يمكن القول إن زيارة رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو للهند لم تشكِّل مفاجأة للكثيرين؛ فرغم أنّ الهند صوّتت -قبل أسابيع قليلة- في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، فإن سفير إسرائيل بنيودلهي دانييال كرمون صرّح للإعلام الهندي بأنّ إسرائيل تتفهّم “وجهة نظر” الهند، وأنّ ذلك لن يؤثر على العلاقات الراسخة بين البلدين.
سوابق وتحولات
في سابقة تاريخية؛ امتنعت الهند في مجلس حقوق الإنسان الأممي عن إدانة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014، وعند زيارة رئيس الوزراء الهندي اليميني ناريندرا مودي لإسرائيل العام الماضي اكتفى بزيارة تل أبيب دون رام الله، كما اعتاده المسؤولون الهنود، وهو ما قرأه كثيرون بأنه تخفّف من “العبء” الفلسطيني لإقامة علاقة بدون قيود مع إسرائيل.
وفي سابقة أخرى منذ الحرب العالمية الأولى؛ شارك العشرات من قوات النخبة الهندية في تدريبات الجيش الإسرائيلي السنوية المسماة “الراية الزرقاء” في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، غير بعيد من حدود غزة التي شهدت حروباً إسرائيلية عدوانية قتلت آلاف الفلسطينيين، ووضع الاحتلال أهلها في سجن مفتوح فارضاً عليهم حصاراً شاملا منذ أكثر من عشر سنوات.
أبدى نتنياهو -الذي طالما تملّق العملاق الهندي بغية النفاذ إلى أسواق الهند الفسيحة، خصوصاً في مجال تسويق منتجاته العسكرية والأمنية- كلّ حفاوة ممكنة بنظيره الهندي عندما زار إسرائيل، فحرص على مرافقته طوال فترة الزيارة، وأغدق عليه الكثيرَ من أوصاف الصداقة، والتقط معه الصور في وضعية العناق.
وقالت الصحافة الإسرائيلية حينها إنّ الاستقبال الذي خصصه نتنياهو لمودي لم يقدَّم سوى للرؤساء الأميركيين، حتى إنّ مودي نام على نفس السرير الذي استعمله من قبله الرئيس الأميركي دونالد ترمب عند زيارته لتل أبيب، فلا عجب إذن في أنْ تعتبر إسرائيلُ الهندَ حليفها الثاني بعد الولايات المتحدة الأميركية.
تأتي زيارة نتنياهو للهند -التي تستمرّ ستة أيام اعتباراً من أمس الأحد 14 يناير/كانون الثاني- في الذكرى الخامسة والعشرين لإقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين الهند وإسرائيل، وقد اصطحب معه 130 رجل أعمال. وهي الزيارة الثانية لرئيس وزراء إسرائيلي منذ 15 عاماً، أما الأولى فقد قام بها أرييل شارون عام 2003.
علاقات عامة
لا تخلو هذه الزيارة من مفارقات؛ فالحكومة الهندية نظّمت لنتنياهو مسيرة استقبال امتدت عدة كيلومترات من مطار كوجرات في غربي الهند إلى أحد المعابد المحلية المشهورة، واصطحبه فيها رئيس الوزراء مودي في سيارة مكشوفة.اعلان
ولم تنظّم هذه المسيرة إلا لرئيس وزراء اليابان شينزو آبي، مما يعطي انطباعاً بأن إسرائيل توازي اليابان في الأهمية بالنسبة لنيودلهي، التي شكلّت مع طوكيو تحالفاً ضد الصين.
كما نظّمت بلدية نيودلهي حفلاً بحضور نتنياهو لتغيير اسم الميدان الخاص بالجنود الهنود الذين قُتلوا في معركة حيفا عام 1918، من ميدان “تين ماروتي” إلى “تين ماروتي حيفا تشوك”، اسم ميدان حيفا.
والمفارقة هنا هي أنّ فريق مودي بحث -فيما يبدو- عند زيارته لحيفا عن رابطة تجمعه بأصدقائه الإسرائيليين، فأشاد بهذه المدينة التي سقط فيها 44 جنديا هنديا لـ”تحريرها” من قوات الحكم العثماني. والسؤال هنا هو: ممن “حرّر” هؤلاء الجنودُ الهنودُ حيفا؟
وبدلاً من إبداء الأسى على أكثر من مليون هندي خاضوا حروباً لا تعنيهم تحت التاج البريطاني، وسقط منهم في حرب ليست لهم فيها أية مصلحة تُذكر ستون ألفاً؛ صاروا يقدَّمون كـ”محرِّرين” لا ضحايا للحكم الاستعماري، وكأنّ الاحتلال البريطاني لفلسطين وتسليمها لاحقاً إلى العصابات الصهيونية شيء يستحق الاحتفال، يومها واليوم على حد سواء.
وفي محاولة لأنسنة زيارة نتنياهو للهند؛ تم الإعلان في الهند عن وصول هدية نتنياهو لمودي، وهي سيّارة إسرائيلية تحمل معملاً لتنقية المياه وتحليتها، وكان نتنياهو قد أخذ مودي -عند زيارته لإسرائيل- في جولة بهذه السيارة على شاطئ المتوسط، وكانت من الصور التي حرص الإعلام الإسرائيلي على تعميمها.
ويعطي ذلك انطباعاً بأن البلدين سيركزان على بحث موضوع تحلية المياه وتطوير الاختراعات السلمية، بينما من أهم المواضيع -التي يُتوقع أن يبحثها نتنياهو مع مودي- محاولة إقناعه بالتراجع عن إلغاء الهند صفقة صواريخ “سبايك” المضادة للدبابات (تنتجها شركة رافائيل الإسرائيلية)، وقيمتها حوالي نصف مليار دولار أميركي.
وفي سياق ما يبدو أنّه علاقات عامة ودبلوماسية شعبية؛ ستنظم لنتنياهو زيارة لـ”بوليوود” (رمز صناعة السينما الهندية) في مومباي، وأمسية يحضرها كبار منتجي الأفلام والفائزين بالأوسكار، بغية إقناعهم بإنتاج أفلام عن إسرائيل وبالعمل المشترك من نظرائهم الإسرائيليين، وكانت الصحافة قد صنعت حدثاً من استقبال نجم سينمائي هندي سابق للقنصل الإسرائيلي بمومباي.
ويسعى نتنياهو -عبر إنجاح أمسيته في بوليوود- لقطع الطريق على حملات حركة المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل (BDS)، التي زاد انتشارها في أنحاء العالم وسبّبت لإسرائيل الكثير من الحرج، مخافة أن تتطور في الهند وهي أكبر منتج للأفلام عالميا.
معارضة وتنديد
ورغم كل ذلك؛ ما زال هناك عدد من القوى المجتمعية في الهند تعارض العلاقة الهندية الدافئة مع إسرائيل، فقد دعا تحالف من منظمات المجتمع المدني -وعلى رأسها اليسار- إلى تنظيم مظاهرة في شارع شاه جهان في دلهي، للاحتجاج على زيارة نتنياهو واصفين إياه بأنه مجرم حرب.
ويأتي ذلك بعد تصاعد التأييد للقضية الفلسطينية عقب قرار ترمب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وقبل ذلك أحداث هبة باب الأسباط في الأقصى.
ورغم تراجع دَور اليسار في الهند؛ فإن الأمين العام للحزب الشيوعي الهندي الماركسي (CIP-M) براكش كارات عبّر عن امتعاض الحزب من الزيارة، وقال إن “على نتنياهو أن يدرك أن سياساته العدوانية ضد الشعب الفلسطيني مرفوضة من قبل الهنود العلمانيين والديمقراطيين”.
واتهم كارات نتنياهو بسرقة أراضي الفلسطينيين وبناء المستوطنات غير الشرعية عليها، واستنكر التصريحات الإسرائيلية التي تدعو إلى طرد الفلسطينيين من أرضهم ومعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية. وصرح قائلاً: “خلافاً لحكومة حزب الشعب الهندي الموالية لإسرائيل؛ فإن الهند وشعبها وقفوا دائماً بجانب الفلسطينيين وعارضوا العدوان الإسرائيلي”.
أمّا على صعيد مسلمي الهند؛ فقد جوبهت زيارة نتنياهو بالرفض من قِبل الجناح الطلابي للجماعة الإسلامية وجمعية علماء الهند (كبرى التجمعات العلمائية وأتباعها يعدون بالملايين)، التي دعت للمشاركة في المظاهرة الكبرى التي ستُنظم ضد الزيارة.
غير أنّ الحكومة لا تبدو مكترثة لكل ذلك، فقد حسمت أمرها مبكراً وها هو نتنياهو -الذي خلب لبّ كثير من الهنود ببريق العمل التجاري- يزور ضريح “تاج محل” في مدينة “أغرا” عاصمة الحكم الإسلامي المغولي، والذي بناه شاه جهان أول سلطان هندي نزل الإنجليز في عهده بالهند، ليبدؤوا مسيرتهم الاستعمارية الدامية تحت غطاء العمل التجاري باسم شركة الهند الشرقية، فيا لها من مفارقة!
في دراسة أعلن عنها الصهيوني الأميركي دانيال بايبس؛ ذكر أنّ الهند أصبحت اليوم أكثر بلد في العالم مؤيد لإسرائيل، فقد أصبح كثير من الهنود -أكثر من أي وقت مضى- يعتقدون أنّ العلاقة مع إسرائيل أخلاقية تماماً، بسبب قبول الفلسطينيين للتطبيع معها وتعاون العرب المكشوف وشبه المكشوف مع حكوماتها.
ولذا لا يبدو منطقيّاً -من وجهة نظر الهنود- التضحية بالمصالح الهندية الوطنية من أجل دعاوى أخلاقية خلافيّة، وهو ما يُطرح كاختراق في السياسة الهندية الخارجية حصل على يد رجل يمكن أن يغيّر مستقبل الهند نحو الأفضل، وسط انتخابات يفوز بها كل مرة دون منازع، بينما ستتوارى قضية فلسطين تدريجيّاً بين ملفات وزارة الخارجية الهندية باعتبارها “عبئاً” باقياً من فترة تاريخية آن لها أن تنتهي.