنتِ أيتها الخشبة القذرة من تكونين؟ أجل أنت “موفاز” . . هيا يا موفاز الشجاع اقتحم النار . . ” وألقاها فضحك الجميع.

  • ” والآن . . ” صاح أحمد ” سأجعل حياتكم جحيماً حقيقيّاً أيها المجرمون . . سأعذبكم كما فعلتم بنا . . خذوا . . خذوا . . ” وأخذ يسكب البنزين من صفيحته ، فارتفعت النار بجنون . .
  • ” ما ذلك الذي هناك . . ” تساءل أحد الرجال في الخارج صائحاً ” أدركوا تلك الخيمة إنها تحترق . . ” هجم الجميع صوب الخيمة التي سرعان ما تحولت إلى رماد . . أربع جثث صغيرة متفحمة تم نقلها في سيارات الإسعاف التي أخذت تطلق عويلاً مرعباً وهي تخترق أكوام الركام.

إنذار محدود وسرّي للغاية

كانتا متخاصمتين ، صعدت الأولى الحافلة تحمل على ظهرها حقيبة مدرسيّة ، تلفتت تبحث عن مقعد فارغ . جلست إلى جانب امرأة مسنّة في المقدمة. صعدت الثانية بعدها بقليل ولم تجد بدّاً من أن تجلس في المكان الخالي الوحيد ، إلى جانب شاب يضع نظّارة شمسية سوداء . وضعت كتبها في حجرها وراحت تمسح عرقها المتصبب وتختلس النظرات إلى رفيقتها التي تجاهلتها عمداً ، ثمّ أخذت تنقل عينيها بين الركاب الذين كان معظمهم من جنود جيش الدفاع الإسرائيلي المستغرقين في النوم.

أخذت السهول الممتدة تسير والتلال الخضراء تتوالى والحافلة تمضي ، كان الضوء ينعكس بشدة عن كل شيء فيتحول إلى وهج يحول دون تركيز النظر ، ” إنه صيف غير عادي دون شك.” قالت لنفسها.” إنه شهر تموز ، فيه “يغلي الماء في الكوز” كما يقولون ، لا أدري أهو الحر الشديد الذي يضايقني ، أم صفاقة سمر ، لا بدّ أن تفرض رأيها عليّ ولو كان خاطئاً ، وذلك لأنها سبقتني إلى جامعة حيفا بسنة واحدة ، فهي تعرف كل شيء ، حيفا ، والطريق التي تؤدي إلى حيفا ، وأرقام الحافلات ومواعيدها وسككها ، حتى ما عليّ أن آكل أو ألاّ آكل ، هل يمكن لأحد أن يفسر لي ولو بسبب واحد لماذا علينا أن نركب الحافلة المتجهة إلى صفد ، بينما نحن ذاهبتان إلى الناصرة ، لكن لا ، هكذا تريد “المعلمة” سمر ، ولماذا؟ لأن الطرق حسب رأيها أقل زحاماً وأكثر أمناً ، ولكن متى سنصل إلى الناصرة ؟ غير مهم على ما يبدو لأننا في النهاية سنصل. آه كم أكرهك يا سمر ، لست أختي ولا حتى قريبتي ، كل ما في الأمر أنك كنت زميلة أختي الكبرى في المدرسة ، والآن عليّ أن أتحمل عجرفتك لأنك سبقتني إلى الجامعة. آه منك ، هل حقاً أكرهك ؟ لا أدري ، ولكنني أكره تسلطك ومعاملتك لي كطفلة صغيرة.” رمت صديقتها بنظرة نافذة ثم فتحت كتاباً وراحت تجول فيه ببصرها دون أي تركيز. كان صوت المحرك واهتزاز الحافلة المستمر يولّدان في المرء شعوراً قاهراً بالنعاس تحت وطأة الحر الشديد ، استرخت في مقعدها وشد الاسترخاء جفونها بخيوطه الخفية فتثاءبت واضعة يدها على فمها محاولة مقاومته.

” ما اسمك ؟” باغتها سؤال لم تستبن منه شيء ، فانتبهت وجلست في مقعدها متحفزة تحاول السيطرة على حواسها ، ” قلت ما اسمك ؟ ألا تعرفين العبريّة؟” التفتت إلى الشاب الجالس إلى جانبها وبصره مصوب إلى الزجاج أمامه لا يبدي أية حركة أو التفاتة كتمثال من الشمع ، فيما نظارته الشمسية السوداء تخفي تعابير عينيه.

  • ” اسمي عائشة ، وأنا أعرف العبرية جيداً ، فأنا طالبة في جامعة حيفا.”
  • ” عائشة! إذن أنت عربية ، وهل صديقتك عربية أيضاً ؟”
  • –      ” نعم ، نحن من سكان الناصرة.”

بقيت تنتظر المزيد من أسئلته لكنه صمت فجأة كما تكلم فجأة ، فآثرت مواجهته بالصمت كما فعل . كان شاباً عاديا في بداية العشرين يبدو كأي يهودي آخر في هذه الحافلة ، ربما يكون قد أنصرف للتو من معسكره في إجازة كبقية الجنود يريد الالتحاق بأهله في صفد.

” تباً لهؤلاء اليهود” قالت لنفسها وهي تستعرض الركاب ” أتعرفين العبرية يسألني ، ترى كم يعرف منها هو الذي جاء من روسيا بالأمس. تباً له لقد كان يراقبنا منذ دخلنا وأنا التي كنت أظنه نائماً خلف نظّارته السوداء ، أية كبرياء هذه التي يتكلم بها؟ إنه لم يكلف نفسه حتى عناء النظر إليّ ، إنها وقاحة ما بعدها وقاحة ، نعم وقاحة . . “

أخذت تسترق النظر إليه محاولة استكشاف شخصيته ، شعر محلوق على الطراز العسكري ، وسروال من الجينز الأزرق ، وحذاء رياضي وفانيلا مكتوب عليها بالإنجليزية ” إعملوا الأطفال لا الحرب.”

امتدت يده إلى الكتب في حجرها فانتفضت كمن رأى ثعباناً ، أخذ قلماً من قبضتها وفتح كرّاسة وكتب فيها بضع كلمات ثم أعاد كل شيء إلى مكانه بهدوء وهي تنظر إليه مصعوقة غير قادرة على النطق بحرف فضلاً عن كلمة. نظرت في الكرّاسة فإذا هي تقرأ بحروف عربية واضحة

” عائشة

خذي صديقتك وانزلي في الموقف القادم ، شيء رهيب سيحصل لهذه الحافلة.”

لم تصدق عينيها ” إنه يعرف العربية ، ولكن كيف؟” قرأت الرسالة مرات ومرات وأخذت تنظر إليه وهو يتجاهلها بكل برود.” شيء رهيب سيحصل لهذه الحافلة.” رددت لنفسها ” ماذا يمكن أن يحصل لهذه الحافلة ؟” نهضت من مكانها وقد سيطر عليها الرعب ومشت بخطى متأرجحة نحو سمر. هزتها من كتفها وهمست في أذنها :” هيّا ، يجب أن ننزل في لموقف القادم.” لم تعرها سمر أي انتباه وقالت بهدوء ” لم نصل إلى صفد بعد ، الطرق ما زال طويلاً أمامنا.”

دار نقاش حاد قصير بينهما نجحت فيه عائشة بإجبار صديقتها ، طلبت سمر من السائق التوقف فتوقف باستغراب ، وأخذ الركّاب ينظرون إليهما وهما تنزلان في ذلك المكان المنعزل. أُغلق الباب ومضت الحافلة في طريقها مخلّفة الفتاتين في موقف خال وموحش.

” هيّا ، أخبريني ما الذي جعلك تصرين على نزولنا في هذا الموقف المهجور ونحن ما زلنا في بداية الطريق؟ ” صاحت سمر غاضبة.

  • ” لقد أخبرني بأن شيئاً رهيباً سيحصل للحافلة ، نعم الشاب الذي كان يجلس إلى جانبي لم يكن يهوديّاً لقد كتب لي ملحوظة بالعربية تقول بأن شيئاً رهيباً سيحصل لهذه الحافلة ، وطلب مني النزول.”
  • ” هذا هراء . . نعم إنه هراء . . ” انفجرت سمر صارخة وانفجرت معها الحافلة التي لم تكن قد ابتعدت كثيراً وتدفقت النيران من النوافذ وطار السقف في السماء وتناثرت الشظايا في كل مكان والحافلة مازالت تسير على الشارع كجمرة متأججة . كانت سمر تحتضن عائشة بشدة ، وهما تراقبان مصعوقتين.

الحافلة رقم (19)

“هناك على الضفة الأخرى من طبريا ، هناك جهة المشرق ، يعيش الناس ككل الناس ، يسكنون ويعملون ويسافرون حيث يريدون ، هناك يعيش الناس أحراراً ، لا يوقفهم أحد ولا يفتشهم أحد ، ولا ينعتهم أحد بالعرب ، “فالعربي” ليست سبة عندهم كما هي عندنا.هناك لا يستطيع أحد أن يصفهم بالوحشية والتخلف ويقتلهم بدم بارد دون سبب.هناك لا وجوه غريبة باردة قاسية ولا أصوات تنعب “بالخاء” وتعوي “بالعين” طوال الوقت ، لا عيون تدور وتدور في محاجرها ، ولا بنادق محشوة مستعدة لقذف النيران من أجوافها السوداء عند أدنى حركة.”

” طبريا اليوم غير طبريا الأمس ، طبريا اليوم أوكار للمفسدين والمترفين من أقصى العالم إلى أقصاه ، طبريا اليوم ضحكات ساقطات وأجساد متمايلات ، وأنّات دنسة. وطبريا الأمس هي تلك المباني المهدمة ، بجدرانها المتصدعة بجدرانها المتصدعة وساحاتها المقفرة ونوافيرها المنزلية الخربة ، ومسجدها الأسير ، ذلك المسجد الذي يمد عنقه إلى علٍ كمن يشرف على الغرق.إنها ذكريات الصيادين البسطاء ، وقناديل المقاهي الفقيرة في ليالي الصيف الصافية.”

” أتمنى لو أنني أعرف السباحة لرميت بنفسي في حضنك الدافئ أيتها الحانية الغالية ، لأغسل همومي وأنسى ، أنسى كل شيء ، أنسى منظر فادي ويده التي تقبض على الحجر ، والدم يملء ملابسه ، وعينه فجوة سوداء ، لا شيء هنالك سوى اللاشيء.

” فادي مات يا اسماعيل . . فادي مات . . طخّوه . . ” ، ” لا ، فادي لا يمكن أن يموت ، فادي في المدرسة . . ” ، ” لا ، لقد رأيته على التلفزيون ، قميصه الأبيض وبنطاله الأخضر ، وحقيبته الحمراء على ظهره ، رمى حجراً وأمسك بآخر ليرميه وقبل أن يفعل سقط على الأرض.”

كانت أمي على حق ، أذكر صورة فادي ذي سبع السنين ، وقد أحضروه إلى البيت ، الحجر في يده ، وحقيبته على ظهره وعينه المغمضة خجلاً من أختها التي فجرّها رصاص “يهود” ، كان منظره . . . لا أعرف كيف شعرت لحظتها . . لا أعرف.شعرت بأنني مسؤول عن قتله ، لماذا لم أكن أنا؟! أنا أخوه الأكبر وأحق بالموت منه ، عندها شعرت بأن الحياة لعبة تافهة مملة ، وأن الموت هو الحقيقة الوحيدة على هذه الأرض ، فإن كان لا بد لنا من الموت ” فعليّ وعلى أعدائي يا رب . . “

نظر إسماعيل إلى حقيبة التي كانت تقبع إلى جانبه على المقعد الخشبي لموقف انتظار الحافلات ، وحدّق بها ثم أخذ ينظر إلى البحيرة من جديد ،” اليوم سنستوفي ديننا يا فادي ، حقيبتي وحقيبتك ستفقآن عيونهم كما فقأوا عينك ، ستشتعل ناراً يحرق أجسادهم وقلوبهم كما أحرقوا قلوبنا عليك.إنتظرني ساعات معدودة وربما أقل من  ذلك ، في الحافلة رقم (19) المغادرة إلى تل أبيب سيكون لقاؤنا.

إسماعيل يلتفت وقد علا ضجيج غير عادي حوله ، فإذا عشرات الناس قد تجمهروا بجانب الموقف ، فانتفض على الفور وحمل حقيبته بيده ممسكاً بطرف خيط خفي بين أصابعه.كان الناس ينظرون إلى البحيرة ويشيرون بأيديهم إلى شيء ما ، إنّه غلام صغير.”

-” انظروا . . إنه يغرق . . يصعد وينزل . . ” صرخ أحد الواقفين.

-” لينزل أحدكم ويساعده . . ” قالت امرأة مخاطبة جمهور الواقفين من الرجال.

-” ليكن الرب معه . . اسبح . . اسبح . . هيا . . هيا . . ” قال أحد المتدينين اليهود

-” ولدي . . ولدي . . يوسيف . . يوسيف . . ليساعده أحدكم . . ” صرخت امرأة وهي تركض بسرعة نحو الحشد المتفرج ، أخذت المرأة تدور على الجميع تمسك بأذرعهم وتهزها بعنف قائلة ” ساعدوه . . ساعدوه . . أرجوكم سيموت . . ” ، كانت يد الولد وهو يحاول الصعود إلى سطح الماء تقبض على كتلة بيضاء صغيرة ، يصعد وينزل.

” يوسيف . . يوسيف . . ” أخذت الأم تنادي ولدها ، كان الولد يصوّب نظره نحو إسماعيل كلما صعد إلى سطح الماء ، كان كأنه فادي الصغير وهو يقبض على ذلك الشيء الأبيض في يده ، إنه يدعو . . ينادي . . يستغيث ” لا تدعوني أمت مرتين ، أنقذني يا إسماعيل . . “

قذف إسماعيل حقيبته جانباً ورمى بنفسه في الماء وأخذ يصارع ويصارع ويصارع ، والماء يتطاير في كل الاتجاهات وصوت ذراعيه وهما تهشّمان سطح الماء ، والجمهور ينادي ، والطفل يغوص ، وفادي الصغير وحقيبته الحمراء وعينه المفجرة ، والدماء . . الدماء تملأ كل شيء . . . بحر من الدماء . . وصوت الارتطام ، وفجأة تعلق شيء برقبته ، إنه الطفل الصغير ، لم يكن يشبه فادي على الإطلاق ، وجهه مليء بالنمش الأشقر وعيناه رماديتان صغيرتان ، في هذه الأثناء وصلت الحافلة رقم (19) إلى الموقف ، ونزل السائق والركّاب ليشاهدوا المنظر.

دفع إسماعيل الطفل إلى أعلى وأخذ يدفع ويدفع ويدفع ، وينزل إلى أسفل ثم يرتفع ويدفع ، ثم ينزل يرتفع يدفع ، ثم . . لا شيء . . نزل إلى أسفل ثم ارتفع ولا شيء ، نزل وارتفع مراراً ، لم يكن يستطيع الرؤيا ، كل ما حوله هالة بيضاء كبيرة ، وصور تتوالى ثم تغيب.

-” أنقذوه . . أنقذوه . . لقد أنقذ ولدي . . ليفعل أحدكم شيئاً . . ” صرخت أم الطفل وهي تشير إلى إسماعيل.

-” لم نستطع أن ننقذ طفلاً صغيراً فكيف تريدين منا أن ننقذ فتىً في التاسة عشرة من عمره.”

-” إنه بطل ، لقد أنقذ الطفل لكنه مات بعده.” قالت إحدى الواقفات.

-” كفّي يا امرأة ، إنه مجرد “عربي” لقد سخّر لنا “الجوييم” دائماً من أجل خدمتنا ، دعوه يغرق وهكذا سينقص القتلة واحداً.” قال اليهودي المتدين.

-” ماما ، لقد سقطت كرتي في الماء وأردت أن أحضرها.” قال الطفل والجميع ينظر إلى إسماعيل وأعلى أصابع يده الممدودة إلى الهواء تختفي شيئاً فشيئاً .

-” والآن وقد مات هذا العربي القذر ” قال المتدين ” دعونا نمحو أثره إلى الأبد وحمل حقيبة إسماعيل عن المقعد وسط صرخات التأييد ، وبكل قوته قذفها نحوه ، لكن انفجاراً هائلاً دوى في المكان ليحيله إلى فجوة سوداء.

علامات على أسوار الأقصى

جميلة هي أحجار هذا السور الأزلي ، جميلة وقوية ، لا تزول ولا تتبدل ، كانت وستبقى ، تبدل الزمان أو الوجوه ، وما البشر إلا نسمات خفيفة تلفح بضعفها هذه الأحجار لترتد متبددة دونما أثر.

– ” أنت كما أنت يا أبا إبراهيم ، أربعون سنة مضت وأنت كما أنت ، عملك بيتك هيئتك ، حتى لحيتك تصبغها لتبقى كما أنت.” قال أبو أحمد وهو ينظر إلى الداخلين إلى الحرم القدسي.

– ” الحمد لله على الصحة ، الحمد لله على كل شيء.” قال أبو إبراهيم وهو يرتب قوارير العطر الأثرية على رفوف دكانه والذي لم يكن سوى خزانة حديدية كبيرة مثبتة على الجدار الأثري.

جرّ كرسياً صغيراً وجلس قبالة إبي أحمد يراقبان زوار الأقصى ، لم تكن صلاة الجمعة قد أزفت بعد ، لكن المصلين كانوا يتوافدون سراعاً إلى المسجد.

– ” ما هي أخبار المحروس إبنك ؟ أما زال يعمل في الكويت ؟” سأل أبو أحمد.

– ” الله يرضى عليه أموره تمام ، إبنه صار شاباً طول المارد.” رد قائلاً.

– ” ما شاء الله . . ما شاء الله. ” قال أبو أحمد ” الله يحفظه لوالديه ، أليس لديه أبناء آخرين؟ “

– ” لا يا أبا أحمد لكن الولد النبيه عن مئة ولد ، إبراهيم من قبله كان وحيداً ولكن كان عندي ببلد كاملة . مرضي والدين سهّل الله أمره.”

– ” رحم الله أيام زمان ، ما زلت أذكر ولدك إبراهيم وهو غلام صغير كان حيياً كفتاة صغيرة. عندما كنت آتي أحياناً من القرية وبرفقتي ولدي حمدان -فك الله أسره- كان يطلب منه أن يذهب معه لرؤية المسجد الأقصى إلا أنه كان يرفض أن يتحرك عن كرسيه في هذا الدكان.”

– ” نعم صحيح ، لقد ربيت ابني على الإلتزام والإتزان ، لذلك لم يسبب لي المشاكل ولو مرة واحدة مع اليهود. كل رفقاءه سجنوا ، أبعدوا ، أو شُرِّدوا ، إلا إبراهيم . كنت كل ليلة أضع رأسي على الوسادة وأنا موقن بأن ابني يبيت تحت نفس السقف.”

صمت أبو إبراهيم قليلاً وأخذ يشارك زميله سهوته وهو يتأمل زوار المسجد من المصلين والذين أصبحوا الآن يتوافدون في مجموعات متتابعة ، ثم استأنف قائلاً :”بالمناسبة ما هي أخبار حمدان ، ولدك؟”

– ” آه” قال أبو أحمد وأطلق معها زفرة طويلة ثم تابع ” الله وحده يعلم أين هو الآن في سجن أنصار .. الجلمة .. تلمند .. المسكوبية .. عشرون سنة قضاها بين هذا السجن وذاك ، يخرج من إعتقال إداري ليدخل في آخر ، يخرج شهرين ليسجن سنتين ، وأحياناً يجدد له الإعتقال حتى قبل أن يغادر السجن. أولاده كثر ما شاء الله وكلهم معلقون برقبتي ورقاب اخوانه.”

– ” الله يخليهم.” رد أبو إبراهيم.

في هذه الأثناء كانت بوابات الأقصى تكتظ بالداخلين رجالاً ونساءً شيباً وشباباً ، بهيئات مختلفة ، وجنود الإحتلال يكثفون وجودهم بملابسهم الخاكية الخضراء.

– ” ملاعين الوالدين ، ألا يكفي بأنهم سرقوا أرضنا وسجنوا أبناءنا ، حتى مسجدنا يزاحموننا عليه.” قال أبو أحمد مغضباً وهو يلعن جنود الإحتلال.

– ” يا أبا أحمد ماذا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها ؟ والمكتوب على الجبين لازم تشوفه العين.” سكت أبو إبراهيم قليلاً ثم قال :” الله يطمئننا عليك يا إبراهيم.” والتفت يريد أن يغلق الدكان ليذهب إلى الصلاة برفقة أبي أحمد عندما صرخ فجأة :” يلعن … ، كل ما دق الكوز بالجرة يا أولاد الـ…. ؟”

– ” ماذا حصل يا أبا إبراهيم ؟ خيراً إن شاء الله ؟ ما بالك تصيح ؟ “سأل أبو أحمد متفاجئاً.

نزع أبو إبراهيم كوفيته وعليها بقعة ماء صفراء كبيرة قد تفشّت في مسامات كوفيته البيضاء ، وعليها نقاط سود مبعثرة هنا وهناك.

– ” فعلها الحمام مرة أخرى على رأسي . الملعون كأن أحداً يسلطه عليّ ليفعل ذلك.” قال أبو إبراهيم منفعلاً.

مر أبو أحمد بعد مدة ليجد الدكان مغلقاً وقد عُلقت عليه يافطة كرتونية صغيرة كتب عليه “المحل مغلق بسبب وفاة ابن صاحب المحل . العزاء في منزل والد المرحوم في شارع … “

بعد أيام كان أبو إبراهيم يجلس في دكانه يقف إلى جانبه فتى يافعاً طويل القامة .

– “جدي” قال الفتى.

– ” ما الأمر يا بنيّ؟ “

– ” أريد أن أرى المسجد الأقصى.”

– ” ليس الآن يا بني ليس الآن ، أنظر ها هو الميجور قادم ليشرب الشاي عندنا.”

– ” صباخ الخير أبو إبراهام ، كيف خالك ، أنت بخير؟ صخيخ إبنك أنت مات في كويت ، مرخوم .. مرخوم . مين الولد هذي أبو إبراهام ؟” قال الميجور متسائلاً.

– ” هذا حفيدي وأسمه طارق.” رد أبو إبراهيم بلهجة فيها شيء من الفخر.

– ” إنت عمو ولد شاطر لا تعمل مشاكل. إنت إبقى في مخل لا تروخ مع مخربين كلاب. مفهوم ؟ ” قال الميجور محاولاً التلطف. أشاح الفتى بوجهه إلى الإتجاه الآخر وهز رأسه بالموافقة.

مرت الأيام والضباط يجيئون ويروحون كما أعتادوا منذ سنين إلى دكان إبي إبراهيم يراقبون المسجد من هناك وخصوصاً في الأزمات والمظاهرات.

مرت الأيام والفتى يمني نفسه بزيارة المسجدالأقصى الذي طالما رأه على شاشة التلفزيون وفي اللوحات وفي المجلات والكتب المدرسيّة لكنه فشل إلى الآن بإقناع جده بالسماح له بدخول السور وهو الذي يقبع أكثر أيامه على بابه دون أن يلجه ولو لمرة واحدة.

– ” جدي ! أرجوك أن تسمح لي برؤية المسجد الذي طالما حلمت بأن أراه منذ الصغر .” قال الفتى مستعطفاً.

– ” يا بني الاوضاع متوترة ، وربما خرجت مظاهرات فقد تتعرض حياتك للخطر .” قال الجد.

– ” لا تخف إن رأيت أن الوضع خطر فسأدخل إلى المسجد ولن أخرج منه حتى ينتهي كل شيء.”

أخيراً وافق العجوز لكن اليوم التالي كان كأشد ما تكون المظاهرات عنفاً ، وأُطلق الرصاص ، وأُطلق الغاز المسيل للدموع ، وسقطت الضحايا تروي بدمها أرض المسجد الطهور . وفي نهاية اليوم عندما حضرت سيارات الإسعاف وجدوا الفتى في زاوية المسجد وقد فارق الحياة مختنقاً.

أظلمت سماء إبي إبراهيم وأرعدت واسودّت ، واستطالت الجبال وشمخت ، وأرتعد السور العظيم ، إرتعد ولم يطق سكوناً . لم تعد الدنيا دنيا ولا القدس قدس ولا الزمان زمان ، وتبدد الهواء حتى أن أبا إبراهيم حاول جاهداً أن يفتش عن نسمة هواء مهما صغرت فلم يكد يجد ما يكفي لنفس واحد.

لم يعرف النوم ولم يذق الطعام ، أهمل دكانه أياماً طوالاً . ” لم يعد للحياة قيمة ، إبراهيم مات وأبنه طارق مات ، وأنا .. ماذا سأفعل وحدي ؟ هل سأكون كذرة رمل حملتها الريح لتضعها في هذا المكان ثم لتبددها دون معنى.آه لقد قضيت عمري أتجنب المشاكل ولكن الآن أهلاً بالمشاكل ، مرحباً بالمشاكل ، لا عشت إن عاش يهودي ، لا عشت إن عاشوا . . .”

في اليوم التالي كان أبو إبراهيم قد صبغ لحيته مجدداً وفتح دكانه الذي تراكمت أمامه بعض النفايات ، وأحضر في جيبه شيئاً ما وانتظر . . . إنتظر أبو إبراهيم وطال إنتظاره ، كان الضباط يجيئون كعادتهم ليراقبوا من محله كما فعلوا طيلة السنوات الماضية ، ومرة أخرى اشتعلت المظاهرات مجدداً ، وصار الجنود يتراكضون من أمام دكان أبي إبراهيم كالحمر المستنفرة فاستل في زحمة الراكضين سكينه وأرسله ، إلا أن ضربته كانت كليلة ، إلتفت إليه الجندي متفاجئاً ثم أدار رأسه وواصل الهرب متراجعاً مع زملاءه بعيداً عن حجارة المتظاهرين.

كانت ليلة عصيبة تلك الليلة التي قضاها أبو إبراهيم عقب الحادث ، كان المعتقل يمثل أمام عينيه كخرم إبرة يضيق على عنقه حتى يخنقه . أسلاك شائكه ممتدة إلى مالا نهاية ووجوه مكفهرة تطلق آلاف من الأسئلة . . . “لماذا؟ . . . . لمـــــــــاذا؟ . . . . .لمـــــــــــــاذا؟؟؟؟؟؟ “

تلمع أمامه صورة إبراهيم ، ” لماذا يا أبتي ؟ لمــــــــــــــــــاذا ؟؟؟ ” تلمع أمامه صورة حفيده طارق ، ” لماذا يا جدي ؟ لمــــــــــــــــــاذا ؟؟؟؟؟ ” وخلف الجميع يظهر الميجور متحفزاً ،” أبو أبراهام . . أبو أبراهـــام . . أنت مخرِّب أبو أبراهام ” .

أناس يركضون وجنود أمامهم ، الأرض ترتج بأبي إبراهيم ، الجنود يركضون خلفه كسيل كاسح يدمر كل شيء وأناس كثيرون يتبعونهم رمياً بالحجارة ، وهو يركض ويركض ويركض محاولاً الوصول إلى بوابات الأقصى المفتوحة يريد الإعتصام به ، لكنه كلما ظنّ أنه صار قريباً إكتشف بأنه ما زال في بداية الطريق.

كانت الهواجس تقتله تقض مضجعه ، تخنقه ، تلاحقه ، تعكر تفكيره ، تمنعه الطعام والشراب ، طاحونة تدور في جمجمته ، تطحن ثم تطحن ثم تطحن دونما توقف .

وبعد ثلاثة أيام فتح دكانه مجدداً ، وقد عزم على أن يواجه الإعتقال ضريبة رخيصة لثأره ، فالنار ما زالت جذوتها تشتعل بشدة في قلبه.

أرتفعت الشمس في سماء يوم حزيراني صاف ، وجلس أبو إبراهيم أمام دكانه منتظراً ، مرت الساعات بطيئة كالسلحفاة ، وعندما نصّفت الشمس سماء ذلك اليوم نزل الميجور ضيفاً ثقيلاً وقال : ” أبو أبراهام كيف خالك إنت ؟ في واخد ولد عسكري بيقول إنت يضربه في سكين. أنا قلت لا مش معقول ، أبو إبراهام صديق قديم صديق وفي .”

” آه . . . يا أبا إبراهيم حتى الثأر لم يطاوعك . أي الرجال أنت ؟ في أية خانة تُصنف ؟ أين تقف ؟ ما أنت ؟ أنت لا شيء ، أطفال صغار يدركون ثأرهم أما انت فلا تصلح لأن تكون مع البشر فضلاً عن الرجال .”

مرّ زوار الأقصى من أمام الدكان لأسابيع عدة دون أن يروا أبا إبراهيم ، مرت الأيام وتراكمت الأتربة والقاذورات على الدكان ثم جاء يوم تُقلع فيه الدكان من الجدار كما يقلع مسمار صدئ من حذوة حصان جامح .

قسّامي جديد

” عجبي من هذا الجيل ، لم نكن هكذا أبداً ، كنّا رجالاً ، تلك أيام يبدو أنها ولت إلى الأبد.” قال أبو محمود ثم أخرج طقم الأسنان من فمه ومسحه بمنديل من قماش” هذا الطقم سيئ الصنع ، إنه يؤلمني طوال الوقت ، لا شيء كصنعة رب العالمين.” أخرج سكيناً صغيراً ضمن سلسلة مفاتيح وأخذ يحك القاعدة البلاستيكية للطقم.

 – ” كفّ عن فعل هذا ، ستسبب القرف للزبائن.”

– ” ولماذا ، هذا الطقم طاهر ، فأنا آكل به ، ثم قل لي أين هم الزبائن هل يقفون في طابور أمام المحل ، أم تريد أن تطردني بأية وسيلة.”

– ” وهل هناك وسيلة لذلك ، إنك تجلس فيه وكأنه دكان أبيك.” وضحك.

– ” طبعاً لا أحد يستطيع إخراجي من هنا إن لم أرد ذلك.”

– ” لم تقل لي ماذا تريد أن تشرب ، أم أحضر لك كالعادة.”

– “لا . . لا أريد قهوة ، فقد سمعت بأنها تسبب تصلب الشرايين ، أريد زهورات ، الزهورات.”

– ” ما شاء الله صرت تخاف على صحتك ، لقد جاوزت الثمانين ، لا تخف إن لم يقدر عليك الإنجليز فكيف للقهوة أن تقدر عليك ، أنت لا تقدر عليك إلا القدرة.”

– “لا تبالغ فأنا ما زلت في السبعين فقط . بالتحديد ثمان وسبعون سنة . كان عمري عندما حكم عليّ الإنجليز بالإعدام عام ستة وثلاثين ثمان عشرة سنة ونحن الآن بعد أربع وستّين سنة . هذا يعني أن عمري الآن هو ثمان وسبعون سنة بالتمام والكمال.”

ضحك أبو محمد طويلاً ثم قال :” الحمد لله أنك لم تشتغل بالتجارة ، وإلاّ لكنت الآن في عداد الفقراء أو ربما في السجن ، إن مجموع ما ذكرت هو أثان وثمانون عاماً ، قل ما شاء الله.”

صمت أبو محمود قليلاً وأخذ يحسب على أصابعه ثم أخرج قلماً من جيبه وأجرى حساباته على صحيفة قديمة . افتر فاه عن ابتسامة صغيرة سرعان ما كبرت : نعم والله كلام صحيح ، وأنا منت أظن بأنني لم أبلغ الثمانين بعد.” نهض على الفور وتوجّه إلى جهاز الهاتف على الرف المقابل.

– ” ماذا تفعل ؟ ” سأل أبو محمد

– “انتظر . . انتظر . . ” أشار أبو محمود إليه بأن يصمت ” ألو . . أعطني سماحة المفتي لو سمحت . . قل له أبو محمود . . ألو سيدي كيف حالك . . أرأيت يا سيدي تبيّن بأنني أكبر منك سناً .”

– ” نعم . . نعم . . متأكد ، في الست وثلاثين كان عمري ثمان عشرة سنة ، فكم يكون عمري الآن ؟ “

– ” بالضبط . . إثنان وثمانون عاماً بالتمام ولاكمال ، أي أكبر منك بعامين كاملين . . سامر عندك بعد قليل إن شاء الله ، هناك بعض الفتاوى الشرعية التي أريد أن أثبت خطؤك فيها ، هل أنت مستعد ؟ “

– ” لا الآن أنا مشغول لدي عمل مهم . . مع السلامة. . “

  • ” لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . . ” قال أبو محمد وصفق بيديه.

– ” ما بك ، ألا تدري بأنه لم يبق في هذا البلد إلا شخص واحد يكبرني في السن ، أتعرف من هو؟ “

  • ” إن كان سماحة المفتي أصغر منك فلا بد أنه قاضي القضاة.”
  • ” لا يا سيدي ليس قاضي القضاة ، إنه الشيخ بركات إمام الجامع الكبير .”
  • ” وهو الآن مريض ، أبشرك قد تحتل المركز الأول قريباً .” ثم ضحك .
  • –      ” استغفر الله ، فأل الله ولا فألك ، أتريد أن تقصف عمر الرجل ؟! “
  • ضحك أبو محمد وقال :” لا . . لا . . فمن سيصلي بنا الجمعة . آه نسيت بأنك لا تصلي الجمعة ولا الجماعة يا أبا محمود.”
  • –      ” الحمد لله ، إنني مداوم على الصلاة في أوقاتها ، ولكنني لا استبيح الصلاة خلف الإمام المأجور ، فالصلاة عبادة ولا يجوز أخذ الأجرة على القيام بها ، وكل من ترى يصلون مقابل الراتب ، فإن قطع الراتب سيذهبون للبحث عن مهنة أخرى غير إمامة الصلاة.” قال أبو محمود.
  • ” يا رجل إن الإمام لا يأخذ الأجر مقابل الصلاة ، ولكن مقابل تفرغه، فإن لم يحصل على المال من أين سيعيل نفسه وعائلته ؟ “
  • ” إسمعني ، أنت لست أفهم من الشيخ رشدي فهو مفتي البلد ، وقد أثبت له خطئه ، أفهمت ؟ “
  • –      ” أنت تريد أن تهدم الدين ، تريدنا أن نصلي في البيوت كالنساء كما تفعل أنت. إتق الله يا رجل .”
  • –      ” لا تحدثني عن الدين ، عندي دين أكثر من هذه البلد بأكملها ، أنتم لا تبحثون عن الحق ولا تقبلون به ، تريدون الدين على مزاجكم ، هذا دين مش تين .”

دخل صبي القهوة الدكان ، وبيده صينية عليها المشروبات.

  • ” أعط الزهورات للعجوز.” قال أبو محمد.
  • ” تفضل عمي أبو محمود .” قال الصبي.
  • –      ” زاد الله فضلك يا بني ، كيف حال معلمك .”
  • –      ” بخير ، يقبل يدك ويدعو لك بطول العمر .” قال الصبي.
  • –      ” سلّم عليه كثيراً .”

خرج صبي القهوة من الدكان والعجوز يتبعه نظره.

  • ” أنظر . . أنظر . . ” قال أبو محمود مذهولاً ” ألم أقل لك بأن الرجولة ولت إلى الأبد ، أرأيت ذلك الولد ، إنه مثل النساء .” وأشار إلى أحد المارة.
  • –      ” دعهم يا أبا محمود لكل جيل وقته .”
  • –      ” باطل . . زمن عجيب رجاله نساء يطيلون شعورهم ويلبسون الأساور في أيديهم والقلائد في أعناقهم ، ونساؤه رجال يكشفن شعورهن ويلبسن البنطال . . عجبي يا زمن .”
  • –      ” يا أبا محمود من راقب الناس مات همّاً ، ثمّ لا تقل بأنّك كنت ملاكاً عندما كنت شاباً صغيراً ولا تنس أنّ لكلٍ وقته .”
  • –      ” ليت عُشر شباب اليوم كما كنت عندما كنت شاباً صغيراً ، كمن أصغر عضو في تنظيم الشيخ عز الدين القسّام رحمه الله ، ولم أكن أفوِّت له خطبة في جامع الاستقلال في حيفا ، وعندما قامت الثورة كمن في طليعتها وحكم عليّ بالإعدام كما تعلم ، كنت أصغر من يحكم عليه بالإعدام ، وأنت تعرف بقية القصّة.”
  • –      “نعم أعرفها جيداً ، هربت من فلسطين عند انتهاء الثورة ، وحاولت أمك أن تشتري لك عفواً من المندوب السامي بمئة جينه ذهباً ، لكنها فشلت في ذلك وبقية القصة القديمة إياها التي رويتها لنا مئات المرات . . “
  • –      ” لا يمكن لأحد أن يخرج من جلده ، نحن رجال الست وثلاثين . . “
  • –      ” ثم ماذا ، إنكم في النهاية فشلتم بعمل أي شيء مفيد.”
  • –      ” يكفي أننا كنا رجالاً ، لم تنقصنا الشجاعة والتضحية أبداً ، كنا على أتم الاستعداد لأن نضحي بكل شيء ، وهذا منا حصل بالفعل ، لكنّ المؤامرة كانت أكبر منا ، لقد طعنتنا الزعامات العربيّة في الظهر.”
  • –      ” الله يرضى عليكم يا ابا محمود ، أنت رجل عجوز على حافة قبرك ولا أحد يؤاخذك بما تقول ، أمّا أنا فلدي كوم عيال أريد أن أربيهم ، لا داعي للكلام عن الزعامات وخلافه من الأمور التي تجلب وجع الرأس ، دعنا نتحدث عن أسعار الخضار أفضل . . ” ضحك أبو محمد وهو ينتظر تأثير كلامه على وجه أبي محمود.
  • –      ” بالطبع الخضار أهم عندكم من ضياع المسجد الأقصى ، ومن الأض المباركة ، طبعاً هذا هو الذي ضيّع فلسطين ، فعلاً صدق من قال كما تكونوا يولّى عليكم .”
  • –      ” دعك من هذا الكلام فأنت تنفخ في قربة مقطوعة ، ونحن نسمع هذا الكلام من أكثر من خمسين عاماً ، وكما حاولت أنت حاولنا نحن ، وماذا كانت النتيجة ، مزيد من الفرقة ، مزيد من الهزائم ، مزيد من الشتات ، لا فائدة قضيتنا لن يستطيع بشر حلها ، حلها عند رب العالمين. خذ الجريدة واقرأ وقل لي في أية صفحة يضعون أخبار قضية العرب والمسلمين الأولى والمركزيّة.” ناول أبو محمد أبا محمود الجريدة.

أخرج أبو محمود نظارة سميكة يكسوها الغبار والبصمات ، نفخ عليها نفساً حاراً ، ومسحها بمنديل قماشي متجعد ، وضعها على عينيه وأخذ يقرا من الصفحة الأولى بصوت مرتفع :” استقبل . . ودّع . . سافر . . أرسل . . عاد سالماً إلى أرض الوطن . . افتتح . . التقى . . عقد . . خاطب . . زار. . ها. . هذا خبر مهم ، إنفجار كبير في القدس الغربيّ التفاصيل صفحة . . الرقم صغير هل يمكن أن تقرأه ؟ ” أخذ أبو محمد الجريدة وقرأ ” إنفجار كبير في القدس الغربيّة التفاصيل صفحة رقم 19. . “

  • ” افتح . . افتح . . رحم الله والديك ” قال أبو محمود متحمساً.
  • ” نعم الخبر يحتل صفحة كاملة ، إسمع يا سيدي. . ، حدث انفجار كبير هزّ أرجاء القدس الغربيّة ساعة الذروة ، حيث أودى الانفجار والذي وقع في مطعم إبيرو الأمريكي للبيتزا بحياة أكثر من خمسة عشر شخصاً والعديد من الجرحى الذين توصف حالتهم بأنها خطيرة. . “
  • –      ” الله أكبر . . الله أكبر . . يحي أصلك يا بطل . أبحث لي عن من قام بالعملية .”
  • –      ” ها هو . . وقد أعلنت كتائب الشهيد عز الدين القسّام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلاميّة “حماس” مسئوليتها عن الانفجار . . “
  • –      ” الله أكبر . . هؤلاء رجالك يا قسّام ، دمك لم يذهب هدراً . . اللعنة للإنجليز ولأذنابهم من اليهود الصهاينة . . ” نهض أبو محمودج عن كرسيه هاتفاً.
  • –      ” أرأيت ، ليس كل شباب اليوم فاسدون ، هانو شاب يفجر نفسه في سبيل الله ، ماذا تقول فيه ؟ أم تحسب ان البطولة كانت حكراً على زمنكم ثم ماتت. ”
  • –      ” أقسم بالله العظيم أنه بطل ، هؤلاء هم الرجال وإلاّ فلا. إسمعني يا أبا محمد ، ألا تعرف كيف يمكن للمرء أن ينضم لهؤلاء . . “
  • –      ” لا . . لا تقل أنك تريد أن تفجّر نفسك ؟”
  • –      ” باطل . . نحن رجال الست وثلاثين . . “
  • –      ” إذا كنت مصراً فيمكنك الاتصال بالشيخ أحمد ياسين رئيس حماس ، وسؤاله إن كانوا يقبلون العجائز أمثالك . يمكنك أن تطلب منه أن يبعثك في أقرب عمليّة ، وإن صرت شهيداً فلا تنسانا من شفاعتك . . “قال أبو محمد وهو يغالب ابتساماته.
  • –      ” هل رقمه معك ؟ ” 
  • –      ” أي رقم ؟ ” سأل أبو محمد.
  • –      ” رقم هاتف الشيخ أحمد ياسين ، أريد الاتصال به فوراً .”
  • –      ” لا ، ولكن يمكنك الاتصال باستعلامات شركة الهاتف.” قال أبو محمد وغلبته ابتساماته.
  • نهض أبو محمود وتكلم بالهاتف:” ألو يا أبني . . أنا أبو محمود الذبّاح . . اله يرضى عليك أعطيني رقم الشيخ أحمد ياسين في غزّة . . نعم نعم . . هو رئيس حماس . . لا حول ولا قوة إلا بالله . . حسناً شكراً لك.”
  • –      ” ما الأمر ؟ ” سأل أبو محمد.
  • –      ” يقول رقمه ليس في دليل الهاتف . . “

اتجه أبو محمود إلى الباب مسرعاً فنادى عليه أبو محمد :” أين يا رجل يا عجوز ؟ “

  • ” عندي عمل مهم . . ” واختفى في الزحام.

حكاية بطل

-1-

  • ” بُنيّتي فاطمة . . ما كنت أظن يوماً أن طفلتي الصغيرة البريئة ستكون قبلة الخاطبين وزهرة الصبايا. لقد عاهدت نفسي ألاّ أزوّجكِ إلاّ لمن يكون أهلاً لجمالك وعقلك وتقواك ، ويعلم الله كم صددت من الخاطبين حتى جاءني اليوم من لا نجهل مكانه ولا يتردد بقبول خطبته أحد ، إنه محمد العلي . جاء يخطبك اليوم منّي برفقة وجوه البلد ، وأنت تعرفين من هو محمد العلي ومن هو أبوه الشيخ الشهيد البطل . ما قولك ؟ “

“أظن أن صمتك هذا يعني نعم . إذن على بركة الله. “

فاطمة تضع خدها على قبضتها اليسرى متكئة بمرفقها على حافة النافذة بينما المطر يتساقط بغزارة في ظلمة الليل فيكسو أزهار النافذة بحبات بيضاء تنحدر كالدموع ، والزجاج يحجبه بخار يتكثّف ليتساقط قطرات على الأرض ما تلبث أن تمسحه بيدها كلما أوشك أن يحجب الرؤيا.

تلتفت بين لحظة وأخرى لتتأكد أن طفلتها غدير بمأمن من مدفأة الديزل الملتهبة. وتركّز عينيها على عينيها لتلاحظ الشبه الكامل بين عيني طفلتها وعيني زوجها الحبيب.

” فاطمة لا كنت محمد أبن الشيخ علي إن لم أُخرج هؤلاء المستوطنين الأنجاس من بيت أبي وجدّي . خطوات يا فاطمة . . خطوات منه وتكونين في الحرم الإبراهمي ، وماذا يعرفون هم عن الحرم الإبراهمي وعن من يسكن الحرم الإبراهمي . . أعدك بأن يرجع إلينا قريباً . . “

ثم يأتي ذلك اليوم ، يُطرق الباب طرقاً عنيفاً متواصلاً ، تفتح فاطمة الباب : ” هيّا يا فاطمة هيّا لقد جئت لأودعكم . . ” دخل غرفة النوم فتبعته ، أخذ بعض أغراضه وهمّ بالخروج.

  • ” إلى أين ؟ ” قالت
  • ” لقد قتلتهم . . رفضوا مغادرة منزلنا وأرادوا قتلي فقتلتهم . . عليّ المغادرة الآن ، أترككما في رعاية الله . إلى اللقاء يا فاطمة ، أعتن بنفسك وبغدير . . ” قبّل الصغيرة وخرج.

-2-

المطر ما زال يتساقط ويجلب البرد قطعاً من السماء تحمله رياح جبال الخليل الشاهقة نصالاً تخترق اللحم والعظم والنخاع. أنوار المدينة تتراقص في حبات المطر ، الأرض تضطرب تحت وقع الرعود المتواصلة الهائلة ، سيول من الماء تنصب من السماء مع تشققها ببروق باهرة. تميد أغصان الزيتون وتصطفق بعنف ثم تعود لتهدأ قليلاً كلما هدأ المطر والريح.

” أربع سنوات مضت منذ ذلك اليوم الذي ودعت فيه فاطمة . . وطفلتنا غدير . . أربع سنوات من التعب لنا وبالطبع لهم . هذه أرضنا وهذا حقنا ، ميراث آباءنا . رحم الله روحك يا أبي ما كنت أظن يوماً أنني سأسلك سبيلك ، وأنت الذي لا اتذكرك إلا كطيف ضعيف ربما تشكّل في ذهني أيام كنت طفلاً من حكايات الناس عن بطولاتك وقصائد الشعراء في أمجادك . وتشاء الأقدار أن اسير على نفس الدرب ولو بعد حين ، وأصبح ” المطلوب رقم واحد ” كما يحلو لليهود أن يصفوني.”

تحرّك نحو زيتونة روميّة عتيقة وحاول إدخال جسده في ساقها المجوّف . البرد يقطع جسده كسوط ثقيل ، فينتفض محاولاً تثبيت رأسه ويديه في وجه القشعريرة دون جدوى. علّق سلاحه في رقبته وفرك كفيه محاولاً إرجاع الدم إلى أنامله الباردة وقد بدت حمراء كالدم. مسامير تثقب مفاصله وتبعث تياراً كهربائيّاً فظيعاً في ظهره.

يزفر زفرة من أعماق بطنه فيتكثف نفسه كغمامة صغيرة سرعان ما تبددها الريح ، يسند ظهره متحاملاً على آلامه ، يفك الضماد عن عضده ويعصره فيتقاطر منه الدم مع الماء. الجرح منتفخ ومؤلم ، لكنه يعيد ربط الضماد مكانه وهو يغالب صيحات الألم.

ينظر إلى الخليل عبر كروم الزيتون الجبليّة ليرى كثيراً من الأنوار قد أطفأت ، المدينة تخلد إلى النوم.

-3-

انحدرت دمعة على خدّها وهي تحدق في السواد البارد ، الجبال البعيدة تبدو كأشباح هائلة تنتصب بصلف وتحدٍ ، توسّعت حدقتاها وهما تخترقان المكان والزمان. .

  • ” إسمعي يا سيدتي ، من واجبي كطبيب أن أخبرك الحقيقة مهما تكن مؤلمة . . ” صمت قليلاً ، فأمسكت فاطمة عن التنفس.” تبدو إحتماليّة أن ترزقي بطفل ضعيفة جداً . . “

أجهشت فاطمة بالبكاء ، كان ذلك اليوم كارثة حقيقيّة بالنسبة إليها . .

” إسمعيني يا فاطمة . . لقد أحببتك لأنك فاطمة . . زوجتي . . أمّا الأطفال فهم رزق من عند الله ، لا يستطيع أحد أن يمنع رزقه . . “

صوت الوليدة يملء غرفة الولادة ، الحمرة تكسو وجهها الصغير وهي تشد عينيها المغلقتين وهي تبكي بشدة ، زغب أشقر صغير يغطي جسمها ، وشفتاها تبحثان عن شيء ما . .

  • ” مبارك يا فاطمة . . ” قالت أختها.
  • ” كنت أتمنى أن تكون ولداً ، ولكنها مشيئة الله . . “

الباب يطرق بخفة والظلام والسكون يخيمان على الكون . . ” تك تك تك . . ” صوت ضعيف على الباب . .

  • ” من بالباب ؟ إبتعد وإلاّ ملئت الدنيا صراخاً . . “
  • ” إفتحي الباب يا فاطمة . . أنا محمد أتيت لرؤية الصغيرة .”

تفتح الباب على عجل فيقز محمد إلىالداخل بسرعة ويغلق الباب خلفه ” لا وقت لديّ . . أحمد الله على سلامتك ، أين الصغيرة ؟ أريد أن أراها.”

كانت الصغيرة متلفعة بغطاء صوفيّ ثقيل مهي تنام بهدوء. حملها بين يديه ، نظر في وجهها . . ” إنها تشبهك . . ” قرّبها من شفتيه ولثمها ثم أعادها بهدوء . . ” آن لي الآن أن أنطلق . . “

  • ” لم تلبث إلاّ قليلاً جداً . . أمكث معنا الليلة وتنطلق مع الفجر ، لقد اشتقنا إليك ، أعني لقد اشتقت إليك . . “
  • ” أنا مراقب باستمرار ولا بد أنهم يستعدون لاقتحام البيت في هذه اللحظة. سأخرج من الخلف ، أراكم قريباً -إن شاء الله-.” أسرع نحو الباب الخلفي ، فتحه والتفت إلى فاطمة ” لا تنسي أنني معكم طوال الوقت حتى ولو لم تروني . . ” خرج من الباب واختفى في الظلام.

-4-

يتواصل انهمار المطر بغزارة وأخذ الغمام ينتشر مع هدوء الريح ، الماء ينحدر عن أوراق الزيتون ليصب نفسه على محمد العلي ، ملابسه المبتلة ، شعره المتلبد عيناه التائهتان أنفه المحمر وجهه الشاحب جسمه المرتخي في جوف الشجرة العتيقة ، سلاحه المعلق برقبته ، حزامه الناسف الذي تنطّق به ، ذراعه الجريح وضماد مرتخ ، رجلين ممتدتين إلى خارج الشجرة كقطعتي حطب مهملتين وحذاء مطّاطي غارق في الطين.

” أين أنت أيها الموت ، هل لك أن تخلصني من هذا التعب . . لم أعد أحتمل أكثر من هذا ، كل خلية في جسمي تصرخ آه . . “

حاول تعديل نفسه ليصلي العشاء ، لم يستطع الوقوف فآثر الصلاة وهو مستند إلى جوف الزيتونة العتيقة ” الله أكبر . . بسم الله الرحمن الرحيم . . ثم ماذا ؟ نعم بسم الله الرحمن الرحيم . . الحمد لله رب العالمين . . ” التعب يحني رأسه إلى أسفل ثم سرعان ما يلبث أن ينتبه من غفلته ” أين كنت ؟ نعم الصلاة . . هل يبطل النوم الوضوء ؟ لا ، لم أنم ، كانت سهوة خاطفة لا غير ” الله أكبر . . الحمد لله رب العالمين . . ” إنحنى رأسه مرة أخرى ” ليتني أستطيع النوم ، لحظات من النوم . . النوم . . آه من النوم . . “إنتبه من غفلته مرة أخرى ” الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم . . ” مال رأسه إلى اليسار فانتبه على الفور ، أوشك على البكاء ” لا ،  يجب ألاّ أيأس ، لا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها ، سأصلي دون قراءة . . ” رمى رأسه إلى الخلف وزفر زفرة منهكة ، وذهب في النوم فاتحاً عينيه ” محمد . . محمد . . ” رفع رأسه فرأى هيئة رجل يلبس البياض ، النور يملء المكان ” ما الأمر يا محمد . . أنت مجاهد والمجاهد لا ييأس قليل من التعب يجب ألاّ يهزمك . . “

  • ” أنا متعب ولا أريد أن أحيا ، أريد أن أموت لأستريح . . أريد أن أغلق عيني وأنام . . أنام . . “
  • ” ستستريح قريباً يا محمد إن شاء الله ، لكن تذكر ، المعركة لم تنته بعد وعليك أن تكمل الطريق إلى النهاية.”
  • –      ” إنني جريح متجمد من البرد متعب جائع لا أستطيع أن أحرّك أصبعاً من مكانه.”
  • –      ” لن تتراجع الآن بعد كل هذه السنين ، كيف تتراجع وقد أوشكت على الوصول ، استعن بالله ولا تعجز ، واذكر الله يذهب عنك ما تشتكي . . “
  • –      ” ماذا أقول ؟ “
  • –      ” قل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم . . رددها يا محمد . . رددها تغنيك وتكفيك . . رددها يا محمد . . هيا قل معي . . حسبي الله لا إله إلا هو عليه . . . “

أنزل محمد رأسه على صوت إمام مسجد قريب يتلو في صلاة الفجر . . ” لا يغرنّك تقلُّب الذين كفروا في البلاد ، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد ، لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلاً من عند الله وما عند الله خير للأبرار . . . “

نهض محمد واقفاً ، شد حزامه على نفسه ، ووضع سلاحه على كتفه ، حرّك ذراعه المصابة توضأ ثم كبّر لصلاة الفجر. .

-5-

طلعت الشمس من بين جبال الأفق وفرّت الغيوم تاركة الساحة للأشعة الدافئة ، المشاة يمشون بأعداد قليلة على أرض نديّة ، وسطوح المنازل والشرفات مازالت تحتفظ بشيء من مطر الليل . بدأت الحوانيت والمحال التجاريّة بفتح أبوابها وانطلق البائعون المتجولون بعرباتهم نحو أهدافهم بسرعة ، أصوات الأطفال وهم يتضاحكون حاملين صحوناً صغيرة لشراء الحمص والفول لإفطار يوم جمعة. رفعت فاطمة رأسها عن كفيها المستندتين إلى حافة النافذة طوال الليل وأخذت نفساً عميقاً منعشاً وهي تحاول التركيز بعينيها على المشهد العام في الأسفل من خلال زجاج النافذة.

نهضت عن كرسيها ، وتأكدت من وضع ابنتها في سريرها ، حاولت الانشغال بترتيب بعض الأشياء في المنزل.

  • ” فاطمة . . فاطمة . . ألن تأتي معنا إلى عرس “هند” ؟ هذه المرة فقط ، أعرف أنك لا تحضرين حفلات الأعراس ، ولكنها ابنة عمّنا والأمر مختلف هذه المرة . . أرجوك من أجلي أنا . . تعالي معنا هذه المرة فقط.” جاء صوت أختها “آمنة” من الدور الأول.
  • “آسفة يا أختاه ، المكان قريب ويمكنني مشاهدة المنظر من شرفة بيتي. إذهبي أنت وسأذهب فيما بعد لتهنئتها بالعرس.”

بعد صلاة الجمعة اجتمع عدد من الشبان في الشارع المقابل وأخذوا يعلقون الزينات ويصفون الكراسي البلاستيكيّة ويضعون منصة مناسبة ومكبرات للصوت ، ومع مرور الوقت أخذ الناس مواقعهم وبدأ العرس.

صوت الزجّال يأتي مدويّاً عبر مكبرات الصوت . .

” أوف . . أوف . . أوف . . يا يابا أوف أوف يا يابا. . “

جينا بهذا اليوم نشارك حبيب قلوبنا

بعرسه المبارك بإذن الله تعالى ربنا

يا رب تحميه من العين يا ربنا

وتحفظ علينا الحرم والأهل وديارنا

يا دار يا دار خلي الراس مرفوع يا دارنا

ما دام فينا هالأبطال من أمثال عريسنا

” الله . . الله . . ” جاء صوت الجمهور الذي احتشد ، فيما امتلئت ظهور المنازل والشرفات بالنساء والأطفال ، وفاطمة تنظر إلى الحفل . .

– ” أوف . . أوف . . أوف . . “

  ” جمجوم والزير وحجازي ثلاثة مش اثنين” غنى الزجّال.

  • ” مش اثنين . . ” ردد الجمهور منتشياً.
  • –      ” ومحمد العلي وأبوه الشهيد الشيخ أثنين.”
  • –      ” أثنين ” الجمهور.
  • –      ” عوّض الله عليك يا بلدنا بعد ماراحوا الثلاثا مش الاثنين

بمحمد العلي بطل فعله فعل جيش يمكن اثنين

الله كريم ونشوف الخليل ويافا واحد مش اثنين

زغردوا يا صبايا لما ننادي بطلنا إلِّي ما فيش منُّه اثنين”

 فانطلقت زغاريد الصبايا والرصاص من البنادق الآليّة ملعلعاً.

” أوف أوف أوف أوف أوف يا يابا. . أوف أوف يا ياب . .

أنت إلِّي ناديت اليهود بصوت واحد مش اثنين

إن إنتو قتلتوا من الخليل واحد قتلنا بداله عشرة مش اثنين

حنّا جايين العدا كل يوم بيومه مش بس يوم اثنين

إن غمّض عينيه ينام غمض من الخوف عين مش اثنين

لأن روح الجبان يا خوي وحدة إن ضاعت من اثنين

تسلم يديك يا بطل يا ليت في منك ألف بل اثنين

زغردوا يا صبايا لمحمد العلي يحميه واحد أحد مش اثنين”

انطلق الرصاص مرة أخرى مختلطاً بزغاريد الصبايا ، فسالت دمعة حرّى  على وجنة فاطمة التي تنظر من النافذة.

-6-

الوقت بطيء جداً والرتابة قاتلة . الشمس تتجرأ على غير عادتها لتعاند برد الشتاء وتحيل الظهيرة إلى يوم صيفي دخيل. محمد العلي ينتظر خلف صخرة قريبة من مدخل المستعمرة وفي قبضته طرف سلك رفيع. رفع رأسه وهو يراقب ثم نظر إلى ذراعه الجريحة ” لا تخذليني هذا اليوم ، أعرف أنك متعبة ومتألمة ، لكنني أعدك بأنك سترتحين بعدها وإلى الأبد.. ” نظر مرة أخرى إلى الشارع فأبصر حافلة تقترب من البوابة ، أخذ نفساً عميقاً وهتف ” الله أكبر” شاداً السلك بقوة ، فتحولت السماء والأرض إلى جحيم أحمر ، واشتعلت النيران بالحافلة على الفور ، فقفز محمد من مكمنه وأخذ يطلق النار عليها بغزارة من بندقيته الآليّة ، حاولت سيارات من المستوطنة التدخل فقذف باتجاهها بقنابل يدوية سرعان ما اشتعلت النيران فيها ، وركض نحوها مطلقاً نيرانه القاتلة. الرصاص ينهمر باتجاهه كالمطر من جميع الجوانب دون أن يصاب ، تأكد من القضاء على هدفه ، ثمان عشرة جثة تتناثر هنا وهناك دون حراك ، حاول التراجع بسرعة . ظهرت فجأة طائرة هليكوبتر سوداء من بين الجبال ، فوجه بندقيته نحوها وأطلق النار ، ردت بإطلاق سبعة صواريخ مضادة للدبابات .

كيف اختطف الشبان جثة المتفحمة ، لا أحد يدري ، إلاّ أنهم رفعوها ملفوفة براية خضراء على الأكتاف تعلو سيلاً بشرياً هائلاً يهدر بالغضب والانتقام.

شوكة في عين الموت

الليل غطاء أسود ثقيل يربض على صدر الكون عبر النافذة الزجاجية ، والنجوم تشع على استحياء ، تظهر ثم تعود لتختفي وراء السحب الصيفية السريعة. المدينة مكرهة على الصمت ، وأعمدة الإنارة تطرح أشعتها الصفراء بكسل على الطرقات القديمة ، وتلقي مزيداً من الظلال على الأزقة المعتمة. أصوات مكتومة تنبعث من خلف النوافذ المغلقة على الحذر ، وأخرى تهدر وترعد من بعيد لآليات عسكرية ثقيلة وطلقات ناريّة تهشم جدار الصمت الذي سرعان ما يعود للالتئام. قط أسود يعبر الشارع من الزقاق المقابل يتمسّح بباب أحد الدكاكين المغلقة ثم يتجه نحو صفيحة ملقاة على الرصيف ، يعبث بها قليلاً ثم يعود بيأس إلى الزقاق. سيارة جيب عسكرية تجوب المكان مسلطة أنوار كشّافاتها هنا وهناك ، وتطلق طلقة تخترق قلب الظلمة لتؤكد سريان حظر التجوال. أحد ما يحكم إغلاق ستائر النافذة كي لا يفر الضوء إلى الخارج.

  • ” رائد! لماذا أنت واقف أمام النافذة في هذه العتمة وفي هذا الوقت المتأخر من الليل؟”
  • ” أريد أن أشاهد الدنيا في الخارج.”
  • –      ” ألا تخشى رصاصة طائشة ؟ كما أنه ليس من الجيد أن تسهر حتى هذا الوقت المتأخر من الليل.”
  • –      ” المدارس مغلقة ، فلا تخش شيئاً يا أبي ، ثم إنني لا أخاف الرصاص.”
  • –      ” حسناً ، هل تناولت طعام العشاء؟ “
  • –      ” لا ، لم أشعر بالجوع.”
  • –      ” أنت لم تأكل شيئاً منذ الصباح ، إذا واصلت الامتناع عن طعامك فستصبح ضعيفاً ، ثم إن حصتك محسوبة ضمن الحصص المقسّمة.”
  • –      ” وإن انتهى الطعام فمن أين سيأكل إخوتي الصغار وحظر التجوال هذا مفروض علينا منذ عدة أيام؟”
  • –      ” لا شأن لك بهذا. المهم هو أن تأكل أنت حصتك كما يفعل الآخرون ، وعند انتهاء الطعام ” يخلق الله ما تعلمون .” “
  • –      ” ولكن، لم لا تأكل أنت حصتك؟ إنني أراقبك جيداً ، أنت لم تأكل منذ يومين.”
  • –      ” أوه . . ما لك وما لي ، حقاً إنك عنيد ، عنيد جداً. تصبح على خير.”

نار تشتعل في صدره كالجحيم ، تنفخ حرّها وسوادها في شرايينه ، وتخرج مع كل نفس من صدره كهواء كير جهنمي ، جسمه متقلص مشدود وأسنانه تطحن بعضها دون توقف وقدماه لا تستقران ، نوبات من الغضب والخجل تنتابه في فينتفض كمن مسته صاعقة كهربائية ، كان يشعر بهمّ ساحق يجثم على رأسه وبشيء خفي ، شيء مشين شديد الإخجال يجب أن يداريه ويستره ويحطم رأس كل من يفكر ، مجرد تفكير ، بوجوده لديه.

” آه ، كل الحق على ذلك اللئيم ، إنه يغار مني ، يحسدني لأنني أفضل منه في كل شيء ، أتمنى أن أسحق رأسه الكبير.” بلع ريقه وزفر زفرة نارية طويلة وحدّق بالشوارع الخالية.

” أنا رائد الدقر ، أبو الأبطال ، مدوِّخ اليهود ، يقال لي جبان!!” هزّ رأسه محاولاً منع دموع أوشكت أن تطفر من عينيه ” أنا أريك يا معتز الكلب ، المشكلة هي أنّ الشباب صدّقوه! هذه هي المشكلة.” عضّ على شفته السفلى بأسنانه وخبط بقبضته على حافة النافذة ” إخس عليك يا زمن ، تفو . . .”بصق على الأرض وسحق بصقته بقدمه.

” أنا محرّك المظاهرات ومحرض الإضرابات ، يقال لي جبان؟! وممن؟ من أناس لم يواجهوا جيش الاحتلال إلاّ خلفي ؟! ” هزّ رأسه وحاول عبثاً أن يبلع ريقه.

” ترى ، ماذا يفعل معتز الكلب الآن؟ لا بد أنه نائم في حضن أمه كالأطفال الصغار. آه يا معتز ، لو لم يكن هناك حظر للتجوال لأريتك غداً من الجبان أيها الدّعي الكذّاب. لكن بسيطة ، سيأتي يوم.”

أضاءت سيّارة عسكريّة الشارع بأنوارها من بعيد وأخذت تتقدم متحاشية الأجسام الملقاة على الشارع حتى وصلت تحت النافذة ثم أطلقت عياراً نارياً أزّ أمام وجه رائد الذي تراجع إلى الخلف بسرعة فتعثر بإحدى قطع الأثاث وسقط على الأرض. وقف على رجليه على الفور ودار حول نفسه متفقداً الوضع.

  • ” هل أنت بخير؟ ” جاء صوت والده من الداخل.
  • ” نعم . . نعم ، لا تخش شيئاً ، إنني بخير.” رد رائد وركل قطعة الأثاث غاضباً بقدمه ” بنت الملعونة! حتى أنت أيتها الحمقاء تريدين هزيمتي ، ألا يكفي ذلك الحجر الملعون؟! ماذا يجري ، هل هي مؤامرة عليّ لأظهر جباناً؟ لست جباناً . . لست جباناً . . ” صاح رائد.
  • –      ” رائد هل هناك مكروه؟ ” نادى والده.

أفاق رائد من نوبته وقال:

” لا شيء نم أنت يا أبي لا تخش شيئاً.”

” من حسن حظي أن معتز “أبو راس” ليس موجوداً هنا وإلا لأشاع أن حادثة سقوطي كما فعل في المرة الأولى ، ومن سيقنع الجميع عندها أنني لست كذلك.” أخذ رائد نفساً عميقاً وتراءى له العالم ذلك اليوم المشؤوم ، يوم سقط على الأرض في مواجهة مع جنود الاحتلال وسحبه معتز إلى الخلف. كان معتز فخوراً بنفسه لدرجة أنه روى القصة لطلاب المدرسة آلاف المرات :

” لو رأيتم رائد والجندي يركض خلفه ، كان يركض كفأر مذعور ، ومن شدة خوفه سقط على الأرض ولم يستطع النهوض.” ثم يضحك ملء العالم ويضحك الشباب معه.

” ثم جئت أنا لإنقاذه ، فقذفت الجندي بحجر من الصوّان أسال الدم من وجهه فرجع يعوي من الألم ، وسحبت رائد إلى الخلف وبقي ساعة لا يستطيع الكلام.” ويضحك معتز ويهتز رأسه الكبير والعالم كله معه.

  • ” أنت كاذب ، كاذب! كل ما في الأمر أنني تراجعت إلى الخلف عندما تقدمت الدبابة وأخذت تطلق النار فتعثرت بحجر ملقى على الأرض والتوت قدمي فلم أستطع النهوض.” دافع رائد عن نفسه.
  • ” بل قل لأنك جبان.” ويضحك الجميع.
  • –      ” سأحطم رأسك يا ذا الرأس الكبير.” وتنشب معركة بين الاثنين سرعان ما تنتهي بالتفريق بينهما.
  • –      ” لنا يوم يا ذا الرأس الكبير ، وسنرى من منّا الجبان ومن منّا الشجاع. أمّا الآن فاذهب إلى أمك كي تحشو لك رأسك بالطعام ، يا حبيب أمك.”
  • –      ” أنت رائد الجبان ، الجبان ، لا “الدِّقِر” ولا أي شيء آخر ، أنت جبان.” ويسمع رائد الكون كله يضحك ، فيهتز جسمه من الألم وتسقط دموع حارة من عينيه.

” تباً لك ، متى ينتهي حظر التجوال هذا حتى آخذ حقي منك؟”

بدت الستارة في المنزل المقابل حيث يقيم معتز تهتز وكأن شخصاً ما خلفها، ” لا بد أن معتز يراقبني من خلف الستائر ويشمت بي ، اللعين . . “

وأطلّ رائد برأسه من النافذة وصاح باتجاه المنزل المقابل:

” معتز أبو راس! أنت جبان ، أنت لست رجلاً ، إن كنت رجلاً فقابلني.” رجّعت الشوارع الخالية صوت رائد في صدى غاضب أضاءت له بعض النوافذ، وأخذت العيون الحذرة تبحث عن مصدر الصوت.

” معتز أبو راس! أنا أعرف أنك تختبئ وراء الستارة ، إن كنت شجاعاً كما تقول ، فردّ عليّ.”

أطلت بعض الرؤوس من النوافذ ، وفتحت الستارة المقابلة فأطلّ منها رجل في ملابس النوم وقال :

  • ” ألا تكفّان عن الشجار أبداً؟!” جاء صوته عبر الشارع.
  • ” رائد ماذا تفعل عندك؟” نادى والده من الداخل ” اذهب إلى النوم فوراً.”
  • –      ” أنا لست جباناً ، معتز هو الجبان ، نعم معتز هو الجبان . . “
  • –      ” ألا يمكن أن تؤجل هذا الأمر إلى الصباح؟” سأل الرجل في المنزل المقابل ، وظهر رأس ولد ذي شعر غزير من تحت إبطه ، وهو يفرك إحدى عينيه من النعاس.
  • –      ” ما الأمر؟ ماذا يحدث؟” سأل الولد.
  • –      ” اذهب إلى النوم يا معتز لا أريد أن تتشاجرا في هذا الليل.” قال الرجل لولده.
  • –      ” معتز أبو راس ، يا حبيب أمك ، أين كنت مختبئاً؟” نادى رائد عند مرأى معتز كمن وقع على فريسة يريد صيدها.
  • –      ” من هذا ؟ ”  سأل معتز وهو يحاول أن يمنع نفسه من التثاؤب.
  • –      ” أنا رائد ، رائد الدقر ، وسأحطم رأسك الكبير يا طويل اللسان حتى تعرف ماذا تقول في المرة القادمة.”
  • –      ” مَنْ ، أنت أيها الجبان؟ الأفضل لك أن تبقى مختبئاً في بيتك بين إخوتك الصغار فلقد عرفك الجميع على حقيقتك.” رد معتز وقد أخذت آخر آثار النوم تتبخر عن وجهه.
  • –      ” أنا جبان يا حبيب أمك؟ لاقني في الأسفل إن كنت رجلاً.” وركض باتجاه الباب متفادياً والده الذي نهض من سريره محاولاً منعه.

ثوان وكان رائد يقف في منتصف الشارع ويهتف كالمجنون:

– ” معتز أبو راس ! إن كنت رجلاً فانزل إليّ ، انزل أيها الجبان . . “

– ” أصعد إلى هنا فوراً أيها المجنون ، سيطلقون عليك النار . . ” هتف به والده وقد مدّ جسمه من النافذة.

نزل معتز من منزله ونزل معه حشد من سكان العمارة ومثلهم من العمارة المقابلة ولم تمض سوى دقائق قليلة حتى كان الكثير من الناس يقفون في الشارع يحاولون الحجز بين الغلامين ناسين حظر التجوال وإطلاق الرصاص وهدير الدبابات.

كان كل منهما يحاول الإفلات من قبضات الحاجزين ليدافع عن كرامته بذراعه.

– ” أن جبان ، جبان ، هذا هو رأيي فيك وسيبقى كذلك.”

– ” أنت كذّاب ، كذّاب لم تقل لأحد شيئاً عن الدبابة التي كانت تطلق النار يومها ، لأنك تريد أن تصبح بطلاً.” رد رائد محاولاً الإفلات.

– ” دبابة أو لا دبابة ، لا يهم أنت جبان ، أنت تخاف من كل شيء لا من الدبابة وحسب.”

– ” أنت كذّاب أنا لا أخشى الدبابات ولا حتى الجن الأزرق ، وسأثبت لك ذلك الآن ولكل هؤلاء الناس الموجودين هنا.”

مدّ معتز رأسه الكبير من بين أجساد الحاجزين وقال ساخراً غير عابئ بمحاولات المجتمعين تهدئة الأمور :

– ” وكيف ستفعل ذلك أيها . . . الشجاع؟”

– ” الآن وهنا سأهجم على تلك الدبابة التي تقف على ناصية الشارع وأرميها بالحجارة أمام الجميع ، لكن السؤال المهم هو هل تستطيع أنت أن تفعل ذلك أيها البطل؟”

– ” ما هذا الجنون؟” ” دعونا ننسى الخلافات.” ” اليهود مجرمون سيطلقون النار” ” يا جماعة يا ناس يا هووه نحن في حالة حظر تجوال ، هل نسيتم ذلك؟” كلام كثير كان يتداوله الواقفون في الشارع دونه أن يعني لرائد ومعتز شيئاً.

– ” أنا أستطيع فعل أي شيء تستطيعه أنت ، بكل تأكيد، بل أكثر.” قال معتز.

– ” إذن يا حبيب أمك ، لنرى من يقذف الدبابة بالحجارة أولاً يكون هو الشجاع والآخر هو الجبان.”

طار صواب الجميع لهذا الاقتراح الجنوني خصوصاً والدي رائد ومعتز اللذان أمسكا بالولدين غير مصدقين ، ودون سابق إنذار كان معتز ورائد يتسابقان نحو الدبابة وقد أفلتا والحشد يركض خلفهما محاولاً إدراكهما مالئاً بالضجة أنحاء المدينة الهادئة بالإكراه واهتزّ الشارع وكأن زلزالاً أصابه ، لفّت الدبابة مدفعها تجاه مصدر الصوت كان القادمون بالمئات . دوّرت سلاسلها الضخمة وأخذت تنسحب من الموقع تاركة حظر التجوال يتحطم تحت أقدام المجانين.

الشـــبـح

” صباح الخليل الجميل ، صباحك أنت يا مصطفى ، صباح النور والمعجزات صباح الحرم الذي لا يموت صباح العز والعنفوان ، صباح حجازيّ زيريّ جمجوميّ جميل . صباح المآذن والياسمين ، صباح الحمائم ، صباح القمم الشامخات وجبال الندى ، صباح الزعتر البريّ وكروم الغيوم ، صباح النسيم الطليق ، صباح النائمين على ريش الصخور الملتحفين الغمام الطهور ، صباح الصباح الذي لا يغيب ، صباح . . . “

– ” كف عن هذه الترهات ، وأصغي جيداً . . . “

– ” ماذا هنالك ، اليوم جمعة وهم يعرفون بأننا لا نعمل يوم الجمعة . “

– ” قلت لك كف عن الترهات وإستمع جيداً ، إنني أشعر بشيء غريب . “

– ” أنت دائماً هكذا ، ألم تعتد إلى الآن بعد كل هذه الأشهر من المطاردة ؟ ”

– ” ما زلنا أحراراً لهذا السبب ، ألم تلحظ أنه لم يمر احد من الشارع منذ نصف ساعة تقريباً ؟ “

– ” هذا طبيعي ، فاليوم عطلة والناس يتأخرون بالنهوض من النوم يوم العطلة . “

– ” ربما ، ولكنني ما زلت أشعر بشيء غريب ، الحركة مقطوعة تماماً . “

– ” قل لي ماذا حلمت الليلة ؟ كل صباح تقصّ علينا رؤياك ، لقد لاحظتك الليلة . أنت لم تنم على الإطلاق ، لعلك قرأت نصف القرآن قياماً ، وقبل الفجر سمعت صوت إستحمامك ، وها أنت تلبس ثوبك الأبيض متعطراً ، لا بد بأنك حلمت بشيء . . . “

– ” كف (منفعلاً) ، هناك حركة في الزقاق . . . ”

أصوات أقدام تضرب الأرض بقوة تركض مقتربة ، يتداخل معها أصوات مركبات عديدة . ضجيج مرتفع يملأ المكان ، صوت مروحية غير بعيدة يصم الآذان . نظر ” مصطفى ” من زاوية النافذة السفلى إلى الساحة المقابلة للمنزل فوجد العديد من السيارات العسكرية تصطف في حالة دفاعية ، والعديد من الجنود على سطوح المنازل المقابلة . . .

– ” مصطفى . . مصطفى الشبح . . نعرف أنك في الداخل أخرج حالاً ، سلّم نفسك دون مقاومة . ” صوت أجش يأتي عبر مكبر للصوت يحمل لهجة التهديد .

– ” ماذا يجري في الخارج ؟؟ أمسكونا ! لا أصدق !! “

– ” قلت لك كفى ” قال مصطفى بحدة ” إذهب وأيقظ الشباب ، موسى عند باب الدرج ، إبراهيم في المطبخ في الخلف ، وأنت تفقّد الشراك ثم أصعد إلى السقيفة . . . “

عاود الصوت النداء من الخارج مرة أخرى . . ” مصطفى الشبح ، أخرج حالاً دون مقاومة ، قائد المنطقة الوسطى يتكلم معك ، أعدك بشرفي إن خرجت بلا مقاومة أنه لن يمسك سوء . “

نظر مصطفى إلى الأسلاك الرفيعة الممتدة أسفل الأبواب على ارتفاع شبر عن الأرض ممسكة بحلقتي قنبلتين يدويتين على اليمين والشمال ، وألقى نظرة خاطفة من زاوية النافذة حيث السيارات العسكرية .

” ها هو القاذف الصاروخي ، أظن أن من الصعب إستخدامه داخل المنزل ” قال يوسف بعد أن أوصل التعليمات إلى زملائه ” لا عليك ولكن أبق الباب الخلفي مفتوحاً ودع الباقي لي ” قال مصطفى بثقة ، ” والآن سأصعد إلى السقيفة . ” رد يوسف . ” قبل أن تصعد ضع صندوق الذخيرة خلف العامود وتأكد أن الجميع لديه حاجته ، وحين يتوقفون عن الرماية فأعلم أنهم يحاولون نقب السقف أو أحد الجدران ، إنتظر حتى يدخلوا إلى الداخل ويهدأ رصاصهم ، وأصلهم من السقيفة ونحن سنصلهم من الجحور. . . يوسف إستعن بالله ولا تعجز . ” . ” الله أكبر ، يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها . ” قال يوسف ثم انصرف .

– ” إسمعني للمرة الأخيرة يا مصطفى ، الإستسلام أو الموت لك ولمن معك ، إعدك بمحاكمة عادلة إذا . . . ”

صوت إنفجار عنيف أوقف الصوت القادم من الخارج وأشتعلت إحدى السيارات العسكرية بإحدى قذائف مصطفى . إرتفع الدخان في السماء بفعل القنابل الدخانية وسُحبت السيارة إلى خارج الساحة بعد إطفائها ، وأخذ الرصاص ينهمر من كل العيارات ، ثم عدة إنفجارات هائلة أهوت بأجزاء من الجدار الأمامي للمنزل ، ثم إنفجار آخر في مطلع الدرج ، زحف مصطفى إلى حيث الدرج ، فتح الباب بتمهل ، فتوقف الرصاص وأخذ الدخان ينقشع . كان أحد العسكريين ممدداً على الأرض والدماء تغطي كل جزء من جسمه وآخر يأن عند باب العمارة ثم يبكي ويستغيث .

– ” مصطفى ، مصطفى . . ” جاء صوت يوسف من السقيفة ” ما الذي حصل . . ؟ ”

– ” حاولوا إقتحام البيت من مطلع الدرج فانفجر بهم أحد الشراك ، الآن سيعيدون الكرة لسحبه وسأكون لهم بالمرصاد . ” ولم يتم كلمته حتى كان الرصاص يصفر ثانية ، وارتفع الدخان مرة أخرى ، أخرج مصطفى فوهة بندقيته من الباب وانتظر حتى أظلم مطلع الدرج وما لبث أن رأى ظلاً يحاول الولوج بسرعة إلى الداخل فضغظ على الزناد فهوى الظل سريعاً على الأرض ، خرج مصطفى إلى الدرج وسحب جثة العسكرية بسرعة إلى داخل البيت متحاشياً أسلاك الشراك الأخرى . توقف الرصاص مرة أخرى ، حمل مصطفى الجثة المسربلة بالدماء وألقى الجثة على النافذة المواجهة للساحة وعلّق الجندي من حمّالة ذخيرته على حديدة ممزقة من النافذة ، مدلياً إياه إلى الخارج تحت ستار الدخان .

كان المنظر رهيباً ، جثة ممزقة تتدلى كمصلوب على الواجهة الأمامية للمبنى وما زال الدم يقطر منها كشاة ذبحت للتو .

أخذت الشمس ترتفع شيئاً فشيئاً ، والوضع دون تغير يُذكر ، لقد كان البيت ككهف مهجور تغطي بقايا الدخان الأسود أحجاره ، والواجهة الأمامية شبه مهدمة تتدلى عليها جثة الجندي كشبح مخيف يحذّر كل من تسوّل له نفسه بالتقدم بمصير مماثل .

ما لبثت السيارات العسكرية أن إنسحبت من الموقع ، وهدأ الوضع بشكل غريب ، لقد كان هذا الهدوء كالذي يسبق العاصفة .

– “مصطفى … أين أنت ؟ لقد أصيب موسى في ذراعه وخاصرته .”

– ” أنا هنا ، تحت .. في الأسفل .. في الجحر . أسعفه بسرعه .. الصندوق في المطبخ ، لا بد أن هؤلاء الملاعين على وشك فعل شيء كبير لا بد من التحرك بسرعة هل إنتهى العمل في الأسفل لقد إستغرق الأمر وقتاً طويلاً ، هذه عاقبة الكسل والبطء في العمل . “

– ” أي بطء ؟! نحن نعمل منذ أكثر من أسبوعين من الجهتين في الليل والنهار ولم نسترح إلا الليلة الماضية عندما أوشك العمل على الإنتهاء .”

-” على كل حال الساعة القادمة قد تحدد مصيرنا إما أن نقبر في هذا البيت أحياء وإما أن نخرج كالشعرة من العجين من أيدي هؤلاء الأشقياء .” قال مصطفى وقد خرج من الجحر يملأ ملابسه التراب والدخان .

لقد كان مصطفى يُعرف بلقب “الشبح” لفشل كثير من محاولات الإمساك به ، ولم تكن هذه المرة إستثناء للقاعدة فلقد أعد العدة للخروج بمجموعته سالماً ، إلا أن إستعدادته لم تكتمل بعد ، مما قد يعرض المجموعة كلها للموت .

– ” لقد ضمدت جراحه ، وهو بخير . صناديق الذخيرة ما زالت في حالة جيدة قد تكفينا لعدة ساعات أخرى .”

– ” جيد ، لكن إنتبهوا هذه المرة للسقف أو الباب الخلفي فقد يحاولوا نقبه أو إختراق أحد الجدران … ” قطع كلام الشبح صوت مرتفع للغاية يملأ المكان ، ” هولوكبتر ، هولوكبتر .. السقف.. السقف ..” وأشار إلى أعلى ” أرتدوا الأقنعة .. الأقنعة .. غاز .. غاز .. “

بدأ الصوت بالتلاشي تدريجياً ، ومالبث أن حدث إنفجار عنيف في البيت وملأ الغبار البيت مرة أخرى كانت أشعة تخترق حجب الغبار لتسقط على أرض الغرف بصعوبة . صوت نقب بدأ يملأ المنزل والفتحة في السقف أخذت تتسع بالتدريج ثم حصل انفجاران صغيران داخل الغرفة فرشقت شظايا قنبلتين يدويتين الجدران وهسشمت ما تبقى من زجاج . عاود الهدوء المكان مجدداً وأنطلق صوت ضعيف يشبه فحيح الأفعى . ” غاز .. غاز .. ” هتف مصطفى بصوت مرتفع .     

تدلى حبل من النقب ثم نزل رجل على الحبل وأخذ يطلق النار بصوت عشوائية في كل مكان وفي جميع الإتجاهات . هدأ قليلاً ثم نزل آخر . وقفا في وسط الغرفة يرتديان أقنعة كيماوية ، وما لبثا إلا قليلاً حتى إنثال عليهم الرصاص من كل الإتجاهات . عقب ذلك سكون رهيب ، كان هناك صوت ضعيف يخرج من خوذة إحدى الجثتيين تنادي بالعبرية ولكن ما من مجيب … ” سيرجنت .. سيرجنت .. “

تلاشى الغاز شيئاً فشيئاً حتى إنقشع تماماً ، تسلل مصطفى من مخبأه زاحفاً على بطنه حتى وصل إلى الجنديين وتأكد من أنهما ماتا ، نادى ” إبراهيم .. إبراهيم .. تعال بسرعة ” جردا الجنديين من ملابسهما العسكرية وكامل عددهما وجرا الجثتيين إلى النافذة . مرة أخرى صار صوت الهيليوكبتر يُسمع بوضوح ” الآن جاء الجد .. ” قال إبراهيم مخاطباً مصطفى . ” الجميع ينزل إلى الملجأ ، وإن شاء الله سيكون الشباب قد إنتهوا قبل أن يبدأ القصف ” أمر مصطفى بقوة .

إختفى الصوت ، ثم عاد من جديد لكن أكثر علواً وأشد غضباً ، ثم ذهب مرة أخرى ، كان هناك صوت هدير عال في الخارج ، ثم صوت إرتطام رهيب ، لقد إخترق بلدوزر الجدار الأيمن للمنزل ، وهدم جانباً كبيراً منه ، وأخذ يدفع الركام أمامه غير آبه بصليات الرصاص التي كان تأتيه من كل الإتجاهات ، خرج مصطفى سريعاً من مخبأه وكان يحمل قاذفاً صاروخياً على كتفه زحف إلى النافذة ثم أطلق الصاروخ على البلدوزر الذي كان قد تراجع إلى خارج البيت قليلاً ليهجم بشدة أكبر كي يهدم الجدار بالكامل لكن الوقت لم يسعفه ، فقبل أن يرجع ليعود الهجوم كان قد تحول إلى شعلة من اللهب الأسود …

لم تطق  الطائرات العامودية التي كانت تشاهد المنظر صبراً ، فأطلقت أو ل صاروخ نزل في المطبخ محدثاً ضرراً كبيراً . زحف موسى من هناك وقد ملأ  الدم وجهه ، سارع مصطفى إلى الخارج وسحبه إلى الجحر ، ” موسى .. موسى .. ما لك ؟ موسى ما لك .. ؟ ” ” آه .. آه .. أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، مصطفى .. هل يرحمني الله إذا مت ؟ هل أكون شهيداً يا مصطفى ..؟ ” قال موسى مخرجاً كلماته بصعوبة . ” موسى .. لا تمت يا موسى ، فوالله لو كان هناك شهيد يمشي على رجلين لكان أنت  . لا تمت الآن لقد تعاهدنا على الموت سوياً .. أليس كذلك .. أجبني ” قال مصطفى وقد ملأ الدمع عينيه .

– ” يا حبذا الجنة وإقترابها طيبة وبارد شرابها .. فزت ورب الكعبة ، اللهم الشهادة الشهادة .. والصحبة الصحبة ، مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحُسن أولئـ ـ ك رفيـ ـ قاً … ” إرتسمت إبتسامة نورانية على وجهه وهو يحدق في وجه مصطفى ، الذي أخذت عليه دموعه كل مأخذ ، وصار يصرخ بصورة هستيرية ” موسـ ـ  ـ ى .. موسـ ـ ـ ى .. ” . ” ما الأمر يا مصطفى أطل إبراهيم من فتحة الجحر يسأل مصطفى وقد إرتسم الرعب على وجهه ” .

– “لا حول ولا قوة إلا  بالله ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .. إستشهد موسى .. ” قال مصطفى وهو ينتحب . فرّت دمعة ساخنة من عين إبراهيم وهو يرى رفيق  جهاده مسجى هناك يبتسم وهو ميت ” رحمك الله يا أبا العز ، لله أنت ما أجملك حياً وما أجملك ميتاً نسأل الله أن يسكنك الفردوس الأعلى من الجنة وأن يرزقنا صحبتك وأن يلحقنا بك  قريباً … إسمع يا مصطفى يجب أن نأخذ معنا موسى . ”

– ” نعم ،  فليأت أحد الشباب ، وليسحب معك موسى إلىالملجأ .. ”  قال مصطفى وهو يمسح دموعه .

 تتابعت القذائف على البيت فلم يعد فيه جدار سليم ، واستمر إطلاق النار من بعيد حتى جاء صوت إبراهيم من أسفل ” مصطفى أما زلت هناك ؟ ”  رد مصطفى بصوت  تكتمه طبقات الردم ” نعم أنا بخير .”

– ” لقد إنتهى العمل ، الشباب عندنا الآن .”

– ” حسن إذهبوا أنتم ، أنا لا أستطيع الوصول إليكم ، سأتصرف بطريقتي الخاصة .” قال مصطفى بصوت لا يكاد يسمع .

– ” لكن ألا تستطيع أن .. ”

– مقاطعاً ” لا عليك مني سأنجو مثلما أفعل دائماً ، إذهبوا أنتم ولا تنسوا أن تفجروا باب النفق ، هذا أمر .” قال مصطفى بحزم .

– ” مع السلامة يا مصطفى وإلى اللقاء . ”

بعد دقائق قليلة حدث إنفجار تحت الركام ثم هدأ الوضع تماماً . مرت ساعتان والهدوء يلف المكان ، ثم تقدم بلدوزر نحو الركام ليزيل الأنقاض ، لكن الرصاص كان بإنتظاره . تراجع البلدوزر ، وأنطلق الرصاص مرة إخرى نحو كوم الركام . في المساء قُبيل إختلاط سواد الليل ببياض النهار جاء صوت قوي من مكبرات الصوت ” ماذا تنتظرون أيها الأغبياء إذا نزل الليل فسيهرب ، أهجموا على المنزل بأي ثمن ” . تقدم الجنود نحو المكان يقدمون خطوة ويأخرون أخرى لكن طلقة واحدة لم تنطلق بإتجاههم . أخذوا يمشون على الركام مفتشين ” سيدي .. سيدي هنا هنا ، إنها جثة الرقيب المعلق. ”

– ” أيها الغبي لا تقل المعلق ولكن قل نخشون .” سحبوا الجثة إلى الخارج ، مر أحد الجنود بآخر ، ” ماهذا يا رفيق ، أنت مصاب بشدة إذهب إلى مركز الإسعاف في الخلف وسيتولون علاجك ، إذهب بسرعة ..” هزّ الآخر رأسه موافقاً ثم ذهب .

في صحف اليوم التالي كانت هناك الكثير من العناوين ، صورة الرقيب المعلق “نخشون ” في وسط الصفحة الأولى ، وقد كُتب تحتها ” الشبح يضرب ثانية … “

جريدة أخرى راق لها أن تكتب ” الرصاص ينطلق من تحت الأنقاض إلا أنه لا أثر للشبح ..” أخرى كتبت ” ومرة أخرى تبوء وعود رئيس الوزراء بالفشل .. ” وفوقها صورة له وهو يشير بيده متوعداً وأخرى بجانبها بعد المعركة وقد وضع رأسه بين كفيه .

في حديقة مقدسية وتحت شجرة فلسطينية عتيقة جلس عجوزان روسيان على مقعد خشبي قال أحدهما للآخر : ” لقد قلت لك لا مكان لنا في هذه البلد ، أرض الميعاد في السماء هناك عند “يهوه” ، وليست في أرض المجانين هذه .. ” نظر الآخر إلى صورة الجندي المعلق في الجريدة ورد قائلاً : ” أنت  على حق . من حسن حظنا أننا كبرنا في العمر كثيراً حتى لم يعد لنا ما نخشى عليه … ” وألقى الجريدة من يده على الأرض لتأت ريح باردة فتطيّرها إلى المجهول . . .   

 

Share:FacebookX
Join the discussion