حال أدب الأطفال هذه الأيام كحال بقية الأشياء في بلادنا، فلا يمكن أن تكون الحضارة العربية والإسلامية في ذيل الحضارة الإنسانية على كافة الصعد، في هذه الأيام، فيكون هناك تخلف في جميع المجالات ثم يُطلب من أدب الأطفال أن يكون متميزاً كأنه ينتمي إلى عالم آخر، فهذا النوع من الجهد الذهني، أعني أدب الأطفال، هو ابن بيئته ولا بد أن يتشبع ببعض خصائصها، علماً بأن كل مجالات الحياة والحضارة متصلة بعضها ببعض اتصالاً يستحيل معه التقدم في مجال دون التقدم في مجالات أخرى، إن كان يراد لهذا التقدم أن يكون مؤثراً ودائماً، وإلاّ فإنه سرعان ما يزول هو الآخر.
أستطيع القول أن أدب الأطفال العربي لم يجاوز بعد، رغم هرمه، مرحلة الطفولة. فالمشكلات التي مر بها في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي ما زالت ماثلة في يومنا هذا، سواءً على صعيد الكاتب أو الكتاب أو الإمكانات أو حتى المناخ العام. فهناك مشكلات تتعلق بإمكانات الكاتب ومؤهلاته ونوعية إنتاجه، ومشكلات تتعلق بإخراج وطباعة الكتاب وتوزيعه، ومشكلات ترتبط بضعف إمكانات المتلقي المادية وغياب ثقافة البحث والاطلاع، ومشكلات تتعلق بالبيئة العامة كتدني مستوى الحرية التعبيرية وغياب المكتبات العامة، وتفشي الأمية الثقافية في المجتمعات العربية.
ومن المثير للتأمل أن أدب الأطفال في أوروبا بدأ في القرن السادس أو السابع عشر، وأما في العالم العربي فقد ظهر في القرن التاسع عشر، أي بفارق قرنين من الزمان، ولا أعتقد بعد مرور هذه السنوات الطويلة أننا قد نجحنا بتضييق الهوة بين الأدبين.
لقد رسمتم صورة قاتمة لأدب الأطفال العربي، فهل يعني ذلك أن هذا النوع من الأدب لن يصل يوماً إلى المستوى العالمي؟
رغم استطاعة بعض الكتّاب العرب تحقيق اختراقات فردية محدودة في هذا المجال نذكر منهم، الأستاذ عبد التواب يوسف بكتابه حياة محمد، إلا أنَّ الصورة العامة لا تبدو مبشِّرة البتة، فالهوة، من وجهة نظري، بيننا وبين الغرب أكبر من أن تردم بجهود فردية.
وكما سبق وذكرت، المسألة ليست محصورة بأدب الأطفال وحسب، وكأن كل شيء آخر على أتم ما يرام. لا بد من حصول تغيير حقيقي شامل في بنية المجتمعات العربية، وفي الواقع العربي بوجه عام، وعندها سنجد أدب الأطفال العربي يصعد صعودياً تلقائياً إلى المستوى العالمي، وإنني على يقين أنّه سيتفوق على الآداب الأخرى، بسبب عراقة الثقافة العربية الإسلامية، وقدرتها على التأثير الإيجابي في النفس الإنسانية.
على كل حال، يجب ألا نقف موقف المتفرج ننتظر أن تصلح الأمور نفسها بنفسها، بل من واجب كل العاملين في هذا المجال أن يبذلوا أقصى ما بوسعهم من جهد كي يطوروا أداءهم حتى لا تنحدر الثقافة العربية إلى دركات أدنى من ما هي عليه الآن، وكي نسد بعضاً من الثغرات التي نقف عليها. ولعل من أهم أدوات تطوير الأداء في هذا المجال، الاطلاع على تجارب الأمم المتقدمة، والإنترنيت بوابة واسعة مفتوحة على مصراعيها في هذا المجال، بالإضافة إلى ذلك المشاركة في المؤتمرات والمعارض والفعّاليات الدولية المتصلة بأدب الطفل، لمن يتاح له ذلك.
ومن المهم جداً أن يكون تطوير أدب وثقافة الطفل بوجه عام، هماً وطنياً تشارك به كل شرائح المجتمع خصوصاً أصحاب القرار والأموال، فيخصصون المسابقات والجوائز الأدبية، لتشجيع الكتابة في هذا المجال، وقد بدأنا نرى بوادر ذلك بالفعل، وأن ينشئوا مؤسسات النشر العامة والخاصة، التي تتبنى نتاج الكتّاب بطريقة منصفة، وتسوق الكتب بأسعار تتناسب مع معدل دخل المواطن العربي.
ويجب كذلك دعم الكُتّاب معنوياً، بالتعريف والاحتفاء بهم وبإنتاجهم، ومادياً، بتخصيص منح تفرّغ جزئي أو كلي، وبعثات دراسية لهم. ثم العمل على إنشاء أقسام وكراسي بحث علمي تُعنى بهذا النوع من الأدب في الجامعات، وعقد المؤتمرات والندوات التي تناقش شؤون الطفل بوجه عام وأدبه بشكل خاص، على أن تجمع بين كل المعنيين بتربية وثقافة الطفل من تربويين وكُتّاب وفنانين، وأمناء مكتبات، وعلماء شريعة، أخصائيي علم نفس، من جهات حكومية وخاصة.
كل ذلك وإجراءات أخرى عديدة، كإنشاء المحطات الفضائية المتخصصة بالطفل، وتطوير المناهج التربوية في التعليم الأساس والثانوي، يمكن أن تدفع أدب الأطفال إلى الأمام كلبنة من لبنات المشروع الحضاري النهضوي الشامل، وبدونه سيبقى أدب الأطفال العربي يدور في حلقة التجريب المعتمد على جهود فردية إلى الأبد.
يبدو أن هناك علاقة جدلية بين أدب الأطفال من جهة، والتربية والتعليم من جهة أخرى. كيف تنظر إلى هذه القضية؟
هذا صحيح، وربما يكون منشأ هذا الخلط، هو الاستعانة ببعض النصوص الأدبية في الكتب المدرسية، وعدم إدراك الهدف الأساسي من الأدب بشكل عام، حيث أن الأدب عموماً يقصد به الترفيه في المقام الأول، وإن كان يحمل في كثير من الأحيان قيماً ومضامين سامية. فالقالب له الاعتبار الأول في الأدب، وفي المقابل فإن القصص التعليمية كتبت أساساً للتحايل، إذا جاز لي قول ذلك، على شعور الطالب بالملل من نصوص العلمية ولتقريب فكرة الدرس إلى ذهنه، كما أن نشأة وتطور أدب الطفل له بعض الدور في هذا اللبس القائم، ففي كثير من الآداب، تعود نشأة أدب الطفل إلى مصدر أساسيين هما، التراث الشعبي والنصوص التعليمية، وهناك مصدر آخر ربما لا يقل أهمية في بعض الأحيان عن المصدرين الآخرين، وهو قصص المواعظ، وتختلف كل هذه الأنواع عن أدب الأطفال بمفهومه الفني، ولذا نرى كثيراً من الكُتّاب في عالمنا العربي، لا يستطيع التمييز بين خصائص أدب الطفل وخصائص التراث الشعبي من حكايات وأغانٍِ، فيكتبون أدباً شعبياً قد يحمل قيماً مدمرة للطفل، كما أنه من الضروري للغاية ألا يمارس هذا العمل، أقصد كتابة أدب الأطفال، إلا من كان ملمّاً بالكتابة الأدبية مسبقاً حتى لا تكون أعماله كأعمال كثير من المربين الذي وضعوا نصوصاً للأطفال فخرجت لا تختلف عن نمط كتبهم المدرسية فعافوها وأعرضوا عنها وفي ذلك إساءة لإحدى أهم ثمرات أدب الأطفال، وهي تسلية الطفل بأمر مفيد وتعويده على المطالعة الذاتية، ويذكرني هذا بما كان يطلق عليه نظم الفقهاء، فهو يستعمل نفس بحور الشعر التي يستعملها الشعراء إلا أن هذا النظم أبعد ما يكون عن تسميته شعراً، وذلك بسبب غياب العاطفة والخيال عنه.
على أنني لا أعارض بالطبع، بل أشجع على استعمال النصوص الأدبية الخاصة بالطفل في مجال تنمية قدرات الطلاب اللغوية، وتعزيز القيم الإيجابية في أنفسهم، وفي ذلك إفادة للطفل وللثقافة بشكل عام.
يشيع استخدام مصطلح الأدب الإسلامي وأصبح له مؤسسات تُعنى به وتجمعات تلتف حوله، فهل هناك أدب إسلامي للأطفال برأيك؟
الأدب هو وجه من أوجه الثقافة والحضارة، وهذه بدورها تعتمد في نشأتها وتطورها على قاعدة فكرية، وبالتالي تتسم إنتاجاتها بفكرتها، كما وسمت الشيوعية أدبها بوسمها، فإن الإسلام ينتشر في خلايا ونسغ أوجه الحضارة المختلفة ولذا سميت بالحضارة الإسلامية، إذن نعم هناك وينبغي أن يكون هناك أدب إسلامي، رغم أنّه دون المأمول على صعيد النوع والكم، إلاّ أنّ هناك مشتركات كثيرة بين الآداب الطفل في سائر الثقافات والحضارات لأنها بالعموم تعمل على زرع قيم وأخلاق سامية يدركها الإنسان بحسه السليم، إينما وجد، كالصدق والتعاون والاهتمام بالضعفاء، وبر الوالدين والتواضع وغيرها كثير.
هل يعني هذا أنك لا تعارض ترجمة آداب الأطفال الأجنبية إلى العربية؟
أعتقد أن هذا الموضوع حسّاس إلى حد بعيد، فالترجمة سلاح ذو حدين كما يقال. فهي من جهة توسع مدارك الطفل بالاطلاع على ثقافات الأمم الأخرى، وتفيد من الإنتاجات المميزة عند الكتّاب غير العرب، كما أن بعض الكتب الأجنبية يتعذر إنتاجه في العالم العربي من ناحية ارتفاع المستوى العلمي والفني، وذلك لقلة الخبرة والإمكانات. بالمقابل، هناك مخاطر عديدة لترجمة آداب الطفل العربي، أهمها أنّها نتاج ثقافات قد لا تتفق دائماً مع ثقافتنا العربية الإسلامية، بل قد تكون مناقضة لها وتروج مفاهيم خطيرة خصوصاً في مجال العقائد والعلاقة مع الكون والجنس الآخر، فيجب توخي الحذر عند اختيار القصص المنتقاة للترجمة. كما أن الإفراط في الترجمة يقضي على فرص الكتّاب العرب بنشر أعمالهم التي هي وليدة ثقافتنا ويؤدي إلى تضاؤل بل انقراض هؤلاء، بالتالي تضيع شخصيتنا، ويصبح الطفل صورة مستنسخة عن الطفل الغربي أو الياباني.
لنتكلم عن أثر الطفرة المعلوماتية، ما دمنا قد طرقنا موضوع التأثر بالثقافات الأخرى، هناك حديث طويل عن انقراض الكتاب وحلول أدوات ثقافية جديدة أخرى مكانه، كيف تنظرون إلى هذا الموضوع؟
الكتاب هو صيغة ابتكرها الإنسان كإناء لحمل المعرفة والتواصل الإنساني، وإن كان تطور الحضارة الإنسانية سيؤدي إلى انقراض الكتاب وحلول صيغة أخرى مكانه فليكن، لذا فإنني أعتقد أننا يجب ألا ننشغل بالصيغة قدر انشغالنا بالمحتوى. يجب التركيز على المحتوى الفني والقييمي لأدب الأطفال سواء كان ذلك على الإنترنيت أو الفضائيات أو غيرها من الصيغ الجديدة، ويجب أن يكون لدينا نحن الكتّاب والمنتجين والمربين من الكبار، القدرة على التكيّف مع الصيغ الجديدة ولا نصِّر على إعادة الأطفال إلى أدوات منتهية الصلاحية إن كان هناك أدوات ثقافية بهذه الصفة، حتى نبقي على حبل التواصل ممتداً بيننا وبين أطفالنا. إنها مهمة كما ترى ليست مستحيلة لكنها ليست سهلة أيضاً، على أنني أعتقد أن الكتاب لن يخسر مكانته، على الأقل ليس في المستقبل المنظور.
المتابع لتجربتكم بالكتابة للأطفال يجدها متشعبة شعراً ونثراً، ألم يكن، ربما، من الأفضل أن تكتفوا بنوع أدبي واحد كالقصة أو الشعر أو الرواية، بدل من هذا التشعب؟
أؤيدك فيما ذهبت إليه، والحقيقة أنني أعتبر نفسي أمرّ في مرحلة تجريبية استكشف فيها قدراتي ومهاراتي، وأنا متأكد أنّ الأمور ستنحو إلى مزيد من التخصص في المستقبل، إن شاء الله، وربما يكون ذلك في مجال رواية الطفل على وجه الخصوص.
لديكم تجربة مهمة في مجال الكتابة للكبار خصوصاً في مجال القصة القصيرة، لماذا هذه الانعطافة الحادة تجاه أدب الأطفال؟
الحقيقة أنّ هذه الانعطافة كما سميتها، هي انعطافة واعية ومقصودة لأسباب عديدة، فأنا أعتبر نفسي مسلماً ملتزماً بتعاليم الإسلام وهمه، ولديّ التزام نحو نشر الثقافة الإسلامية، ومنهج الحياة الإسلامي، لأنني أعتقد جازماً أنّه الأفضل وتعميمه ونشره مهمة شرعية وإنسانية على حد سواء.
منذ بداياتي وأنا طالب في المرحلة الثانوية، وجهت أشرعة إنتاجي الأدبي نحو رياح الأدب الملتزم، فتوجهت في البداية إلى كتابة الشعر، فوجدت أنّ جمهوره أقل عدداً من جمهور النثر، فتوجهت للقصة القصيرة، فأدركت أن الأدب، إلاّ ما اتصل بشاشات التلفاز، هو استهلاك نخبوي، وأنا أريد أن أصل إلى أكبر شريحة ممكنة، في هذه الأثناء كنت قد كتبت بعض الأعمال القليلة للأطفال، فاستقبلت استقبالاً جيداً من قبل الناشرين والأطفال وأولياء أمورهم، فزادت قناعتي بأهمية التوجه إلى هذه الفئة من المجتمع لأنها المستقبل، فبدأت أطلع على آداب الأطفال المختلفة والدراسات في هذا المجال، وكتبت لهم الشعر فلدي ديوان غير مطبوع للأطفال، وكتبت الرواية والقصة بأنواعها، وانشغالي هذا أدى إلى عدم وجود فسحة كافية من الوقت والاهتمام لأدب الكبار فتوقفت على الكتابة للكبار، وأنا أعتبر أن هذا نوع من أنواع السير باتجاه التخصص، الذي طالبتني به آنفاً.
ظهر مقال في جريدة السبيل الأردنية قبل مدة وجيزة، عن إنتاجكم فيلم كرتون ثنائي الأبعاد بعنوان “مولانا أبو الأحمال”، هل لكم أن تحدثونا عن تجربتكم في مجال الإنتاج التلفزيوني وخصوصاً عن هذا الفيلم؟
في الحقيقة عملي في الإنتاج التلفزيوني يأتي في نفس السياق الذي أشرت إليه سابقاً، وهو التزامي نحو نشر الثقافة وأسلوب الحياة الإسلامية، والشاشة الصغيرة أصبحت هي مصدر التثقيف الأساسي عند الجمهور العربي، حيث أنّ الثقافة الشائعة حالياً في المجتمعات العربية هي الثقافة البصرية. قمت بمحاولات متعددة في هذا المجال ولكنها لم تكلل بالنجاح ولذا ربما ليس من المفيد الإشارة إليها بالتفصيل. المحاولة الوحيدة التي تحولت إلى عمل متكامل هي فيلم أبو الأحمال، لكنه لم يتم تسويقه بعد لصعوبة ذلك، فهو أيضاً محاولة لا يمكننا تسميتها بالكاملة.
يتناول الفلم موضوع فضح ممارسات الدجّالين وألاعيبهم على البسطاء، ويؤكد على أن أفضل وسيلة لمحاربة هذه الظاهرة، هي نشر العلم والمعرفة بين الناس. ورغم جدية الموضوع، فالفلم يتناوله بأسلوب فكاهيّ ضمن قصة مليئة بالمقالب والمغامرات المحببة إلى أنفس الصغار.
يُقال أنَّ الأدباء يرون العالم بعين رومانسيّة، تضخِّم سلبيات الواقع وتغرق في الحلم، ما هو تعليقكم؟
ربما كان ذلك صحيحاً، ولكن المجتمع بحاجة لمن يستشرف المصائب والمصاعب، إن كان ينوي تجنب الوقوع فيها، فالكتّاب والأدباء في هذا السياق أشبه ما يكونون بالباروميتر، أو جهاز رصد الزلازل، وهم الذين يصنعون الحلم وبدون الأحلام لا تكون الإنجازات والنجاحات في هذه الحياة، وعلى هذا فإن وجود الأدباء والكتّاب ضرورة حضارية واجتماعية، رغم إقراري أنهم ليسوا أنبياء معصومين.
هل لك أن تحدثنا عن آخر أعمالك، وهل هناك من جديد على الصعيد النوعي؟
الحقيقة هناك العديد من الأعمال التي على وشك الظهور وأغلبها سيصدر عن دار المكتبي في دمشق، وأعتقد أنكم سترونها عمّا قريب في المعارض الدولية للكتاب، وبعضها متميز على صعيد النوع بحق.