قد يبدو عنوان هذا المقال مفاجئاً للوهلة الأولى، ولكن قد تكون هذه هي الحقيقة كما سنرى في السطور التالية. فرغم العداء المعلن بين السعودية وسائر دول الخليج مع إيران، فقد ساهمت هذه الدول حسب ظني بدفع إيران نحو الصين، عندما اختارت أن تقف مع المعسكر الأمريكي الإسرائيلي.
فدول الخليج التي ساعدت الولايات المتحدة الأمريكية على تحويل النفط إلى سلاح، ووجّهته بالوكالة نحو روسيا وإيران، اختارت مرة أخرى أن تساعد الحليف القوي في واشنطن على محاصرة إيران من خلال خنق قدرتها على تصدير النفط، وبالذات إلى الهند، ذلك البلد الذي تربطه علاقة تمتد إلى آلاف السنوات مع إيران.
لقد كانت الهند من أكبر مستوردي الغاز الإيراني، وكان ذلك يتيح لإيران أن تستمر بالاستفادة من هذه الثروة المهمة، مقابل أسعار وشروط تفضيلية، ولكن في ولاية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والذي انسحب من الاتفاق النووي مع إيران بتحريض إسرائيلي وخليجي، فُرضت عقوبات اقتصادية على إيران استهدفت هذا القطاع المهم. وقد حاول الأتراك حينها إقناع حلفائهم الأمريكيين باستثنائهم مع مجموعة من الدول ومنها الهند من الالتزام بهذه العقوبات، وسافر مستشار الرئيس التركي إبراهيم قالن إلى نيودلهي لمحاولة إقناع الهنود بمساعدته على الضغط على الأمريكيين بهذا الخصوص، ولكن نتيجة الوعود الخليجية بتعويض أي نقص ينجم عن مقاطعة إيران وخصّ الهند باستثمارات ضخمة، فشلت المحاولة التركيّة واصطفت الهند مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، بعيداً عن جارها الاستراتيجي التقليدي، إيران.
تزامن ذلك مع خطوة هندية مثيرة للجدل، وهي ضمّ إقليم كشمير المتنازع عليه مع باكستان، ترافقت مع زيارات قام بها رئيس الوزراء الهندي إلى دول الخليج واستقباله استقبال الحلفاء، وسط ردود فعل خليجية باردة على مطالبة باكستان حلفاءها الخليجيين أن يقفوا إلى جوارها في موضوع كشمير، سواء بدعوة منظمة التعاون الإسلامي إلى الانعقاد أو تأييد مواقفها في الأمم المتحدة، الأمر الذي قرأته باكستان على أنّه تقارب خليجي مع الهند على حسابها، وتحوّلاً حقيقياً في الموقف الخليجي، فصدرت مواقف باكستانية ناقدة لكل من السعودية والإمارات، على لسان وزير الخارجية الباكستاني شاه محمود قريشي، وتهديدات وضغوطات سعودية مقابلة؛ حاول كل من قائد الجيش الباكستاني ورئيس الوزراء نزع فتيلها. ولكن بات واضحاً أنّ الشرخ الذي أرادت دول الخليج ومن خلفها كل من أمريكا وإسرائيل؛ إحداثة بين كل من الهند وإيران، امتد ليشكِّل هوة واسعة من الشك بين باكستان والسعودية، وأدخل هذه العلاقة الدافئة في حالة من البرود غير المسبوق.
ويبدو أنّ طهران كانت تتأرجح في علاقتها بين الهند والصين، إذ طالما حاولت الهند أن تستخدم علاقتها مع إيران، لمواجهة الصعود الصيني من خلال إنشاء خط بري من ميناء شابهار الإيراني عبر آسيا الوسطى وروسيا، بشراكة مع اليابان، ليكون بديلاً عن مبادرة الحزام والطريق الصينية، ومحاولة إنشاء خط غاز بري من إيران عبر باكستان. ولكن كل ذلك تلقى ضربة مؤلمة عندما وجدت نيودلهي مصلحتها مع المحور الأمريكي، بمساعدة كل من السعودية والإمارات.
أدّى فتور العلاقة بين إيران والهند إلى اتخاذ طهران مواقف أكثر حدّة من نيودلهي، من خلال إعلانها على لسان مسؤوليها وعلى رأسهم المرشد انتقادهم للممارسات الهندية في إقليم كشمير، وتسليط الضوء على ما يتعرّض له شعب كشمير من اضطهاد، والتقارب مع إسلام أباد التي شهدت علاقتها هي الأخرى مع الرياض تراجعاً غير مسبوق كما أسلفت، ما بثّ الدفء في هذه العلاقة الفاترة تقليديّاً، وجعل العلاقة مع الصين أمراً أكثر جدوى من التمسك بالحليف الهندي المترفّع.
بالطبع فإنّ العلاقة بين إيران والصين ليست جديدة، فاتفاقية التعاون الاستراتيجي التي زعم الإعلام الغربي أنّ قيمتها تقارب 400 مليار دولار، ووقعها مستشار الدولة زوزير الخارجية الصيني وانغ يي مع المسؤولين الإيرانيين، ليست شيئاً مفاجئاً أو جديداً، إذّ أنّها تبني على زيارة قام بها الرئيس الصيني إلى طهران عام 2016م، وتنقلها إلى مرحلة متقدمة. وهي تضم أربعة محاور: محور الطاقة ومحور البنية التحتية، ومحور الاستثمار وآخرها محور الدعم التكنولوجي. وهي مجالات تعني في محصلتها وجوداً أكبر للنفوذ الصيني في المنطقة، خصوصاً وأنّ العراق كان قد سبق إيران إلى توقيع اتفاقية مشابهة تقوم على تزويد الصين بالنفط على مدى خمس وعشرين سنة، مقابل مبالغ مسبقة الدفع تصل إلى 200 مليار دولار. ومع علاقة ممتازة مع كل من سوريا والاحتلال الإسرائيلي، تكون الصين قد أوجدت جسراً برياً من أقصى شرق آسيا عبر كل من باكستان وإيران والعراق وسوريا، وصولاً إلى شاطئ البحر المتوسط، بعيداً عن تهديدات البحار المفتوحة، وبذلك تتحول إلى دولة مشاطئة لأوروبا.
من أكثر ما يثير حفيظة الساسة الأمريكيين، هو أنّ هذه الاتفاقية ستجعل محاصرة إيران مرة أخرى أمراً غير ممكن، فمن خلال الشراكة المالية بين البلدين ستتم معاملات إيران عبر النظام المصرفي الصيني، ومن خلال التواصل الجغرافي الذي ستشكله مشاريع مبادرة الحزام والطريق ستتمكن إيران من تصدير الطاقة إلى الصين دون قيود، وكل ذلك بالعملة المحلية مما يعني إضعافاً للدولار الأمريكي.
ولعل أهم ما يميّز السلوك الصيني عن السلوك الأمريكي في المنطقة، أنّ السلوك الأمريكي يعتمد على تحريض دول المنطقة على بعضها البعض وبذر العداوات بينها، ويظهر ذلك حالياً بين السعودية وإيران، غير أنّ السلوك الصيني يقوم على الترويج للعبة “الكل رابح”، ويطرح نفسه وسيطاً بين المتخاصمين، كالإيرانيين والسعوديين والفلسطينيين والإسرائيليين، من خلال علاقته المميزة مع الجميع ووعوده السخية بالتنمية والرخاء في منطقة عانت طويلاً من الحروب وويلاتها.
لقد رأينا كيف ركّزت كل من السعودية والصين على تكامل مبادرة الحزام والطريق الصينية ورؤية الأمير محمد بن سلمان المسماة 2030، ما عكس تطوراً غير مسبوق في الدور الصيني في المنطقة، والذي بدأ يأخذ حالة أكثر مبادرة في شؤون المنطقة، ما يُعدّ منافسة للولايات المتحدة الأمريكية في ملعب طالما رأته خاصاً بها.
ومن اللافت أنّ أكثر ما يطبع سلوك دول المنطقة – صاحبة الأرض – هو غياب المشروع الشامل الذي يتعامل مع القوى الكبرى من حالة وحدة ومصلحة وطنية، ولذا ربما تدفع ثمن هذه الخصومة الخطرة بين القوى الكبرى إن حصلت، وتكون فائدتها من أي تطور إيجابي محدودة للغاية.