فضح العولمة
كارثة السوق الموعلمة الحرة
إعداد محمد مكرم بلعاوي
عن:
فخ العولمة
الاعتداء على الدميقراطية والرفاهية
تأليف: هانس بيتر مارتن / هارالد شومانترجمة : د. عدنان عباس علي
الفصل الأول
يعد فندق فيرمونت Fairmont Hotel في سان فرانسيسكو مأوى مناسب للرؤى ذات الابعاد العالمية . فهو منشأة مهمة ، وله منزلة الايقونات ، إنه نزل لسكن من اعتادوا حياة الترف والنعيم وأسطورة من أساطير الهيام بالحياة . من يعرفه يسميه تقديراً واحتراماً الفيرمونت فقط ، ومن يسكن فيه ، هو ، بلا ريب واحد من أولئك الذين ظفروا بكل ما يمنون به أنفسهم .
وكما لو كان علامة حدود عملاقة يشكل الفرمونت الحد الفاصل بين الحاضر والمستقبل ، وبين أمريكا وبلدان المحيط الهادئ ، فعلى سفوح التل بحذاء الفندق تكتظ المنازل بأكثر من مئة ألف صيني وهناك عن بعد في الخلف ، يبدو وادي السيليكون وهو موطن ثورة الكمبيوتر : Silicon Valley . ولقد درج اللكيفورنيون الذين عرفوا كيف يجنون الأرباح من الهزة الأرضية التي عصفت بالمنطقة عام 1906 وجنرالات الحرب العالمية الأمريكيون ومؤسسو الأمم المتحدة والسادة المهيمنون على مصائر مؤسسات الصناعة والمال وجميع رؤساء الجمهورية الأمريكية في هذا القرن ، درج هؤلاء جميعاً على الاحتفال بانتصاراتهم في الصالات الفسيحة المزركشة لهذا الفندق .
في هذا المكان الذي شهد أحداثاً عالمية جساماً وقف في نهاية سبتمبر من عام 1995م واحد من القلة الحاضرة والذي كان هو نفسه قد حدد مسار التاريخ محيياً نخبة من العالم ولم يكن هذا الشخص سوى ميخائيل جورباتشوف . فقد كان بعض الأثرياء الأمريكيين قد تبرعوا بالمال اللازم ليؤسسوا له في البرزيديو بخاصة – وهو مكان يقع جنوب جسر البوابة الذهبية وكان إلى نهاية الحرب الباردة موقعاً عسكريا – معهداً تعبيراً عن شكرهم وتقديرهم لشخصه . وهكذا فقد دعا جورباتشوف الآن خمسمائة من قادة العالم في مجالات السياسة والمال والاقتصاد ، وكذلك علماء من كل القارات . وكان المطلوب من هذا الجمع المختار بعناية ، والذي وصفه آخر رئيس للاتحاد السوفيتي وحامل جائرة نوبل بأنه : ما هو إلا هيئة خبراء جديدة . نعم كان المطلوب فيه هو أن يبين معالم الطريق إلى القرن الحادي والعشرين ، هذه الطريق التي ” ستفضي إلى حضارة جديدة ”
وهكذا تحتم أن يلتقي هنا قادة من المستوى العالمي مكنتهم التجربة ، من أمثال جورج بوش وجورج شولتس ومارجريت تاتشر بقادة كوكبنا الجدد من أمثال رئيس مؤسسة CNN ، هذا الرجل الذي دمج شركته بـTIME WARNER ليجعل منهما أكبر اتحاد في مجال المعلومات في العالم ؛ أو بعملاق التجارة ، ابن جنوب شرق آسيا ، واشنطون سي سيب . وقد أرادوا أن يقضوا ثلاثة أيام من التفكير بعمق وتركيز ، وفي حلقات عمل مصغرة معاً إلى جانب أقطاب العولمة في عالم الكمبيوتر والمال ، وكذلك مع ممتهني الاقتصاد الكبار وأساتذة الاقتصاد في جامعات ستانفورد وهارفرد وأكسفورد . كما طالب القائمون على التجارة الحرة في سنغافورة ، وفي الصين أيضاً بالطبع ، بأن يصغي المؤتمرون لصوتهم ، لا سيما أن الموضوع له علاقة بمستقبل البشرية جمعاء – ولقد حاول رئيس وزراء مقاطعة سكسونيا أن يعبر عن وجهة النظر الألمانية ، في المناقشات .
ولم يكن واحد من هؤلاء قد جاء إلى هنا للثرثرة . كما لم يكن مسموحاً لأحد بأن يخل بحرية التعبير . أما جمهور الصحفيين فقد تمكن المرء من الخلاص منه ومن فضوله بتكاليف لا يستهان بها . وكانت القواعد الصارمة تجبر المشاركين على التخلي عن داء الخطابية والبلاغة البديعية . ولم يُسمح للمتكلم بالتحدث والتمهيد لأحد الموضوعات بأكثر من خمس دقائق أما المداخلة فلا يجوز أن تستغرق أكثر من دقيقتين فحسب .
ويختزل البرجمايتون في فيرمونت المستقبل إلى العددين 20 إلى 80 وإلى مصطلح ” Tittytainment ”
فحسب ما يقولون فإن نسبة 20 بالمائة من السكان العاملين ستكفي في القرن القادم للحفاظ على نشاط الاقتصاد الدولي . ويؤكد عملاق التجارة “واشنطن سي سيب” هذا الرأي إذ يقول : لا، لن تكون هناك حاجة إلى قوة عاملة أكثر من هذا ” فخمس قوة العمل سيكفي لإنتاج السلع، ولسد حاجة الخدمات الرفيعة القيمة التي يحتاج إليها المجتمع العالمي. إن هذه الـ 20 بالمائة هي التي ستعمل وتكسب بالمال وتستهلك – وسيكون الأمر كذلك مع أي بلد [ من هذه البلدان الصناعية – المترجم ] أتت تتحدث ولربما زادت النسبة بمقدار نقطة أو نقطتين ، إذا ما أضفنا – كما يقول المناقشون – ورقة الأثرياء .
بعد ذلك وجه المتناقشون ذوو المنازل الرفيعة في هذا العالم ، اهتمامهم في الحلقة الدراسية عن مستقبل العمالة ” صوب أولئك الذين لن يحصلوا على فرصة للعمل . وكان الحاضرون في هذه الحلقة على ثقة تامة من أنه سيكون من جملة هؤلاء العاطلين عن العمل عشرات الملايين من جميع أنحاء المعمورة الذين ينعمون الآن بمستواهم المعاشي الذي يقترب إلى حد ما ، من المستوى الرفيع السائد الآن في حوض سان فرانسيسكو ولا يعيرون اهتماماً لمعنى العيش دونما فرصة عمل مضمونة . لقد رُسمت في فيرمونت الخطوط العريضة للنظام الاجتماعي الجديد : بلدان ثرية دون طبقة وسطى تستحق الذكر : ولكن كيف كان رد فعل الحاضرين على هذه الرؤية ؟ لم يعترض أي منهم عليها ولم يروا فيها ما يستحق المناقشة .
بدلاً من ذلك نال اهتمامهم العريض مصطلح tittytainment الذي طرحه زبجنيو برجنيسكي ( zbigniew brzezinski ) للمناقشة . وكان هذا البولندي المولد لمدة أربع سنوات مستشاراً للأمن القومي إبان إدارة الرئيس الأمريكي جيمي كارتر . أما الآن فإنه مهتم بالمسائل الجيور ستراتيجية . وحسب ما يقول برجينسكي فإن tittytainment مصطلح منحوت من الكلمتين ” Entertainment ” ( تسلية ) و ” tits ( حَلَمة ) الكلمة التي يستخدمها الأميركيون للثدي دلعاً . ولا يفكر برجنيسكي هنا بالجنس طبعاً . بل يستخدمه للإشارة إلى الحليب الذي يفيض عن ثدي الأم المرضع . فبخليط من التسلية المخدرة والتغذية الكافية يمكن تهدئة خواطر سكان المعمورة .
وهكذا راح رجال الأعمال يناقشون بحصافة ورزانة المقادير المحتملة والطرائق المتاحة للخُمس الثري لمساعدة الجزء الفائض عن الحاجة . إن إلتزاماً اجتماعياً من قبل المؤسسات الانتاجية أمر غير وارد في ظل الضغوط الناجمة عن المنافسة التي تفرضها العولمة .
لقد ظن منظمو هذه الأيام الثلاثة في فيرمونت والتي يتبقى خالدة في ذاكرة التاريخ أنهم على أبواب حضارة جديدة . إلا أن الحقيقة هي على خلاف ذلك . فالاتجاه الذي تؤخذ إليه هذه العقول الرائدة في جمال الصناعة والمال والعلم ينتقل بنا مباشرة إلى عصر ما قبل الحداقة ، إذ لم يعد مجتمع الثلثين [ الأثرياء والثلث الفقير ] الذي كان الأوربيون يخافون منه في الثمانينات هو الذي يقرر توزيع الثروة والمكانة الاجتماعية ، بل سيحددها في المستقبل ، حسب ما يقوله هؤلاء ، النموذج العالمي الجديد القائم على صيغة 20% [ يعملون ] و 80% [ بلا عمل ] . لقد لاح في الأفق ، حسب رأيهم ، مجتمع الخمس ، هذا المجتمع الذي سيتعين في ظله تهدئة خواطر العاطلين فيه عن العمل بما يسمونه TITTYTAINMENT ( ارضاع الشهوة ) ولكن هل كل هذه التنبؤات مجرد إسراف ومغالاة ؟
الإعصار الصحيح
يختزل الاقتصاديون والسياسيون أسباب تدهور فرص العمل في الغرب إلى كلمة واحدة لا غير : العولمة فحسب النظرية السائدة تحول العالم بفضل تكنولوجيا الاتصالات العالية ( الراقية ) وانخفاض التكاليف النقل وحرية التجارة الدولية إلى سوق واحد ، الأمر الذي أدى إلى منافسة أشد وطأة وأكثر شمولية ، ليس في سوق السلع فقط ، بل في سوق العمل أيضاً ، وأن الشركات الألمانية قد صارت تفضل خلق فرص عمل في بلدان أخرى أدنى أجراً . وهكذا لم يعد لدى طابور القيادة ، ابتداء من مدير المؤسسة وانتهاء بوزير العمل ، إلا رد واحد فقط على هذا التطور يتمثل بعبارة واحدة ” التضحية هي وسيلة التكيف مع العالم الجديد ” . وبالتالي صار المواطنون لا يسمعون سوى نغمة واجب التضحية بلا انقطاع . فهناك جوقة من قياديي اتحادات الصناعيين ورجالات الأعمال ومن علماء الاقتصاد والاستشاريين والوزراء يدّعون بأن الألمان – وما يقال عن الألمان من الأولى أن يقال عن النمساويين طبعاً يتميزون بساعات عمل قليلة ، ويحصلون على مداخيل عالية ، ويتمتعون بأيام عطل كثيرة ، وأنهم كثيراً ما يتغيبون عن العمل بحجة المرض . ويجد هذا الرأي دعماً صحفياً في الجرائد والإذاعة المرئية .
لقد صارت الأممية التي كانت ، فيما مضى من الزمن ، الشعار الذي اخترعه القادة العماليون في الحركة الاشتراكية الديموقراطية ليواجهوا به تجار الحروب الرأسماليون – صار شعار الطرف الآخر منذ أجل ليس بالقصير .
ففي الساحة العالمية هناك ما يزيد على 40 ألف شركة أممية من كل الأحجام تبتز :
هذا العامل بالعامل الآخر ، وهذه الدولة بالدولة الأخرى ، ومن باب : ماذا ؟ أتفرض ألمانيا 40 بالمائة ضرائب على عوائد رأس المال ؟ إن هذا لكثير جداً فايرلندا تفرض 10 بالمائة فقط وهي راضية كل الرضا ، أما ماليزيا وبعض الولايات الاتحادية الأمريكية فإنها تتخلى عن مثل هذه الضريبة في الأعوام الخمس أو العشرة الأولى لبدء إنتاج المشروعات . وماذا عن أجر العامل الفني ؟ 45 ماركاً ؟ إنه أجر مرتفع جداً ، فالبريطانيون يعملون بما يقل عن النصف ، والتشيك بعشره فقط . و 33 بالمائة فقط هو مقدار الدعم الذي تقدمه إيطاليا للاستثمارات في المصانع الجديدة ؟ إنه نسبة قليلة جداً ، ففي ألمانيا الشرقية تمنح الدولة ، وهي راضية كل الرضا 80 بالمائة .
إن أممية رأس المال الجديدة تقتلع دولاً بمجملها ، وما تقوم عليه هذه الدول من أنظمة اجتماعية من الجذور . فمن ناحية هي تهدد ، مرة هنا ومرة هناك ، بهروب رأس المال لكي تجبر الحكومات على تقديم تنازلات ضريبية عظيمة ، ومنح تبلغ المليارات أو إقامة مشروعات بنية تحتية لا تكلفها شيئاً وحيثما لا يجدي التهديد نفعاً فإنها تساعد نفسها بوضع خطط ضريبيّة على مستوى عالي جداً : فالأرباح لا تعلن إلا في تلك البلدان التي يكون فيها معدل الضريبة منخفضاً فعلاً . وهكذا انخفضت على المستوى العالمي النسبة التي يشارك بها أصحاب رؤوس المال والثروة في تمويل المشاريع الحكومية . أما في الناحية الأخرى فإن الموجهين للتدفقات العالمية لرأس المال ، ويخفضون باستمرار مستوى أجور عمالهم الدافعين للضرائب الحكومية الأمر الذي يترتب عليه انخفاض حصة الأجور من الدخل القومي على المستوى العالمي هذا ولا توجد دولة بوسعها أن تتخصص ، بمفردها من هذه الضغوط .
وفي حين ترتفع أسعار الأسهم وأرباح المؤسسات بنسب تبلغ عشرة بالمائة وأكثر تنخفض أجور العاملين ورواتب المستخدمين . وفي نفس الوقت تتفاقم البطالة بشكل مواز للعجوزات في الموازنات الحكومية .
ولا ريب في أن رافعي راية العولمة ، إنما يحاولون بما يختارون من عبارات وصور الإيحاء بأن الأمر يتعلق بحدث شبيه بالأحداث الطبيعية التي لا قدرة لنا على ردها والوقوف بوجهها ، أي أنها نتيجة حتمية لتطور تكنولوجي واقتصادي ليس بوسعنا إلا الإذعان له . والواقع أن هذا ليس إلا ثرثرة . فالتشابكات الاقتصادية ذات الطابع العالمي ليست حدثا طبيعياً بأي حال من الأحوال ، إنما هي نتيجة حتمية خلقتها سياسات معينة بوعي وإرادة . فالحكومات والبرلمانات هي التي وقعت الاتفاقيات وسنت القوانين التي ألغت الحدود والحواجز التي كانت تحد من تنقل رؤوس الأموال والسلع من دولة إلى دولة أخرى . فرجالات الحكم في الدول الصناعية الغربية هم الذين خلقوا ، ابتداء من تحريرهم المتاجرة بالعملات الأجنبية وعبر السوق الأوروبية المشتركة ، وانتهاء بالتوسع المستمر لاتفاقية التجارة العالمية المسماة ” الجات ” بانتظام الحالة التي يعجزون الآن عن معالجتها .
الديموقراطية في المصيدة :
يتزامن التكامل العالمي مع انتشار نظرية اقتصادية ينصح بها عدد كبير من الخبراء والاستشاريين الاقتصاديين ، ويقدمونها دون كلل أو ملل للمسؤولين عن إدارة دفة السياسة الاقتصادية على أنها النهج الصحيح : إنها ( الليبرالية الجديدة ) والمقولة الأساسية لهذه النظرية الجديدة هي ببساطة : ” ما يفرزه السوق صالح أما تدخل الدولة فهو طالح . “
اتخذت في الثمانينيات الغالبية الغالبية العظمى من الحكومات الغربية هذه النظرية الليبرالية مناراً تهتدي به في سياساتها . وهكذا صار عدم تدخل الدولة إلى جانب تحرير التجارة وحرية تنقل رؤوس الأموال ، وخصخصة المشروعات والشركات ، الحكومية ، أسلحة استراتيجية في ترسانة الحكومات المؤمنة بأداء السوق وفي ترسانة المؤسسات والمنظمات الدولية المسيرة من قبل هذه الحكومات والمتمثلة في – البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ( IMF) ومنظمة التجارة العالمية ( WTO ) فقد غدت هذه المؤسسات الوسائل التي تحارب بها هذه الحكومات في معركتها الدائرة رحاها حتى الآن من أجل تحرير رأس المال .
أعطى انهيار دكتاتورية الحزب الواحد ، في أوروبا الشرقية ، هذه العقيدة دفعة إضافية ، ومنها القدرة لتصبح ذات أبعاد عالمية فمنذ نهاية خطر الدكتاتورية البروليتارية ، فإن العمل جار على قدم وساق وبكل جدية ، وإصرار على تشييد دكتاتورية السوق العالمية . وهكذا تبين فجأة بأن الرفاهية التي تنعّم بها جمهور عريض من العاملين لم تكن سوى تنازل اقتضته ظروف الحرب الباردة وحتمته الرغبة في عدم تمكين الدعاية الشيوعية من كسب موقع قدم .
ولكن ومع هذا فإن الرأسمالية النفّاثة ” التي تبدو الآن كما لو كان انتصارها على المستوى العالمي قد صار أمراً حتمياً ، إنما هي في طريقها لهدم الأساس الذي يضمن وجودها : أعني الدولة المتماسكة والاستقرار الديمقراطية . فالتغير وإعادة توزيع السلطة والثروة بقضيان على الفئات الاجتماعية القديمة بسرعة لا تعطي الجديد فرصة لأن يتطور على نحو متزامن معها . وهكذا أخذت البلدان التي تعتبر حتى الآن بلدان الرفاهية تستهلك رأسمالها الاجتماعي ، الذي ضمن لها حتى الآن الوحدة والتماسك ، بخطى سريعة جداً تفوق حتى الخُطى التي تدمرها البيئة . ويدعو الاقتصاديون والسياسيون الليبراليون الجدد العالم للاقتداء بـ ” النموذج الأمريكي ” ، إلا أن واقع هذه الدعوة مريب وشبيه بالدعاية التي كانت تطلقا حكومة ألمانيا الشرقية ، حينما كانت تقول عن نفسها ، إنها ستبقى تتعلم الانتصار من الاتحاد السوفيتي دائماً أبداً .
فليس هناك مكان آخر يبدو فيه التدهور بيناً للعيان كما هو بين في حالة الموطن الأصلي الرأسمالية المضادة : الولايات المتحدة الأمريكية . فالجريمة ، اتخذت هناك ابعاداً بحيث صارت وباءً واسع الانتشار . ففي ولاية كاليفورنيا – التي تحتل بمفردها المرتبة السابعة في قائمة القوى الاقتصادية العالمية فاق الإنفاق على السجون المجموع الكلي لميزانية التعليم . وهناك 28 مليون مواطن أمريكي ، أي ما يزيد على عُشر السكان ، قد حصنوا أنفسهم في أبنية وأحياء سكنية محروسة . ومن هنا فليس بالأمر الغريب أن ينفق المواطنون الأمريكيون على حراسهم المسلحين ضعف ما تنفق الدولة على الشرطة
لكن أوربا واليابان ، وكذلك الصين والهند ، هي الأخرى تتفتت وتنقسم إلى قلة
قليلة من الرابحين وأغلبية ساحقة من الخاسرين . فما تفرزه العولمة من تقدم ليس من منظور مئات الملايين تقدماً . وهكذا ينصب استنكار الخاسرين على الحكومات والسياسيين الذين تتآكل باستمرار سلطتهم وقابليتهم على إحداث التغيرات المطلوبة .
وإذا ما ظلت الحكومات تتحجج في كل المسائل المستقبلية الجوهرية بما عليه عليها الاقتصاد المعولم من مواقف لا قدرة لها على التحكم بها ، فعندئذ تصبح السياسة برمتها مسرحاً يضم حشداً من رجال مسلوبي الارادة ، وتفقد الدولة الديمقراطية شرعيتها ، وتصبح العولمة مصيدة للديموقراطية .
إن المنظرين السذج والسياسيين قصيري النظر فقط ، هم الذين يعتقدون أن بإمكان المرء أن يُسرِّح سنوياً ملايين من العاملين من عملهم ويحجب عنهم وسائل التكافل الاجتماعي – وهذا هو ما يحدث في أوروبا حالياً – من دون أن يدفع في يوم من الأيام ثمن هذه السياسة . إن سياسة من هذا القبيل عرجاء بلا ريب : فخلافاً لمنطق راسمي خطط المؤسسات الصناعية الكبرى ، هذا المنطق الذي لا ينظر للأمور إلا من منظار المشروع ، لا يوجد في المجتمعات القائمة على أسس ديموقراطية ” مواطنون فائضون عن الحاجة ” .
فالخاسرون يتمتعون بحق التصويت ، وهم سيستغلون هذا الحق بلا ريب : ومن هنا فليس هناك ما يدعو إلى الطمأنينة . فالهزة الاجتماعية ستلحق بها نتائج سياسية . لقد بات المواطن يسمع في كل نشرة أخبار أن سبب محنته تقع على عاتق المنافسة .
ولا مراء في أن ثمة خطوة قصيرة واحدة فقط تقود من هذا التبرير الخاطئ من الناحية الاقتصادية – إلى العداء المكشوف لكل ما هو غريب : وهكذا نلاحظ أن هناك ملايين من أبناء الطبقة الوسطى الخائفة قد صاروا منذ أمد ليس بالقصير ، يعتقدون أن خلاصهم يكمن في كراهية الغرباء وفي الانكفاء على الذات والعزلة عن السوق العالمية ، وبالتالي فقد صار رد فعل المعزولين يتجسد في عزل الآخرين
هذا وإن كان التاريخ لا يعيد نفسه ، إلا أنه مع هذا لا تزال الحرب – ولو بصيغة الحرب الأهلية ضد أقلية قومية أو مقاطعات انفصالية – هي التنفيس الأكثر احتمالاً حينما تصل التناقضات الاجتماعية حداً لا يحتمل . إن العولمة لا تؤدي بالضرورة إلى صراعات عسكرية ، إلا أنها يمكن أن تؤدي إلى ذلك إذا عجز المرء عن تحقيق الترويض الاجتماعي لقوى الاقتصاد المعولم الهائجة .
الفصل الثاني
كل شئ صار موجوداً في كل مكان / ضغوط العولمة والانهيار المعولم
لم يعد ثمة شك في أنه لو طُلب اليوم من سكان المعمورة التصويت لأي أسلوب في الحياة هم يفضلون ، لكان بوسعهم ذلك . فهناك ما يزيد على خمسمائة قمر صناعي تدور حول الأرض ، مرسلة إشارات لاسلكية للحداثة التي صارت تنعم بها بعض الشعوب . فبواسطة الصور الموحدة على شاشات مليار من أجهزة التلفزيون تتشابه الأحلام والأماني ، على ضفاف الأمور ويانع تسه والأمازون والغانج والنيل . لقد اقتلعت ” الأطباق المستقبلة لما ترسله الأقمار الصناعية وكذلك مولدات الكهرباء العاملة بالقوة الشمسية في المناطق النائية غير المربوطة حتى الآن بالشبكة الكهربائية ، كما هو الحال في النيجر في غرب أفريقيا ، ملايين من البشر ” من حياتها القروية رامية بهم في خضم أبعاد فلكية ” .
وهكذا لم يحدث في التاريخ أبداً ، أن سمع وعرف عدد هائل من سكان المعمورة عما يجري في باقي أنحاء العالم من أحداث كما هو اليوم ، ولأول مرة في التاريخ صارت البشرية وحدة واحدة في تخيلها للوجود .
ولو قدر لستة المليارات إنسان ، الذين هم سكان المعمورة أن ينتخبوا الحياة التي يريدونها ، لانتخبت الغالبية العظمى منهم حياة الطبقة الوسطى السائدة في أحد أحياء سان فرانسسكو ، ولاختارت أقلية منهم مطلعة على واقع الحال وذات كفاءة عالية بالاضافة إلى ذلك مستويات الرعاية الاجتماعية التي كانت سائدة في ألمانيا الغربية في السنوات التي سبقت انهيار جدار برلين .
والت ديزني فوق الجميع :
ولكن كم استطاع أسلوب الحياة السائد في كاليفورنيا أن يغزو العالم ، وكم انتصر والت ديزني على كل شيء آخر ؟ حقاً لعبت سعة السوق الأمريكية والقوة الجيوسياسية التي حظيت بها الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية ، وجدارة إدارتها للحرب الإعلامية إبان الحرب الباردة دوراً مركزياً ، ولكن ومع هذا لا يمكن اعتبار هذا كله هو فقط العامل الحاسم . فالأمر ببساطة هو أن ستالين أراد أن يكون القوة العظمى ، إلاّ أن أميكي ماوس قد تغلب عليه .
إن سبب نجاح استعمار والت ديزني ” للثقافة العالمية ” يكمن ، حسب ما يعتقد باربير ، في ظاهرة تدعية قدم الحضارة : إنها المنافسة بين الشاق والسهل ، بين البطئ والسريع ، بين المعقد والبسيط . فكل أول من هذه الأزواج يرتبط بنتاج ثقافي يدعو للإعجاب والإكبار ، أما كل ثان من هذه الأزواج فإنه يتلاءم مع لهونا وتعبنا وخمولنا . إن دزني ومكدونالدز و MTV تروج لما هو سهل وسريع وبسيط .
إن مؤسسات الاعلام العملاقة قد صارت مجهزة على أفضل نحو للنهوض بأعباء ارضاع الشهوة ” التي أمعن التفكير فيها موجهو العالم الذين جمعت شملهم مؤسسة جورباتشوف الخيرية في سان فرانسيسكو . فما تثبه هذه المؤسسات من صور هو الذي يدغدغ الأحلام ، والأحلام هي التي تحدد الأفعال .
لقد ازداد الطلب على السيل الهائل من السلع التي يجري الإعلان عنها والدعاية لها على مستوى دولي ، بحيث بدا كما لو أن محراثا يجوب المعمورة ويقلبها ويقلب المراكز التجارية في مدنها رأساً على عقب . وكما يقول الناقد الاجتماعي ايفان إيليش ساخراً فقد ” صار العطش يرتبط على نحو مباشر بالحاجة إلى الكوكاكولا ” لقد صارت نفس الأسماء المعروفة ، ابتداء من CALVIN KELIN وعبر KODAK وانتهاء بـ LOWS VUITTON هي التي تسود أرجاء المعمورة . وأخذت الأفكار والسلع تتطبع بما تعرضه القلة المتبقية من دور السينما من أفلام ، أي أنها – أعني الأفكار والسلع – صارت تلبس جلباباً موحداً وبسرعة مدمرة بالنسبة لأصحاب المحلات والمتاجر الوطنية .
تحضر المدن
سواء لأغراض ذات علاقة بالعمل أو بهدف الراحة والاستجمام ، تنتقل الطبقة – الوسطى من أبناء المدن الاقتصادية المزدهرة من مكان إلى آخر على سطح المعمورة بسرعة لا مثيل لها في التاريخ . من ناحية أخرى بلغ عدد الأفراد الذين يستخدمون باستمرار شبكة الانترنت العالمية 90 مليوناً ، علماً بأن هذا العدد يزداد أسبوعيا بحوالي نصف مليون .
لقد صار هؤلاء جميعاً ( المستعملون له ) يشعرون بأنهم مواطنون عالمون منفتحون على العالم أجمع ، متناسين أن علاقاتهم العالمية هذه غالباً ما تكون ذات أفق ضيق محدود ، ومحصورة بأجواء عملهم . ومهما كان الحال فإن الأمر الذي لأمراء فيه هو أن الصحفيين وخبراء برامج الكمبيوتر والممثلين يقومون برحلات أكثر ويتحملون عنتاً أشد مما يقوم به الدبلوماسيون والقائمون على شؤون السياسة الخارجية .
ولكن مع هذا كله ، يظل التنقل مؤشراً للمستقبل الذي سيكون عليه العالم : فكل المؤشرات تؤكد أنه ستكون هناك شبكة إلكترونية كثيفة – وأجهزة تليفون تبث عبر الأقمار الصناعية ، ومطارات رائعة ا لإنجاز وطابور من عربات النقل لدى المصانع والمؤسسات تربط في مطلع القرن القادم ، ما يقرب من 30 مدينة مبعثرة في أرجاء المعمورة – تفصل بينها مسافات شاسعة ، وتضم ما بين ثمانية ملايين وخمسة وعشرين مليون ساكن . في هذه المدن سيعتقد السكان بأن ثمة أواصر قربى تربط بينهم ، هي ، وإن فصلت بينهم آلاف الكيلومترات ، أشد متانة من الأواصر التي تربطهم بالمواطنين الآخرين في بلادهم الأصلية .
وحسبما يتوقع الإيطالي – المختص بشؤون المستقبل ريكاردوبيترلا ، ستكون السلطة ” في أيدي مجموعة متحدة من رجالات الأعمال الدوليين وحكومات مدن ، همها الأول هو تعزيز القوة التنافسية لتلك المشاريع والمؤسسات العالمية المستوطنة في مدنها ” والواقع أن هذا هو ما تحقق الآن فالمراكز الاقتصادية في آسيا في سباق دائم . ومعنى هذا هو أن الشبيبة قد صارت تعيش في كل القارات ، بمدن ذات طبيعة مختلفة كلية مقارنة بما عاشه الآباء ، إنها مدن معولمة فعلاً . وهكذا لم تعد باريس ولندن ونيويورك ، ولا موسكو أو شيكاغو هي مدن الخوارق والمعجزات . فمنذ مارس 1996 صارت العاصمة الماليزية كوالالومبور هي المدينة التي تتربع على كتفيها أعلى ناطحة سحاب في العالم ، كما لم تعد الآن برلين هي المدينة التي يعلو سطوحها أكبر عدد من آلات البناء الرافعة ، إنما هي الآن بكين وشانغهاي .
تصدع العالم الواحد : لقد أخذت تسود أرجاء المعمورة من شبيهة بأتلانتا من حيث التقنية العالية وعدم الاهتمام بالمشاعر الإنسانية . ومع أن أرخبيل الثراء هذا صار يشد أجزاء العالم بعضها إلى البعض الآخر ، إلا أن هذه الجزر ظلت أجساماً غريبة عما يحيط بها من مجتمع . وتنطبق هذه الحقيقة على الدول التي لا تزال في مرحلة النمو أيضاً ، فما في هذه الدول من مدن شبيهة بمدينة كولالمبور ليست في واقع الحال سوى قلاع للاقتصاد المعولم . فالجزء الأعظم من العالم يتحول ، خلافاً لتلك الجزر ، إلى عالم بؤس وفاقه عالم غني يصنع مدن كبرى فقط وبأحياء فقر وجوع هي الأخرى كبرى أيضاً ، ويسكنها مليارات من البشر لا يسدون رمقهم إلا بالكاد . ومما تجب الإشارة إليه هنا أن سكان هذه المدن يزدادون أسبوعياً مليون نسمة .
إن 358 مليارديراً يمتلكون معا ثروة تضاهي ما يملكه 5،2 مليار من سكان المعمورة ، أي أنها تضاهي مجموع ما يملكه نصف سكان العالم . من ناحية أخرى ينخفض باستمرار ما تقدمه الدول الصناعية من معونة إلى الدول النامية . إنها لحقيقة لا تقبل
الشك ، أن الاستثمارات الخاصة القادمة من البلدان الفنية قد فاقت في هذه الفترة مجموع المساعدات المالية الحكومية ، إلا أن الأمر الذي لا خلاف عليه أيضاً هو أن المنتفع الأول من هذه الاستثمارات هو مناطق محدودة من العالم لا غير . فبسبب ” مخاطر الاستثمار ” غالباً ما يساوي معدل الربحية المرغوب في تحقيقه ” 30 بالمائة في السنة ، كما هو الحال في مشروعات شبكات مياه الشرب في الهند وأندونيسيا . لقد ارتفع المجموع الكلي لمديونية الدول النامية ، على الرغم من كل ما تقدمه حكومات الشمال من تعهدات على أنها ستتخذ الخطوات اللازمة لشطب نسبة كبيرة من هذه الديون . ففي عام 1996 ارتفعت هذه الديون لتصل 940 ، 1 ألف مليار دولار ، أن أنها ارتفعت إلى ضعف ما كانت عليه قبل عشرة أعوام .
لقد صارت الأفواه تردد في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ، بعناد متعاظم ، نغمة مفادها أننا نحن أنفسنا بأمس الحاجة للمساعدة . إننا نحن أنفسنا ، هكذا يشعر ملايين الناخبين ، ومن ضمنهم أولئك الساكنون في مراكز والازدهار الاقتصادي ، أصبحنا مخدوعي ومغشوشي الأزمنة الجديدة . في ظل الخوف المميت من فقدان فرصة العمل والمهنة ومستقبل الأطفال يداخل المتأملين للتطور الجديد عدم ثقة وخوف من نوع جديد . إنه الخوف من أن يكشف الرفاه الذي تعيشه الطبقى الوسطى في الغرب الآن وترى فيه أمراً مسلماً به عن نفسه .
ولما كان المجتمع يزداد من الناحية الاقتصادية تفككا ، لذا يعتقد أولئك السكان المرعوبون بأن الخلاص السياسي يكمن في العزلة والانفصال . ومن هنا فقد تعين في السنوات الماضية إضافة العشرات من الدول الجديدة إلى خارطة العالم ، وكان عدد الدول المشاركة في دورة اتلانتا الآولمبية قد بلغ 197 دولة . وها هي إيطاليا ، لا بل حتى سويسرا نفسها ، قد صارت تخشى من تفكك وحدة ترابها الوطني .
إن الروح العشائرية تستفحل في كل الأرجاء ، وفي كثير من المناطق باتت تلوح في الأفق مخاطر العودة إلى العنف القومي أو إلى الشوفينية الاقليمية .
وهكذا خلافاً للحروب التقليدية التي نشبت في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ، لم تعد رحى الحرب تدور بين الدول ، بل صارت تدور في الدول نفسها ، والأمر البين أن الصراعات في داخل الحدود الوطنية نادراً ما تجد اهتماما دولياً ، على الرغم من الخسائر الجسيمة التي تسببها .
ففي جنوب أفريقيا على سبيل المثال ، لقي بعد عام سياسة التمييز العنصري ، سبعة عشر ألف فرد حتفهم في سياق ما دار من صراعات داخلية ، أن أن الخسائر في الأرواح فاقت ما كبدته الحرب الأهلية التي استمرت ستة عشر عاماً .
وبما أن 95 بالمائة من الزيادة السكانية تتركز في أفقر مناطق المعمورة ، لذا لم يعد السؤال يدور حول ما إذا كانت ستندلع حروب أم لا ، إنما صار يدور حول طبيعة هذه الحروب وحول مَنْ سيحارب من . فمن بين الاثنتين والعشرين دولة عربية ، ينخفض الناتج القومي في سبع عشرة دولة منها ، وهذا في وقت يتوقع فيه المرء أن يتضاعف حجم السكان في بعض من هذه الدول العشرين القادمة . من ناحية أخرى ستكون المياه أشد ندرة في العديد من المناطق . وعلى وجه الخصوص في أواسط آسيا وفي المملكة العربية السعودية وفي مصر وأثيوبيا . ويعلق كابلان – الخبير الأمريكي في شؤون العالم الثالث – في هذا السياق قائلاً ” في هذا الجزء من العالم ” سيكون الإسلام . بسبب تأييده المطلق للمقهورين والمظلومين هو الديانة الوحيدة المستعدة للمنازلة والكفاح . ومن هنا فليس مصادفة أن يكسب الانفصاليون والمتحمسون المتدينون ، من المغرب وعبر الجزائر وحتى الهند وأندونيسيا ، أنصار أكثر فأكثر .
وكان الاستاذ في جامعة هارفارد صموئيل ب . هنتينغون قد نشر في عام 1993 في مجلة FOREIGN AFFAIRS وهي المجلة الأمريكية المرموقة في أواسط المثقفين والمهتمين بالسياسة الخارجية ، بحثا نال شهرة واسعة يطرح في عنوانه السؤال عن : ” صراع الحضارات ” . وكانت نظريته القائلة بأن المستقبل لن يتحدد من خلال اختلاف النظم الاجتماعية ، كما كان الحال إبان الحرب الباردة ، بل ستمدد من خلال ما يدور بين الحضارات من صراعات دينية وثقافية ، قد نالت اهتماماً واسعاً في الدول الغربية على وجه الخصوص . ولا ريب أن هينتغون قد أيقظ في بحثه هذا الفزع القديم الذي يهيمن على أوروبا ، حينما اجتاحتها ، قرنا بعد قرن الهون ، والأتراك والروس . ولكن أهناك ما يبرر هذا الفزع ؟ هل ستحقق فعلاً نبوءة ، باحث هارفارد بالشؤون الاتراتيجية ويصطدم الغرب ؟ ذو النهج الديمقراطي بباقي العالم ؟
إننا نشك في صحة هذه النظرية شكا كبيراً ، لا سيما إذا ما أخذنا بين الاعتبار أن الدول التي لا تزال ثرية حتى الآن قد راحت هي نفسها تقوم – في ظل العالم الجديد الذي لم يعد فيه للبعد الجغرافي أهمية تذكر الآن من نظام للتكافل الاجتماعي بسرعة تدعو للدهشة والعجب ، متسببة في خلق توترات سياسية في العالم الغربي ، وفي نفس الوقت تلم الثقافة الواحدة العالمية شمل النخبة دونما أهمية تذكر للانتماء القومي .
ولكن ومع هذا كله لا تنزح الملايين من سكان الريف والمدن الصغيرة إلى المراكز العملاقة المكتظة بالسكان ، نزوح المشردين الضائعين الذين لا علم لهم بمأواهم الجديد . فحسب إحدى الدراسات عن نيودلهي تتخذ الغالبية العظمى من النازحين قرارها بالانتقال ، بعد ما يدبر لهم الأصدقاء أو الأقرباء أو القاطنون في المدينة العملاقة فرصة للعمل . ومن هنا فإن النازحين غالباً ما يكونون في وضع اقتصادي أفضل من الوضع الذي يعيشه الجمع الفقير من الفقراء المولودين في المدينة العملاقة .
إن عدم الطمأنينة قد عم حتى القمة المسؤول عن السياسة الدولية . فما هو بطرس غالي الأمين العام السابق للأمم المتحدة يدق الأجراس في إحدى محاضراته ، إذ يقول : ” إننا نعيش في غِمرة ثورة شملت المعمورة بأجمعها ” ويزيد توضيحياً فيقول : ” إن كوكبنا يخضع لضغط تفرزه قوتان عظيمتان متضادتان : إنها العولمة – والتفكك . ”
العدو هو نحن:
لقد أثبت نموذج الحضارة الذي ابتكرته أوروبا فيما مضى ، ديناميكيته ونجاحه على نحو لا مثيل له بلا مراء . ولكنه ، ومع هذا ، لم يعد صالحاً لبناء المستقبل . فما بشر به الرئيس الأمريكي هاري ترومان فقراء العالم في عام 1949 ، بضرورة ” رفع المستويات المعيشي على نحو جوهري ” لكل أبناء : الأقطار المتخلفة ” وذلك عن طريق ” زيادة الانتاج الصناعي ” أمر لن يتحقق .
فالآن على وجه الخصوص ، أي في هذا الزمن صارت فيه مليارات البشرة الموحدة تلفزيونياً من بوغوتا [ في كولومبيا ] وحتى ياكوتسك [ في روسيا ] تتطلع إلى تحقيق تطور يقتفي خطى النموذج الغربي ، تخلى أولئك الذين يدعون بصلاحية هذا النموذج عن دعواهم . فهؤلاء لم يعودوا قادرين ، ولاحت في بلدانهم ذاتها – أعني في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا على الوفاء بما تعهدوا به ، ولم يعودوا قادرين على التحكم في التفاوت الاجتماعي المتزايد .
وبناء على هذا ، هل هناك من سيفكر في تحقيق نمو اقتصادي منسجم مع البيئة وفي توزيع عادل للثروة في العالم الثالث ؟ وهكذا تكشف دعوة النمو والتطور المعزورة عن نفسها وتثبت أنها لم تكن سوى سلاح من ترسانة الحرب الباردة ، أي أنها سلاح عصر مضى وانقضى ، ومن الأولى بها ، أن تُوضع ، بناء على هذا المنطق ، في متحف الأسلحة القديمة .
إن نداء العصر الجديد هو ” لينقذ نفسه من يستطيع ذلك ” ، ولكن من هو هذا الذي يستطيع ذلك ؟ فانتصار الرأسمالية لا يعني أبداً نهاية التاريخ ” التي تحدث عنها الفيلسوف الأمريكي فنسيس فوكوياما في عام 1989 – إنما هو يعني نهاية ذلك الشروع المسمى بكل جرأة وغرور ” الحداثة ” . فثمة – فعلاً – تحول تاريخي بأبعاد عالمية ، إذ لم يعد التقدم والرفاء ، بل صار التدهور الاقتصادي والتدمير البيئي والانحطاط الثقافي ، هي الأمور التي تخيم بطابعها على الحياة اليومية للغالبية العظمى من البشرية .
لقد غطى القلق بسبب فقدان فرصة العمل والاهتمام بموضوع الوئام الاجتماعي على مشكلات البيئة بكل تأكيد ، إلا أن تراجع الاهتمام بهذه المشكلات لا يعني أبداً أن الحالة البيئية في العالم قد تحسنت فمنذ انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية في ريودي جانيرو في عام 1992 م ، لم يحدث أن تغير ملموس في النمط العالمي لاستهلاك الموارد الطبيعية .
إن الوقوف في وجه تغير المناخ لم يعد أمراً ممكناً ، الأمر الممكن هو – في أفضل الحالات – التخفيف من وطأة هذا التغير . ” إن ارتفاع حرارة المعمورة وما يفرز هذا الارتفاع من عواصف وفيضانات قد صار اليوم حقيقة تؤخذ بالحسبان ” . ولقد أضحى ارتفاع سطح البحر أمراً لا مفر منه البتة ، الأمر الذي يعني أن عصر المدن وإن لم ير النور إلا بالكاد ، يمكن أن يصل إلى نهايته المفاجئة في عام 2050 . فأربعة أخماس التجمعات السكانية التي يقطنها أكثر من نصف مليون مواطن تقع في أماكن قريبة من السواحل ، ومن ضمن هذه التجمعات السكنية هناك ثلاثة أخماس المدن العملاقة . وهكذا فإن بومباي وبانكوك واستنبول ونيويورك قد غدت مدناً مهددة الوجود ، ولكن ومع هذا لا تُنشئ إلا قلة قليلة منها سدوداً شبيهة بالسدود التي تقي هولندا من الفياضات .
ومهما كان الحال فإن الأمر الذي لا ريب فيه هو أن المشكلة البيئية ، عامل يساعد على بزوخ فجر مجتمع العشرين إلى الثمانين . فكلما كانت المواد الغذائية أكثر ندرة وأغلى ثمنا كان عدد المستهلكين لها أول . أما من ينتجها فإن هذا هو الذي بإمكانه تحقيق أرباح أوفر .
فالتباطؤ في تحقيق تحالف سياسي لمواجهة ارتفاع حرارة الجوفي المعمورة ، يكمن أيضاً في حقيقة – أنه لا يزال هناك الكثير من ملايين الأفراد المنتفعين بما يطرأ على المناخ من تغير ولكن ، ومن ناحية أخرى ، فإن الاعتقاد بأن كل الجهود لن تجدي نفعاً ، وأن الكارثة قادمة لا محالة ، خاطئ بكل تأكيد . إنه تشجيع على تناسي المشكلة وعلى الوقوف بأيد مغلولة حيالها لا سيما أن الراحة تكمن في التقاعس وانتظار ضياع مستقبل البشرية .
إننا لا نعتقد بأن هناك كارثة ستحل في المعمورة تنهي ما بها من حياة وما تنطوي عليه هذه الحياة من مشكلات . فالبشرية ستمر بالحياة بكل تأكيد . إن المشكلة ههنا تدور فقط حول الكيفية وحول نسبة أولئك الذين سيعيشون حياة مرفهة ، وأولئك الذين سيعيشون حياة الفاقة – والحرمان ليس في الدول الفقيرة فحسب ، بل وفي الدول الصناعية أيضاً .
سقط جدار برلين ، الأمر الذي دفع الكثير من المتفائلين للاعتقاد بأن النضال من أجل إنقاذ المعمورة ، سيحل بدل الحرب الأيديولوجية بين المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي . وفي بادئ الأمر كان لهذا التصور بريقه ، لا سيما أن المرء قد توافرت له الآن طاقات هائلة كانت مخصصة فيما مضى لإدارة متطلبات الحرب الباردة المشتعلة ، بتكاليف باهضة هائلة وبحماسة منقطعة النظير إلا أن النتيجة لم تكن للأسف ، على هذا النحو . ولربما يعود سبب ذلك إلى أن مناهضة الشيوعية كانت تنصب على عدد خارجي واضح ، وأن هذه المناهضة كانت حصيلة غرائز بشرية عمرها آلاف السنين . ” أما التهديد السائد اليوم فهو بلا وجه ، إن العدو هو نحن أنفسنا ” .
القيم كقوة عظمى :
لقد فقدت التنبؤات بشأن الغذاء العالمي الكثير من مصداقيتها منذ أن ثبت بطلان نظرية روبرت مالتوس ، ولكن ومع هذا فإن كل الدلائل تؤكد على أن التفاقم الحاصل لا يمكن مواجهته إلا ” بثورة خضراء ” ثانية ، وعلى نحو عظيم يفوق كل ما عرفته البشرية حتى الآن . فعلى الرغم من الإنتاج المتزايد بفعل تكنولوجيا الجينات وبفعل التحسن المستمر في البذور وفي الأسمدة ، لم يعد أحد في هذا العالم يعتقد بإمكانية تحقق نمو كاف في الإنتاج ، يؤدي إلى الإبقاء على سعر القمح بمستواه الحالي . وحتى إن أقدم المرء مجدداً على زراعة الأرض التي كان المرء في أوروبا وأمريكا الشمالية . قد تخلى عن استغلالها في السنوات الماضية ، فإنه هذا لن يكون ، مقارنة بالطلب العالمي المتزايد ، سوى زيادة ضئيلة.
وعلى الرغم من هذا الحالة المتفاقمة يستمر القضاء على الأراضي الزراعية . فاليابان وكوريا الجنوبية وتايودن وهي البلدان الآسيوية الأولى التي استطاعت أن تتحول إلى أمم صناعية ، ضمت منذ الستينيات بما مجموعه 40 بالمائة من مجمل الأراضي المخصصة لإنتاج الحبوب ، وذلك لمصلحة آلاف المصانع وأحياء السُكنى والشوارع . أما في أندونيسيا ، وعلى وجه التحديد في جاوة ، فإنه يتم الآن سنويا القضاء على 20 ألف هكتار من الأراضي الزراعية أي أنه يتم القضاء على مساحة تكفي لإطعام 360 ألف مواطن . ويحدث هذا على الرغم من زيادة السكان في هذا البلد الصاعد حديثاً إلى مصاف البلدان المتطورة ، بمقدار ثلاثة ملايين في نفس الفترة الزمنية . وكذلك الصين والهند ، فهي أيضاً في طريقها لاقتراف نفس الخطأ .
وهكذا صار تجار الحبوب ينتظرون وهم واثقون مطمئنون ، ارتفاع الأسعار في الأسواق العالمية وإن كان سعر القمح قد ارتفع في الفترة الواقعة بين مايو 1995 ومايو 1996 بمقدار 60 بالمائة . وحسب تقديرات منظمة الغذاء التابعة للأمم المتحدة FAO في روما ، فقد كلفت الزيادة الأخيرة في الأسعار البلدان الفقيرة ثلاثة مليارات إضافية.
” حينما تتوقف الكعكة عن النمو ” حسب ما يقوله لتربراون [ أحد أشهر دعاة المحافظة على البيئة ] بتغيير الحراك السياسي ” . فحجم صادرات الحبوب في العالم بلغ الآن 200 مليون طن سنوياً . وتصدر الولايات المتحدة الأمريكية ، بمفردها ، نصف هذه الكمية . ” إن هذا يعني ” – حسب استنتاجات براون – ” أن الولايات المتحدة الأمريكية ستكون في المستقبل في مجال الغذاء أيضاً القوة العظمى دون منازع . وسيتيح هذا الأمر الفرصة لأن يُستغل الغذاء ويتحول إلى وسيلة ضغط سياسي . ” فالصين على سبيل المثال ستستورد ، بناء على أحدث التقديرات ، في عام 2000 حوالي 37 مليون طن قمح ، أي أنها ستستورد ما يفوق مجموع ما تصدره الولايات المتحدة الأمريكية من قضية الحبوب هذه إلى العالم الخارجي .
وهكذا لا تعني العولمة ” استعماراً ثقافياً أمريكيا ” في مجال اللهو والتسلية فقط فالولايات المتحدة باعتبارها ” القوة العظمى في الثقافة المستهلكة من الجمهور العام لن تهيمن على وسائل اللهو والتسلية فقط بل ستوزع الخبر أيضاً .
الفصل الثالث
دكتاتورية ذات مسؤولية محدودة
لعبة البلياردو في سوق المال العالمية
عملية ” درع البيزو “
كانت الحكومة المكسيكية قد أعلنت قبل حلول أعياد الميلاد بأربعة أيام ، عن عزمها على تخفيض قيمة عملتها الوطنية لأول مرة منذ سبع سنين ، وكان من المقرر أن – تنخفض قيمة البيزو بمقدار خمس سنتات أمريكية ، أي بمقدار 15 بالمائة من قيمته الجارية ، الأمر الذي تسبب في حالة ذعر خيمت على العالم أجمع ، وعلى المشرفين على إدارة رؤوس الأموال الخاصة في مصارف دول ستريت في نيودلهي ، وفي صناديق الاستثمار المالي التابعة لها على وجه الخصوص . فهم كانوا قد استثمروا ما يزيد على 50 مليار دولار في قروض للحكومة المكسيكية وفي أسهم وسندات حكومية مكسيكية . ولم لا ، فالمكسيك كانت في ذلك الحين تتمتع بسمعة الدولة الموثوق بها ، وأنها كانت قد أوفت بكل الشروط التي فرضها عليها صندوق النقد الدولي من أجل إصلاح اقتصادها . ومهما كان الحال فإن ثروة المستثمرين الأجانب مهددة الآن بفقدان جزء لا يستهان به من قيمتها . وبالتالي فقد راح يسحب ثروته من المكسيك كل من وجد إلى ذلك سبيلاً ، مثله في ذلك مثل أولئك المكسيكيين الذين كانوا بسبب قربهم من صناع قرار تخفيض العملة ، قد سبقوه ونقلوا أموالهم إلى خارج المكسيك . لقد تسببت حالة الذعر هذه في أن يفقد البيزو خلال ثلاثة أيام ثلاثين بالمائة من قيمته مقابل الدولار ، وليس خمس عشرة بالمائة فقط كما كان مقرراً . فاجتمعت لجنة لمواجهة الأزمة ضمت ممثلين عن كل الجهات المهتمة بالسياسة الخارجية والاقتصادية في الحكومة الأمريكية ، ابتداءاً من المصرف المركزي وانتهاء بمجلس الأمن القومي . فلقد كان الأمر في غاية الأهمية ، فهناك خطر أن ينهار واحد من أهم مشاريع إدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون ، أعني الاستقرار الاقتصادي في الجار الجنوبي الذي يفيض سنويأ بملايين المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأمريكية . وبالتالي فقد تحرك كل من روبين وبانيتا لتدبير عملية إنقاذ وصفتها صحيفة واشنطن بوست بعملية ” درع البيزو ” ، وذلك للمقارنة بينها وبين عملية ” درع الصحراء ” في بداية حرب الخليج .
إلاّ أن الأمر تغيّر ابتداء من يوم 12 يناير على نحو درامي . ففي نفس اليوم الذي أعلن فيه كلينتون ورئيس المكسيك زيديلو عن تكاتفهما في الشؤون المالية ، حدث تطور مرعب ما كان لأحد أن يتوقع حدوثه إلا بالكاد فقد ازداد الضغط على مجموعة من العملات في آن واحد في كل البورصات المهمة في العالم ، ابتداء من سنغافورة وعبر لندن وانتهاء بنيويورك . وبسرعة فقد الزلوتي البولندي من قيمته ما فقده البات التايلندي أو البيزو الأرجنتيني وفجأة راح المستثمرون في البلدان الآخذة بالنمو في جنوب المعمورة وفي أواسط أوروبا ، يعرضون للبيع في ما يسمى بالأسواق الناشئة ما بحوزتهم من أسهم وسندات دين . وبما أن هؤلاء راحوا يشترون فوراً ، بما حصلوا عليه من عملات في سياق عمليات البيع هذه ، العملات الصعبة ، أعني الدولار والمارك والفرنك السويسري والين ، لذا رافق انخفاض أسعار الأوراق المالية انخفاض أسعار صرف عملات هذه الأوراق المالية أيضاً .
ليس ثمة ما يجمع بينها من وجهة النظر الاقتصادية كالمجر وأندونيسيا مثلاً . واجتمع محافظو المصارف المركزية لدول جنوب شرق آسيا ، لأول مرة في تاريخ هذه البلدان ، قصد التداول بشأن الأزمة السائدة ، التي ما كانت لهم أية مسؤولية في اندلاعها .
فقرروا رفع أسعار الفائدة في بلدانهم لإغراء المستثمرين على الاحتفاظ بما في حوزتهم من عملات هذه البلدان . واتخذت الأرجنتين والبرازيل وبولونيا نفس الخطوات .
ابتداء من يوم 20 يناير ، أن مع نهاية الأسبوع الرابع من اندلاع الأزمة ، أخذت قيمة الدولار تنخفض أيضاً ، الأمر الذي دفع ألف غرينسبان ” فحافظ المصرف المركزي الأمريكي ، والرجل المعروف بصلابة الرأي في الأوساط المصرفية ، لأن يرفع صوته محذراً من مغبة التطور الجديد – ومؤكداً أمام مجلس الشيوخ على أن هُروب رؤوس الأموال على المستوى العالمي ” ولجوءها إلى عملات أكثر جودة كالين والمارك الألماني ، تقدير ” للتوجه العالمي باتجاه اقتصاد السوق والديمقراطية ” .
وبالتالي فقد راح ، وبدعم من قبل رجالات كلينتون ، يطالب أعضاء حزبه في الكونغرس بالتعجيل بالموافقة على اقتراح الرئيس ، ومنح المكسيك ضمانات القروض الضرورية . وهدأت الحال لبضعة أيام من جديد ، ولاحت في الأفق نهاية فقدان الثقة في الأسواق الناشئة في الجنوب والشرق ، ولكن ما أن حل الإثنين من شهر يناير ، إلا وكانت الأزمة قد تفاقمت على نحو أشد .
وحسب ما قاله بانيتا ، كبير موظفي البيت الأبيض ، لاحقاً ، لم يبق لدى كلينتون ومعاونيه بعد رفض الأغلبية الجمهورية في الكونغرس الموافقة على قرض للمكسيك ، سوى ” الخطة ب ” المعدة مسبقاً . وهكذا تعين على اللجنة المكلفة بمواجهة الأزمة ، التصرف بصندوق الطوارئ والبالغة قيمته عشرين مليار دولار متاحة للرئيس لمواجهة الأزمات الطارئة . وبما أن هذا المبلغ الهائل لن يكفي ، لذا فقد تعين على الرئيس مناداة صناديق أخرى طلباً للعون . وكان النداء الأول موجهاً إلى مقر صندوق النقد الدولي . لقد كان هذا النداء إيذانا بساعات قلق وفزع قُدِّر لميشيل كامديسو ، مدير البنك ، أن يحياها .
وكان مدير صندوق النقد الدولي قد حصل قبل أسبوعين ، وبعد أن تخطى على نحو لا مثيل له كل الحواجز والموانع ، على موافقة الهيئات صاحبة القرار على منح المكسيك قرضاً بلغت قيمته 7 ، 7 مليار دولار ، أي أنه كان قد منح أكبر قرض تُجيز لوائح صندوق النقد الدولي منحه . إلاّ أن هذا الإجراء كان قد ذهب مع الريح ولم يجد نفعاً كبيراً وكان الجميع على علم بأنه لن يكفي . فإنقاذ المكسيك من الإفلاس كان يتطلب عشرة مليارات إضافية على الأقل .
وهكذا وبكل جرأة روبين وزير الخزانة وبانيتا يطبقان الآن خطتهم ” ب ” وبعد نوم دام أربع ساعات فقط أعلن رئيسهما في الساعة الحادية عشرة والربع ، في الاجتماع السنوي لحكام الولايات المتحدة الأمريكية المجتمعين في فندق ماريوت في واشنطن ، الخبر المثير الذي ترك مستمعيه فاغري الأفواه والذي مفاده أنه وبمساعدة صندوق النقد الدولي وبنك التسويات الدولية ، والحكومة الكندية قد صار متاحاً الآن للبلد الجار ، ومن دون موافقة الكونغرس ، قرض تزيد قيمته عن الخمسين مليار دولار لمواجهة ما يعصف به من أزمة ، وأن المكسيك ستسدد كل ما بذمتها من ديون .
وهكذا وفي أقل من 24 ساعة موّل رجال عددهم أقل من أصابع اليدين – وبعيداً عن كل الرقابة البرلمانية ، وبأموال دافعي الضرائب في البلدان الصناعية الغربية – أكبر قروض مساعدة تقدم منذ عام 1951، ففي الواقع لم يتفوق على هذه المساعدة سوى تلك المساعدات ، التي قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية إلى دول أوروبا الغربية في إطار مشروع مارشال ، وذلك قصد مساعدتها على بناء ما هدمته الحرب العالمية الثانية . ونيابة عن الآخرين لم يقتصد كامديو بتضخيم الأمور لبترير تخطيه اللوائح والتعليمات . فقد قال هذا الفرنسي ، المتربع على قمة صندوق النقد الدولي والذي صار يرى نفسه مواطناً عالمي الانتماء إن الأزمة المكسيكية ” كانت الأزمة الكبيرة الأولى في عالمنا الجديد ، عالم الأسواق المعولمة ” . وأنه كان يتعين عليه التصرف دونما أخذ التكاليف بعين الاعتبار ، وإلاّ ” لاندلعت كارثة عالمية حقاً وحقيقة ” .
لا شك في أن الأزمة المكسيكية قد سلطت الأضواء على طبيعة النظام العالمي الجديد في عصر العولمة . فقد أماط المتعاملون مع الأزمة – على نحو لا سابقة له حتى الآن – اللثام عن التغير الجذري الذي طرأ على موازين القوى في العالم إثر سيادة التكامل الاقتصادي العالمي . فكما لو كانوا مسيرين من قبل يد خفية خضع الجميع ، أعني حكومة القوة العظمى في العالم ، الولايات المتحدة الأمريكية ، وصندوق النقد الدولي ، الذي كان معروفاً لذلك الحين بجبروته وعظمته ، وكذلك كل المصارف المركزية الوروبية ، نعم خضع هؤلاء جميعاً لما أملته عليهم قوة فاقت قوتهم ، قوة لم يكن بمقدورهم التعرف على حجم ذخيرتها التدميرية ، أعني السوق المالية الدولية .
من بريتون وودز إلى الضاربة الحرة:
عبر البورصات والمصارف وشركات التأمين وصناديق الاستثمار المالي وصناديق رواتب التقاعد ، دخلت مسرح القوى العالمية طبقة جديدة لم يعد بوسع أحد أياً كان ، سواء كان دولة أو مشرعاً أو مواطناً عادياً ، التخلص من قبضتها . إنها طبقة أولئك المتاجرين بالعملات والأوراق المالية الذين يوجهون بكل حرية ، سيلاً من الاستثمارات المالية يزداد سعة في كل يوم ، ويقدرون بالتالي على التحكم في رفاهية أو فقر أمم برمتها دونما رقابة حكومية تذكر .
وفي الواقع لم تكن عملية ” درع البيزو ” سوى حالة واحدة مفضوحة تشهد على هذا التطور . فالسياسيون وناخبوهم صاروا يشعرون على نحو متزايد بأن ثمة موجهين مجهولين لأسواق المال قد أخذوا يديرون اقتصادات أقطارهم ، تاركين للسياسة دور المشاهد المغلوب على أمره فقط . فحينما أقتضى ، في – سبتمبر من عام 1992 ، بضع مئات من مديري المصارف وصناديق الاستثمار خطى عملاق المال جورج سورس SOROS ، وراهنوا بمليارات الدولارات على تخفيض سعر صرف الجنيه الاسترليني والليرة الإيطالية ، ما كان بمستطاع المصرف المركزي البريطاني والمصرف المركزي الإيطالي وقف انخفاض سعر صرف عمليتهما ، وإن كانا قد جندا كل احتياطيهما من الدولارات والماركات تقريبا لدعم سعر الصرف ، وبالتالي فقد تعين عليها الانسحاب من نظام النقد الأوروبي ( EMS) وما انطوى عليه من أسعار صرف ثابتة ، وإن كانت العضوية فيه من مصلحتهما الاقتصادية.
وعندما رفع المصرف المركزي الأمريكي ( بنك الاحتياطي الفيدرالي ) في فبراير عام 1994 أسعار الفائدة القيادية ، وتسبب في انهيار سوق المال الأمريكي ، لم يكن بوسع الحكومة الألمانية سوى الوقوف مكتوفة اليدين تاركة المشروعات الألمانية تدفع عن قروضها ، ، فجأة أسعار فائدة أعلى بكثير ، على الرغم أنه لم يكن هناك تضخم يذكر ، وأن المصرف المركزي الألماني قد أتاح للمصارف ، من خلال سعر الخصم المنخفضة إمكانية الحصول على سيولة نقدية بتكاليف منخفضة . كما اتضح للناخبين عجز الحكومتين اليابانية والألمانية ، عندما انخفض الدولار في ربيع عام 1995 إلى أدنى مستوى له ، لتصل قيمته إلى 35 ، 1 مارك و 73 يناً يابانياً ، تاركاً بهذا الصناعات التصديرية في هذين البلدين تعاني الأمرين .
ومنذ أخذ المضاربون يضيقون الخناق على العديد من رؤساء الحكومات ، لم يبق لدى هؤلاء سوى الشكوى واللوم والانتقادات دونما جدوى . فعلى سبيل المثال اشتكى رئيس الوزراء البريطاني جون ميجر في أبريل عام 1995 ، فراح يقول إنه لا يجوز ترك العمليات في أسواق المال ” تتم بسرعة وبحجم كبير ، بحيث لم تعد تخضع لرقابة الحكومات أو المؤسسات الدولية ويؤيده في هذا رئيس وزراء إيطاليا الأسبق لامبرتوديين ، الذي كان هو نفسه في يوم من الأيام محافظاً لمصرف بلاده المركزي ، إذ أكد الآخر أيضاً على أنه ” يجب منع الأسواق من تقويض السياسة الاقتصادية لبلد بأكمله ” . أما الرئيس الفرنسي جاك شيراك فإنه يرى أن القطاع المالي بأجمعه مدعاة للاستنكار ، ويسمى دونما مواربة ، المضاربين منه ” وباء الإيدز في الاقتصاد العالمي “.
ومع هذا لا وجود البتة للمؤامرة المزعومة . كما لا وجود ههنا لتحالف مصرفيين متكالبين على جني الأرباح الطائلة . فليست هناك أبداً لقاءات سرية خلف الكواليس القصد منها العمل على تخفيض عملة هذا البلد أو ذاك ، أو على رفع أسعار الأوراق المالية في هذه البورصة أو تلك . إن ما يحدث في أسواق المال هو ، بلا ريب ، الحصيلة المنطقية للسياسة التي انتهجتها حكومات الدول الصناعية الكبرى . فانطلاقاً من النظرية الاقتصادية الداعية إلى ضرورة تحرير الأسواق من القيود والحدود ألغت هذه الحكومات ، منذ السبعينيات وعلى نحو منظم ودؤوب ، كل الحواجز التي كانت قد مكنتها في السابق من التحكم في تنقلات النقود ورؤوس الأموال دولياً والسيطرة عليهما . ومعنى هذا أنهم هم أنفسهم كانوا قد أطلقوا المارد من القمقم ، ثم لم يعد بإمكانهم السيطرة عليه . وكان تحرير النقد من سيطرة الدولة قد بدأ مع إلغاء أسعار المصرف الثابتة العملات البلدان الصناعية الكبرى في عام 1973 . أما قبل هذا التاريخ فقد كانت قواعد نظام بريتون وودز هي السائدة . ففي هذه القرية الجبلية الواقعة في ولاية NEW HAMPSHIRE الأمريكية ، وقعت في يوليو من عام 1944 الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية اتفاقية بشأن وضع أسس نظام النقد الدولي . وكانت هذه الاتفاقية قد أوفت بمتطلبات الاستقرار على مدى ثلاثين عاماً . وجرى الاتفاق على أن تعمد الدول على الحفاظ على أسعار عملاتها الثابتة حيال الدولار الأمريكي . من ناحية أخرى تعهد المصرف المركزي الأمريكي بتحويل الدولار إلى ذهب عند الطلب . وكان تداول العملات الأجنبية يخضع في غالبية البلدان للرقابة الحكومية ، فما كان بالإمكان مبادلة مبالغ كبيرة أو تحويلها إلى الخارج إلا بعد أخذ الموافقة الحكومية . وكان هذا النظام بمنزلة رد على حالة الفوضى التي سادت في العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن ، وما رافقها من سياسات اقتصادية تهدف إلى الوصول على حصة الأسد في التجارة الخارجية .
وكانت الصناعة المتنامية على نحو عاصف والمصارف الكبرى قد أخذت ترى في الرقابة البيروقراطية حجر عثرة في طريقها . ومن هنا فقد تم في عام 1970 تحرير أسواق المال من الرقابة الحكومية ، في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وكندا وسويسرا . وهكذا انهار الجدار وصارت أسعار الصرف تتحدد بناء على مساومات أولئك ” المضاربين “، أي أولئك التجار الذين يثمنون قيمة العملات استناداً لما هو متاح لهم من إمكانية الاستثمار المالي . وكانت حصيلة هذا التطور انهيار نظام أسعار الصرف الثابت .
إلاّ أن البلدان الأخرى التي ظلت متمسكة بالقيود قد صارت تواجه هي الأخرى أيضاً ضغوطاً بينة ، فقد اشتكت شركاتها الكبرى من عدم إتاحة الفرصة لها للحصول على رؤوس أموال بفوائد منخفضة في العالم الخارجي . وفي عام 1979 ألفت بريطانيا آخر ما لديها من قيود ، وبعد عام من ذلك لحقت بها اليابان . وتبع ذلك باقي أعضاء صندوق النقد الدولي والمجموعة الأوروبية . فبناء على إيمانهم الوثيق بإمكانية زيادة الرفاهية الاقتصادية من خلال تحرير الاقتصاد من القيود والحدود ، وشنت حكومات المجموعة الأوروبية ابتداء من عام 1988 بدء عمل السوق الداخلية الأوروبية . وفي سياق تحقيق هذه السوق التي رأى فيها المفوض الأوروبي بيتر شمدهوبر ” أعظم مشروع تحرير في التاريخ الاقتصادي ” حررت في عام 1990 فرنسا وإيطاليا أيضاً أسواق النقد والمال . أما إسبانيا والبرتغال فقد استطاعتا الثبات حتى عام 1992 .
وراحت مجموعة الدول الصناعية الغربية السبع الكبرى تنفذ في باقي بلدان العالم ، وخطوة بعد أخرى ، ما كانت قد حققته في اقتصاداتها . وكان صندوق النقد الدولي ، الذي تحتفظ مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى بالكلمة النافذة في مجلس إدارته ومجلس محافظيه ، الوسيلة المثلى لذلك . ففي كل الحالات التي منح فيها المهيمنون على مقدرات صندوق النقد الدولي قروضاً ، كانوا قد ربطوا هذه القروض في السنوات العشر الأخيرة شريطة أن تقوم البلدان المقترضة ، بإطلاق سعر صرف عملتها وانفتاحها على سوق المال العالمية .
وهكذا ومن خلال السياسة الدؤوبة والقوانين العديدة التي انتهجتها وسنتها حكومات أخرى ، ذلك الجهاز الاقتصادي المستقل بذاته : سوق المال ، هذه السوق التي يقف الآن علماء السياسة والاقتصاد حيالها ، كما لو كانوا إزاء حدث كوني لا قدرة للبشر على مواجهته . ومهما كان الحال فليس هناك شيء آخر ، لا ايديولوجية ولا ثقافة سبابية ولا أي منظمة دولية ، لا بل ولا حتى مسألة الحفاظ على البيئة . نعم لا شيء من هذا كله صار يربط أمم العالم بعضها إلى البعض الآخر ربطاً شبيهاً بالربط الوثيق الذي تقوم به أموال المصارف ، وشركات التأمين وصناديق الاستثمار المالي وما تستخدم من شبكات الربط الإلكتروني .
اقتناص الأرباح بسرعة الضوء
فبناء على هذه الحرية السائدة في أرجاء المعمورة ، نمت معاملات المؤسسات المالية العالمية نمواً انفجارياً في السنوات العشر الماضية . فمنذ عام 1985 ارتفعت قيمة تداول العملات الأجنبية والأوراق المالية على المستوى العالمي إلى ما يزيد على عشرة أضعاف . وفي خلال يوم عمل واحد تجري آلاف عمليات بيع للعملات الأجنبية بقيمة تبلغ ، في المتوسط 5 ، 1 مليار دولار حسب إحصائيات بنك التسويات الدولية ( CBIC . وتعادل هذه القيمة ، المكونة من اثني عشر صفراً ، مجموع الناتج القومي الإجمالي السنوي في ألمانيا أو أربعة أضعاف ما ينفقه العالم في السنة على البترول . وبقيمة مشابهة يتم تداول الأسهم وسنوات الدين الحكومي وعدد لا يحصى من التعاقدات الخاصة ، المسمّاة ” المشتقات ” .
إلى ما قبل عقد واحد كان كل سوق من الأسواق المالية منفصلاً عن الأخرى ، ولا تخضع للمؤثرات الأجنبية . أما اليوم فقد تغير الأمر ، إذ صار كل سوق من هذه الأسواق يرتبط ارتباطاً وثيقا بباقي الأسواق . فقد غدا بإمكان كل فرد في العالم التعرف على مستوى الأسعار السائد في كل بورصات العالم ، وإجراء صفقات بيع وشراء ستغير هي بدورها ، هذه الأسعار التي ستبث هي الأخرى أيضاً بواسطة الكمبيوتر إلى كل أرجاء المعمورة ، ولهذا السبب فقد غدا بالإمكان أن يؤدي الانخفاض في أسعار الفائدة في الولايات المتحدة الأمريكية ، إلى ارتفاع في أسعار الأسهم في الطرف الآخر في المعمورة ، أعني ماليزيا مثلاً . فحينما يصبح الاستثمار في سندات الدين الحكومي الأمريكية أقل عائداً ، فإن المستثمرين سرعان ما يتحولون إلى الأسهم الأجنبية . ولذا فإنه بات من الممكن أن يرتفع سعر سندات الدين الحكومي الألمانية ، عندما يخفض المصرف المركزي الياباني سعر الفائدة على القروض التي يمنحها للمصارف في طوكيو . فعند تحويل هذه المبالغ إلى ماركات ألمانية واستثمارها في الأوراق المالية الأعلى فائدة ، فإن القروض الممنوحة بالين ، وبأسعار فائدة منخفضة ، ستحقق ، من دون أية مخاطرة ، ربحاً أكيداً .
وفي مساعيهم هذه يستخدم قناصة الأرباح بسرعة الضوء ، عدة شبكات كمبيوتر تغطي العالم . فمن الدولار إلى الين ومن ثم إلى الفرنك السويسري ، وبعد ذلك شراء الدولار والعودة إليه مجدداً ، فهذا هو مجمل العمليات التي يقوم بها المتاجرون بالعملات ، فقد صار بإمكانهم التنقل في دقائق معدودة من سوق إلى أخرى ، ومن زبون في نيويورك إلى زبون آخر في لندن أو هونج كونغ ، عاقدين صفقات قيمتها مئات الملايين من الدولارات وكذلك الحال بالنسبة للقائمين على مقدرات صناديق الاستثمار ، فهم غالباً ما يحركون في ساعات وجيزة مليارات زبائنهم من استثمار إلى آخر ، ومن سوق إلى أخرى مختلفة كلية .
والواقع أن الأسواق تشهد نوعاً جيداً من التعاملات المالية المستقبلية تسمى ” المشتقات ” أي مع قيم تتوقع الغالبية العظمى من المشاركين في سوق الأسهم وسندات الدين أو العملات تحققها في ثلاثة أشهر أو اثنتي عشر شهراً أو في عام أو خمسة أعوام وتسمى البضائع التي يتعاملون بها ” المبادلات ” ، و ” السقف ” و ” القاعدة ” ، و ” المستقبليات ” ، و ” والخيارات ” والـ DINGOS والـ ZEBRAS ، وغير ذلك من الأدوات المالية التي يزداد عددها شهراً بعد شهر في الأسواق . والقاسم المشترك بين كل هذه الأدوات المالية هو أن قيمتها ليست سوى قيمة مشتقة ، أي تقوم على أسعار ستدفع اليوم أو في وقت لاحق لقاء الحصول على الأوراق الفعلية أو العملات الأجنبية .
إن الحصيلة المدهشة لهذه العمليات تكمن في أنها قد جردت الشراء الفعلي للأوراق المالية أو العملات الأجنبية ، من مخاطر تقلبات أسعار الصرف والأسهم أو من مخاطر عدم إمكانية تسديد الفوائد المرتفعة . لقد صارت المخاطر نفسها بضاعة متداولة في الأسواق .
أما في ما مضى من الزمن فلم تكن هذه العمليات الآجلة والدافعة للخطر والمجازفة سوى نوع من أنواع الحيطة التي تتخذها القطاعات المنتجة . فقد كان بوسع المصدرين مثلاً ، الاستعانة بهذه العمليات في مواجهة تقلبات أسعار صرف عملات البلدان التي يتعاملون معها . ولكن منذ أن غدت طاقة أجهزة الحاسوب ، عملياً ، دونما حدود استقلت المعاملات بالمشتقات كلية وبدأ ” عصر الثورة المالية ” . فمنذ مدة ليست بالقصيرة أسست كل المدن المالية الكبيرة بورصات مختصة بالعملات الآجلة فقط وفي الفترة الواقعة بين 1989 و 1995 تضاعفت القيمة الاسمية للمعاملات في كل سنتين لتصل على مستوى العالم ، إلى قيمة خيالية ، إذ بلغت 41 ألف مليار دولار . ولا شك في أن هذا الرقم بحد ذاته مؤشر على التطور الهائل في المعاملات النقدية .
لا مراء في أن المصارف قد حققت أرباحاً طائلة من خلال المخاطر التي تصاحب هذه التذبذبات التي يفرزها التعامل بالمشتقات . فالمصرف الألماني بمفرده حقق من خلال المشتقات ما يقرب من مليار مارك . وما الأهمية المتزايدة لهذه العمليات في ميزانية هذا المصرف ، سوى دليل واحد على التغير الذي طرأ على دور المصارف عالم المال المعولم . فأهمية الودائع ومنح القروض هي في تراجع مستمر من ناحية أخرى فإن العديد من الشركات الكبرى لم تعد بحاجة إلى مصارف ، فهي نفسها قد صارت على نحو أو آخر مصرفاً . ولعل شركة سيمتر خير مثال على ذلك . فهي تحقق بعملياتها النقدية والمالية أرباحاً تفوق ما تحققه بمنتجاتها المعروفة في أرجاء المعمورة . وهناك المئات من الشركات الكبرى أصبحت تصدر هي نفسها ، وعلى مستوى العالم ، سندات دين تمول بها ما تحتاج إليه من رأس مال . وباستثناء عمالية المال في نيويورك وطوكيو الناشطين على نحو عالمي فعلاً ، لم يبق أمام غالبية بيوت المال إلا دور الوسيط في الأسواق . كما لم تعد أقسامها المختصة بالشؤون التجارية سوى مرتزقة جيوش المال الإلكترونية ، التي يوجهها قادة يقبعون في مراكز صناديق الاستثمار والمعاشات التقاعدية ، هذه الصناديق التي صارت في السنوات العشر الأخيرة – وبفضل معدلات نمو تتكون من ناحيتين – المستودع الفعلي في العالم لرأس المال . فالصناديق الأمريكية وحدها تدير مدخرات وأقساطاً تقاعدية بقيمة تزيد على 8 آلاف مليار دولار ، الأمر الذي جعل منها أكبر ينبوع لتدفقات رأسمالية لا تنضب ولا تتصف بالاستقرار .
ضخامة الأبنية خير شاهد على الأهمية
يعد ستيف ترنت [ اسم مستعار ] واحداً من النخبة الموجهة لهذه الصناديق .
وبهدوء ، واسترخاء ، ولكن بتركيز يتابع ” ترنت ” من مكتبه وعبر شبكات الربط الالكترونية الأحداث العالمية ، بغية توجيه ثروات زبائنه البالغة مليارين من الدولارات إلى القنوات المجدية ، وبمستطاع ما يقرب من المائة شخص منتشرين في كل أرجاء المعمورة التحدث إليه ، وفي مقدمة هؤلاء يأتي رجاله في بورصات طوكيو ولندن ونيويورك . إنه يستطيع أن يحرك في ثوان معدودة ومن دون لفت للنظر ولكن على نحو جدير مبالغ تصل قيمتها إلى المليارات .
وبناء على الصورة التي يعطيها عن عمله فإنه ليس معنياً بالأرباح السريعة التي يجنيها ، في دقائق قليلة ، المضاربون بالبورصات وبأسواق العملات العاديون .
فأحاديث ” ترنت ” تشبه المخابرات وهيئات الأركان لحكوماتها حول الأوضاع على المستوى العالمي .
فهو يزور أهم أسواق ومناطق العالم نمواً ما بين خمس وعشر مرات في السنة ، ولمدة تتراوح ما بين أسبوع وأسبوعين ، وذلك بقصد الحصول على معلومات عن كل نواحي الحياة الاقتصادية هناك . ونادراً ما يوصد باب في وجهه ، فرجال الصناعة وممثلو الحكومات والمصارف المركزية ، على علم ودراية بالقيمة التي لا تثمن لمثل هذا ” المناضل ” في مجال تدفق رأس المال عبر الحدود والقارات . ولا يسعى ترنت في أحاديثه للحصول على أرقام ، أو تنبؤات تقوم على الرياضيات . فحسب ما يقوله ، فإن ” الإحصائيات متوافرة في أجهزة الكمبيوتر ” . إن ، المهم هو الجو العام ، هو التوترات والصراعات الخفية ” ولذا : ” فعليك بالتاريخ دائماً وأبداً ، فمن درس تاريخ بلد من البلدان دراسة جيدة ، سيكون بوسعه التنبؤ على نحو أفضل بما سيحدث عند اندلاع الأزمات ” .
وبدقة وبرود أعصاب يحاول هذا المضارب التعرف على التقديرات الخاطئة ، التي قام بها المنافسون الواثقون بأجهزة الكمبيوتر ، وعلى الأخطاء الاستراتيجية التي اقترفتها الحكومات ، وكان قد عثر في خريف عام 1994 على ثغرة من هذا القبيل ، فالاقتصاد العالمي كان في حالة انتعاش وكانت التنبؤات تبشير بالخير بالنسبة لألمانيا أيضاً ولذا كانت الأسواق تنتظر ارتفاع الفائدة مجدداً . وكما يقول ترنت اليوم ، فقد ” كان هذا الاعتقاد خطأ ” . ويواصل حديثه قائلاً : ” لقد كنا على علم بأن ألمانيا لم تحل مشكلة تكاليف العمل المرتفعة ، كما كنا على علم أيضاً بأن المؤسسات الصناعية المتوسطة الحجم في ألمانيا ، ستحول كل دولار تحصل عليه إلى مارك قصد تسديد تكاليف الإنتاج . ” ولذا فقد راهن على ارتفاع المارك الألماني وتراجع الانتعاش الاقتصادي وتخفيض أسعار الفائدة ” . لقد كان على حق في رهانه هذا ، فبهذا الرهان استطاع تحقيق ” واحدة من أنجح صفقات المضاربة في السنوات الأخيرة ” ، إذ تعاقد الصندوق على شراء ماركات وسندات دين ألمانية على نطاق واسع وبأسعار متدنية في السوق الآجلة ، أي تعاقد على صفقات ستتم في الأشهر الثلاثة أو الستة ، ولربما في الأشهر الاثنى عشر القادمة . لقد حققت هذه الصفقات لترنت أرباحاً زادت على العشرة بالمائة في غضون شهور قليلة .
ولا ريب في أن مبالغ كبيرة من هذا القبيل لن يربحها إلا ذلك الذي لا يغامر برأس مال زبائنه فحسب ، بل وبما يحصل عليه من قروض قصيرة الأجل أيضاً .
إن المغامرة محفوفة بالمخاطر الجسيمة بلا مراء ، إلا أنها تتيح ، إذا كان التنبؤ صائباً ، الفرصة لأن يحصل المستثمر بسرعة على أرباح تصل إلى خمسين بالمائة وليس عشرة بالمائة فقط ، ولأن يحصل مدير الصندوق في غضون أسابيع قليلة على مكافأة تضاهي ما يحصل عليه خلال عام كامل . ولا مراء في أن عمليات من هذا القبيل ستبلغ المليارات إذا ما طبقت الصناديق والمصارف الأخرى نفس الاستراتيجية الاستثمارية ، وتسببوا بهذه الطريقة – في أن تتطور أسعار الصرف مثلاً على النحو الذي تنبأوا به . فكما هو واضح فقد كان النجاح حليف ترنت والعاملين معه كثيراً في الأعوام الأخيرة . فقيمة حصة المشاركين في صندوقهم ارتفعت في الفترة الواقعة بين عام 1986 وعام 1995 بمقدار 1223 بالمائة ، ومن ناحية أخرى تضاعفت ثروة المشاركين في رأس مال الصندوق سنوياً في المتوسط .
إن هذا الأمر – ولا شيء آخر غيره – هو ما حدث في العامين 1992 و 1993 ، حينما تسبب ” المضاربون ” ( حسب تعبير وزير المالية الألماني تيوفايغل ) في انهيار نظام النقد الأوروبي . فآنذاك أيضاً غامر أولئك الذين مهنتهم اقتناص الأرباح بأموال مقترضة بالدرجة الأولى ، فحققوا أرباحاً ليس بمقدور القطاع الاقتصادي الحقيقي جنيها أبداً . الفارق الوحيد هو أن الطرف الآخر لم يكن ههنا أفراداً عاديين بل خمس عشرة حكومة أوروبية ، وأن الأمر لم يتعلق بالمال فقط ، بل كان يدور ، وأكثر من أي وقت مضى ، حول من بيده السلطة ، أهي بيد السوق أم بيد الدولة ؟
مائة مليون دولار في الدقيقة
لا شك في أن العملة المستقرة لها أهمية كبيرة لكل اقتصاد . فهي تهيء الفرصة لأن تعقد صفقات الاستيراد والتصدير بناءً على حسابات تقديرية موثوق بها ، فتخفض بذلك التكاليف التي تتحملها المشروعات في سياق حماية نفسها من مغبة التغيرات في أسعار الصرف . ولذا فقد اتفقت الحكومات الأوروبية الغربية في عام 1979 ، على ربط جميع عملات دول المجموعة الأوروبية بعضها إلى البعض الآخر . وذلك بغية إيجاد نظام بديل لنظام بريتون وودز ، في إطار المجموعة الأوروبية يسهل على البلدان الأقل تطوراً اللحاق بالمستويات الاقتصادية السائدة في البلدان المتقدمة اقتصادياً ويعطي الفرصة لأن ” تقترب ” هذه الاقتصادات بعضها من البعض الآخر تدريجياً وكانت المصارف المركزية قد تعهدت بحماية أسعار الصرف وباستعدادها لتحويل الليرة [ الإيطالية ] والبيزتا [ الاسبانية ] والجنيه [ الاسترليني ] إلى ماركات ألمانية بأسعار صرف ثابتة في كل الأوقات . وكان نظام النقد الأوروبي قد هيأ ، وعلى مدى سنين كثيرة ، للمستثمرين الماليين أيضاً ، فرصاً ناجحة ، فقد كان باستطاعتهم شراء سندات الدين الحكومية أو المصدرة من القطاع الخاص ، في البلدان ذات الاقتصادات الأقل تطوراً كإيطاليا أو بريطانيا أو إيرلندا وجني ما فيها من أسعار فائدة أعلى، مقارنة بالمستويات السائدة في ألمانيا ، أو الولايات المتحدة الأمريكية، وهم واثقون من أنهم لا يجازفون إلا بتغيرات طفيفة في أسعار الصرف، وأن بإمكانهم العودة إلى المارك والدولار بكل تأكيد وبضمانة المصارف المركزية.
إلاَ أن هذا النظام صار مفكك العرى إثر الوحدة الألمانية . ففي سياق توحيد العملة مع الشق الشرقي [ في ألمانيا ] توسعت حكومة ألمانيا الاتحادية في الاقتراض لتشتري بلداً هو ، ظاهرياً صناعي إلاّ أنه في الواقع مفلس . فتوسعت العملة الألمانية المتداولة من دون أن يقابل هذا التوسع زيادة مشابهة في المعروض السلعي وفي الطاقة الانتاجية ، ولذا صار الاقتصاد مهدداً بالتضخم.
ولمواجهة هذا الخطر مع المصرف المركزي الألماني أسعار الفائدة ، الأمر الذي اضطر جميع المصارف المركزية التابعة لبلدان الاتحاد الأوروبي إلى اقتفاء خطاه ، من أجل الحفاظ على استقرار أسعار صرف عملاتها بالنسبة إلى المارك الألماني . ومن وجهة النظر الكلية فإن هذه الخطوة سيف ذو حدين ، [ فإذا كان رفع سعر الفائدة يدرأ مخاطر التضخم ] فإنه في الوقت ذاته يخنق النشاط الاستثماري بلا ريب ولذا فقد ازدادت الضغوط الأوروبية على المصرف الألماني ، كما أخذت المؤسسات الكبيرة في تصفية أرصدتها من الليرة والجنيه والبيزتا ، وذلك لاعتقاد الكثير من الاقتصاديين بأن القيمة الحقيقية لهذه العملات أدنى من أسعار صرفها السائدة . ولكن ، ومع هذا ، فقد تردد القائمون على الأمور في الاتحاد الأوروبي في التخلي عن نظام النقد الأوروبي . وهذا ليس بالعجيب ، ففكرة التكامل الأوروبي برمتها تتوقف عليه ، ولذا فقد علقوا آمالهم على قرب حل ألمانيا للأزمة التي صارت تعاينها ، إثر تحقيق وحدة شطريها، وما تبع ذلك من ارتفاع في أسعار الفائدة. وبعد عامين من ذلك تحققت هذه الآمال ، إلاّ أن عامين يمثلان في الواقع ، دهراً من الزمن بالنسبة لسوق المال العالمية .
وكان ستنلي دروكنملر ، الذي يشغل منصب مدير صندوق QUANTUM المعروف والذي تعود ملكيته إلى الملياردير الأمريكي جورج سوروس ( soros ) ، قد وجد في أزمة النظام النقدي الأوروبي أكبر فرصة في حياته المهنية . وفي الواقع يجد دروكنملر الحلم الأمريكي على خير نحو . فهو لم يفشل في دراسته الجامعية فحسب ، بل كان قد فشل في السبعينيات حتى اجتياز امتحان القبول لدراسة مادة المصارف في أحد المعاهد المهنية . ومع هذا ، فقد مكنته سمعته من أنه جريء في العثور على مجالات للرهان غير معتادة ، من الحصول على وظيفة محلل للأسهم ، في أحد المصارف الصغيرة في بيتسبيرغ ” في بادئ الأمر ، وانتقل من ثم ليدير ثروة أسرة درايفوس ، وابتداء من عام 1989 حل مكان جورج سوروس في قمة صندوق ” كوانتم ” . ومنذ ذلك الحين لم يعد المجري الأصل سوروس سوى رمز فعال من حيث الإعلام الترويجي للمؤسسة ، فهو يخصص معظم وقته لتشجيع التحولات الاقتصادية في أوروبا الشرقية ودعمها وكان دروكنملر واحداً من الأوائل الذين أدركوا في عام 1992 ، المأزق الذي يئن تحت وطأته فعلاً المدافعون عن نظام النقد الأوروبي . فعلى الرغم من التأكيدات التي كان يطلقها يومياً تقريباً ، من ستوكهولم إلى روما ، وزراء ومحافظوا المصارف المركزية ، من أنهم سيحافظون على أسعار الصرف السائدة ، تسربت معلومات مفادها أن المصارف المركزية في البلدان التي لا تحظىبثقة الجمهور ، قد أخذت قروضاً بالمارك الألماني بهدف تعزيز احتياطيها من العملات القوية .
وكانت معرفة مقدار ما لدى المصارف المركزية في احتياطي بالمارك الألماني ، على أهمية بالغة بالنسبة للمهاجمين في المعركة الدائرة حول نظام النقد الأوروبي ، لا تقل عن الأهمية التي يكتسبها في الحروب معرفة ما في المدينة المحاصرة من غذاء وماء . فمن خلال الحصول على المعلومات والأرقام كانت المعركة بالنسبة لدروكنملر غاية في البساطة ، وكانت استراتيجيته في غاية البساطة أيضاً . فقد كان يأخذ قروضاً بالجنيه الاسترليني وبمقادير تتزايد من يوم إلى آخر وذلك لكي يحولها لدى المصارف البريطانية إلى ماركات فوراً ، الأمر الذي كان يدفع المصارف إلى شراء هذه الماركات من المصرف المركزي البريطاني . وكان دروكنملر على ثقة بأن المصرف المركزي البريطاني سيفقد ما لديه من احتياطي ، كلما كان عدد أولئك الذين يقتفون خطاه أكبر ، الأمر الذي سيجبر المصرف المركزي البريطاني إن عاجلاً أو آجلاً على تخفيض سعر صرف الجنيه ، وعندئذ سيكون بوسع دوكنملر شراء الجنيه الاسترليني من جديد وبقيمة أدنى وتسديد ما بذمته من قروض . فحتى إن خُفضت قيمة الجنيه بمقدار عشرة بالمائة فقط فإن الصفقة ستكون ناجحة بالتأكيد ، إذ سيربح عن كل جنيه اقترضه حوالي 25 فنكاً ألمانيا .
وإلى الأسبوع الثاني من سبتمبر كان البريطانيون يعلقون الأمل على المصرف المركزي الألماني . فيما لديه من وسائل نقدية غير محددة تقوم على المارك ، كان بوسعه نظرياً حماية الجنيه من مغبة كل هجوم . ولكن ومن أجل امتصاص المضاربة المتزايدة كان على المصرف المركزي الألماني طرح مليار من الماركات الألمانية في السوق ، الأمر الذي كان يعين ، حسب اعتقاد القائمين على شؤون المصرف في فرانكفورت ، إشعال فتيل التضخم . في يوم 15 سبتمبر حدث شرخ في التضامن الألماني / البريطاني . ففي سياق مؤتمر صحفي أبدى رئيس المصرف المركزي الألماني آنذاك : هلموت شليزنجر ، ملاحظة عارضة مفادها أن نظام النقد الأوروبي قد أصبح بحاجة إلى شيء من ” التصحيح ” . لقد شاعت هذه الملاحظة في دقائق معدودة في كل أرجاء العالم ، وكانت ” بمنزلة دعوة تنادي : بيعوا ما لديكم من جنيهات ” ، حسب الدراسة التي قدمها في وقت لاحق فريق من خبراء المال إلى وزارة المالية الأمريكية .
وبما أن وزير الخزانة ” في لندن نورمان لامونت قد كان مكتوف اليدين ، بسبب وجود اتفاقية وقانون يضمان حرية انتقال رأس المال ، لذا لم يبق لديه سوى سلاح واحد فقط : لقد كان بوسعه رفع سعر الفائدة وإجبار المهاجمين على دفع تكاليف أعلى على ما اقترضوا من أموال . وهذا هو ما حدث فعلاً ، فبعد يوم واحد من ملاحظة شليزنجر الفادرة ثم في الساعة الحادية عشرة صباحاً وفي الساعة الثانية مساءً ، رفع سعر الفائدة على القروض الجديدة التي تمنحها المصارف بمقدار 2 بالمائة في كل مرة . ومع هذا فقد ظلت التوقعات بشأن الأرباح التي سيمكن جنيها إثر تخفيض سعر الصرف ، تفوق بكثير التكاليف الناجمة عن ارتفاع سعر الفائدة . ومن هنا فقد كانت حصيلة جهود لامونت الدفاعية هو أن المضاربين قد زادوا من اقتراضهم الجنيهات ومن تحويلها إلى ماركات ألمانية . في الساعة الرابعة مساءً كان المصرف المركزي البريطاني قد فقد نصف ما لديه من احتياطي واستلم للهزيمة . ففي خلال ساعات معدودة كان الجنيه قد خسر حوالي 9 بالمائة من قيمته ، الأمر الذي حقق للمهاجمين أرباحاً خيالية . فدرو كنملر بمفرده كان ، حسب اعتراف سوروس في وقت لاحق ، قد حقق لمؤسسة كوانتم أرباحاً بلغت مليار دولار .
وفي الأيام التالية كررت اللعبة مع الليرة الإيطالية والبيزتا الاسبانية. ولتفادي هذه النازلة تخندقت السويد وإيرلندا خلف خطوط دفاع مضمونة : فقد رفعت أسعار الفائدة دفعة واحد لتبلغ على التوالي 500 بالمائة و 300 بالمائة . وفي الواقع لم يكن خط الدفاع هذا مضموناً على النحو الذي كان البلدان يأملانه . فالمضاربون وجدوا فيه ، وبحق ، دليلاً على صعوبة موقف البلدين . ولذا فما كانوا بحاجة إلا للانتظار فقط ، لعلمهم بأن البلدين ، لن يتحملا طويلا عبء هذا الارتفاع في أسعار الفائدة ، إذا ما كان لانيويان خنق الاقتصاد الوطني . وفعلاً استسلمت السويد في نوفمبر وعادت إلى المستويات الطبيعية لأسعار الفائدة وخفضت سعر صرف بنسبة 9 بالمائة . وفي فبراير لحقت بها ايرلندا فخفضت سعر صرف عملتها بنسبة 10 بالمائة .
ومع هذا لم يكن الصراع على نظام النقد الأوروبي قد بلغ النهاية . فمع أن الفرنك ، العملة الفرنسية ، القوية ، قد ظل ، حتى الآن ، محتفظاً بقوته ولم ير أحد أن سعر صرفه يفوق قيمته الفعلية ، وبالرغم من أن الاقتصاد الفرنسي ، القوة الاقتصادية الثانية في أوروبا ، قد كان في مطلع عام 1993 في وضع أفضل من الاقتصاد الألماني ، إلاّ أن نجاحات العام السابق كانت قد أسالت لعاب قناصة الأرباح وشمعتهم على فريد من المضاربة . فإعلان بون وباريس امتلاكهما الإدارة السياسية للحفاظ على سعر الصرف السائد بين الفرنك والمارك ، وعزمهما على إنقاذ نظام نظام النقد الأوروبي حتى إن انسحبت منه إيطاليا وبريطانيا ، كان هذا الإعلان بمفرده كافياً لإثارة موجات جديدة من المضاربة . وعلى مدى أشهر عديدة ظل المصرف المركزي في باريس يقارع محاولات المضاربين فيشتري منهم الفرنك بالعملات الأخرى وبسعر الصرف المعلن ، مطالباً الزملاء في فرانكفورت بتخفيض أسعار الفائدة من أجل تخفيف الضغط عن نظام النقد الأوروبي . وعندما لم يسفر اجتماع مجلس إدارة المصرف المركزي الألماني في يوم الخميس الموافق 29 يوليو عن استجابة لهذا الطلب ، كانت موجات المضاربة قد تحولت لتصبح سيلاً جارفاً . وفي جلسة ضمت مسؤولين ألماناً وفرنسيين عقدت في اليوم التالي ، بسرعة وعلى عجل في وزارة المالية في باريس ، طالب محافظ المصرف المركزي الفرنسي جاك دو لاروسيير زملاءه في فرانكفورت بضرورة تقديم عون غير محدود . وفي الوقت الذي كان فيه الوفدان لا يزالان يتداولان ، وصل إلى سمعهم أن نظام النقد الأوروبي قد انهار عملياً . وفي الواقع كان رقم واحد يكفي للدلالة على جبروت المضاربة التي تواجهها فرنسا : ففي ضحى ذلك اليوم كانت المضاربة قد بلغت الذروة ، إذ كان المصرف المركزي في باريس يفقد في بعض الأحيان مائة مليون دولار في الدقيقة الواحدة . وإلى حين انتهاء ساعات العمل الرسمي في البورصة كان العاملون لدى لاروسيير ، قد أنفقوا خمسين مليار دولار وصاروا مدينين بما يزيد عن نصف هذا المبلغ .
ولم يشأ شليز بجز ولا خليفته المرشح ” هانس تيتماير ” تحمل وزر هذه الخسارة ووزر المضاربة المتوقع استمرارها ، ورأيا أن من الأفضل للفرنسيين أن يستسلموا للأمر الواقع . وكان هؤلاء بدورهم قد حمّلوا الألمان مسؤولية ما حدث – مؤكدين على أن ألمانيا هي التي تسببت باندلاع الأزمة ، ولذا فقد استمر ” لاروسيير ” وحكومته حتى ليلة الأحد بالضغط على الألمان ، ولكن دونما جدوى . وفي الساعة الواحدة من صبيحة يوم الاثنين ، أي قبل فترة وجيزة فقط من بدء العمل في بورصات شرق آسيا ، أعلن من تبقى مشاركاً بنظام النقد الأوروبي عن قرارهم بترك أسعار صرف عملاتهم تتذبذب بنسبة 15 بالمائة ارتفاعاً وانخفاضاً في المستقبل .
على هذا النحو ، وبعد أربعة عشر عاماً انتهى التحالف الأوروبي الغربي بشأن الاستقرار الاقتصادي ، مخلفاً وراءه حطام درزن من معارك خاسرة كلفت المصارف المركزية الأوروبية ودافعي الضرائب في نهاية المطاف ، حوالي مائة مليار مارك ألماني حسب أدنى التخمينات . ومع هذا لا يرى أنصار السوق العالمية الحرة في هذا أمراً باطلاً ورئيس المصرف الألماني المركزي الدكتور هانس تيتماير نفسه هو واحد من أكثر دعاة هذه الحرية تأثيراً في ألمانيا . فحسب ما يقوله هذا المسؤول الأول عن حماية قيمة المارك الألماني ، فإن المنافسة بين العملات هي ركن من أركان اقتصاد السوق الحرة ، هذه السوق التي تتنافس في إطارها جميع الأمم ، وأن ” حرية انسياب رأس المال ” تساعد ههنا ” على تحقيق التصحيحات الاقتصادية الضرورية ” ، وأن هذا هو ما حدث إبان انهيار نظام النقد الأوروبي ، إذ ثبت أن أسعار الصرف الثابتة السائدة في الأسواق كانت تفتقد ” المصداقية ” وهكذا ، وفي كل الحالات التي يكتنفها الشك ولا يتوافر بشأنها الدليل القاطع فإن المسؤولين عن الخطأ هم ، دائماً وأبداً – حسب رأي رئيس المصرف المركزي الألماني وسواه من المؤمنين بجدارة السوق – القائمون على شؤون السياسة ، فالمشكلة تكمن ، أولاً وأخيراً في ” أن غالبية السياسيين لا يزالون غير مدركين أنهم قد صاروا الآن يخضعون لرقابة أسواق المال ، لا بل إنهم قد صاروا يخضعون لسيطرتها وهيمنتها ” .
إن هذا أمر صارخ بكل تأكيد ، ولكنه مع هذا يتفق مع نظرية الاقتصادي الأمريكي وحامل جائرة نوبل ميلتون فريدمان ، هذه النظرية التي تحظى الآن بالقبول العام وتكاد أن تكون سياسة مطبقة على المستوى العالمي . وفي الواقع فإن فكرة المروجين الكثيرين لهذه النظرية المسماة بالنظرية النقدية هي في غاية البساطة فبناءً على ما يقولون فإن حرية انتقال رأس المال ، عبر جميع الحدود الدولية هي التي ستحقق استخدامه الأمثل . وكلمتهم السحرية هي الجدارة . فانطلاقاً من الرغبة في تحقيق أعلى الأرباح ، ينبغي للأموال المدخرة في العالم أن تنتقل دوماً إلى تلك المجالات التي تحقق لها أفضل استخدام – ومن منظور النقديين فإن هذه المجالات هي طبعاً ذلك الاستثمار الذي يحقق أعلى عائد . وبهذا فستنتقل الموال من البلدان الغنية برأس المال إلى المناطق الغنية بالفرص الاستثمارية ، الأمر الذي يحقق للمدخرين أكبر ما يمكن جنيه من عائد . والعكس بالنسبة للمقترضين ، إذ سيكون بوسعهم المقارنة بين مقدمي القروض في أرجاء المعمورة واختيار أدنى الفوائد ، وليس الخضوع للاحتكارات المصرفية الوطنية أو دفع فوائد عالية ، لا لشيء إلا لقلة الإدخار في البلد الذي يريدون الاستثمار فيه . وفي المحصلة النهائية ستكسب نظريا على أدنى تقدير كل الأمم ، وذلك لأن انتهاج هذه السبيل هو الطريقة التي ستضمن أفضل استثمار وأعلى معدلات نمو .
ولكن أيمكن للمرء فعلاً أن يرى في سوق المال العابرة للحدود ، ينبوعاً عالمياً للرفاهية وحارساً للعقلانية الاقتصادية الدولية ؟ إن هذا الأمل ليس مضللاً فحسب ، بل هو خطر أيضاً . فثرثرة من هذا القبيل تحجب النظر عما ينطوي عليه هذا الأمل من مخاطر سياسية . فكلما كانت الدول أكثر خضوعاً لإدارة المستثمرين ، تعين أكثر على الحكومات ، ودونما هوادة ومبالاة ، محاباة فئة تتمتع بالامتيازات أساساً ، أعني الفئة المالكة للثروات المالية . فحيثما تكون هذه الفئة فإن من مصلحتها ، دائماً ، أن تكون معدلات التضخم متدنية وأسعار صرف عملاتها مستقرة والمعدلات الضريبية على عوائدها من الفوائد في أدنى مستوياتها .
ويعتقد المؤمنون بجدارة السوق ، ضمنياً ، بأن هذه الأهداف تنسجم كلياً مع المصلحة العامة . وفي الواقع سرعان ما تتحول هذه الدعوة في سياق سوق المال العالمي إلى ايديولوجية صرفة . فالانفتاح المالي للدول يجبر هذه الدول على التنافس في تخفيض الضرائب ، وتخفيض الانفاق الحكومي والتضحية بالعدالة الاجتماعية ، وما ينجم عنها ، في المحصلة النهائية ، من إعادة توزيع شمولية من الأسفل إلى الأعلى .
إذ سيثاب كل من يمنح ( الرأسمالي ) الأغنى أفضل الظروف . وستكون كل حكومة تقف في وجه قانون الغاب هذا ، عرضة للعقوبة .
الفوضى الآتية عبر البحار :
على هذا النحو تسبب التخلي عن الرقابة الحدودية على تنقل رأس المال في اندلاع قوى ذاتية خطيرة النتائج تقوض ، على نحو منتظم – سيادة الأمم ، وتحمل في طياتها سمات فوضوية إذ فقدت الدول سيادتها على فرض الضرائب وغدت الحكومات عرضة للابتزاز ، وصارت أجهزة الشرطة مكتوفة اليدين حيال المنظمات الجنائية ، وذلك لأنها لم تعد قادرة على ضبط رأسمالها كسند شرعي على أعمالها الجنائية .
وليس هناك شيء يثبت على نحو بين وأكيد ميل النظام المالي العالمي ، لمعاداة الدول كما يثبته العدد المتزايد لما يسمى بالواحات الضريبية ، التي تعبأ برؤوس الأموال الهاربة من دفع الضريبة في بلادها . والصيغة التي تعمل بها في كل المناطق : التعهد بأن تكون الضرائب متدنية جداً أولا تفرض ضريبة البتة على ودائع الأجانب ، وتخضع إنشاء هوية صاحب الحساب للعقوبة حتى إن كان الراغب في معرفة الهوية مؤسسة حكومية
ولا يمكن حصر النتائج التخريبية الآتية من أسلوب الـ OFF – SHORE إلاّ بالكاد . فالنسبة للجناة العاملين في إطار التنظيمات العابرة للحدود يمنح هذا الأسلوب موقع قدم ثابتاً . فقد صار تتبع ثرواتهم المتراكمة بصورة غير شرعية أمراً مستحيلاً في الواقع العملي ، كما صار من المستحيل التعرف على ما إذا كانت الواحات الضريبية هذه تقوم بغسل الأرباح الآتية من كل أنواع الجريمة ، ومقدار ما تغسل من هذه الأرباح .
ولكن ومهما يكن الحال ، فإن مخاطر تغلغل منظمات المافيا يتضاءل إزاء الخسائر الفادحة التي يسببها هروب رؤوس الأموال المنظم على نحو شرعي لخزينة الدولة . فقد نقل أصحاب الثروة الألمان ما يزيد على ( 200 ) مليار مارك إلى فروع وصناديق استثمار الجهاز ، المالي الألماني في لوكسمبورغ – وعلى هذا النحو تخسر وزارة المالية الألمانية سنويا مليارات من الماركات وبقيمة تقدر برقم يتكون من خانتين ، أي أنها تخسر نصف الأموال التي تجنيها من دافعي الضرائب لتدعم بها الاقتصاد في ألمانيا الشرقية . ويستثمر القائمون على صناديق الاستثمار هذه الجزء الأعظم من هذه الثروة الهاربة من ألمانيا ثانية ، بل وأكثر من هذا أنهم يستثمرونها في شراء السندات الحكومية ، الأمر الذي يعني أن بالدولة تصبح مدينة تدفع فوائد لأولئك الذين احتالوا عليها في التهرب من دفع الضريبة ، أي تكافئهم على احتيالهم بدفع فوائد لا تخضع للضريبة محققة لهم بذلك دخلاً إضافياً .
وفي الواقع فإن لوكسمبورج ليست سوى واحدة من القنوات الكثيرة المستنزفة للميزانية الحكومية . فلو أخذنا جميع المناطق التي يؤدي الهاربين من دفع الضريبة ، فستصل القيمة الكلية لما تخسره الحكومة من ضرائب ، إلى خمسين مليار مارك في السنة كما تقول أدنى التقديرات ، أي ما يساوي المبلغ الذي تقترضه الحكومة الألمانية الاتحادية سنوياً . أما بالنسبة لمجموع دول العالم فإن هذه الخسارة كارثة مالية مزمنة . فبناء على إحصائيات صندوق النقد الدولي هناك ما يزيد على ( 2000 ) مليار دولار تستظل تحت راية الدويلات الصغيرة التي تؤدي الهاربين من دفع الضريبة ، وتحتمي بها من أن تمتد إليها أيدي حكومات الدول التي جنيت منها هذه الأموال . ففي جزر الكيمن فقط ، تفوقت في السنوات العشر الأخيرة ، قيمة الودائع الأجنبية على قيمة الودائع لدى مجمل المصارف الألمانية . ومع هذا لا سبيل إلى حصر الأموال المهربة ، إذ تشير الاحصائيات إلى أن ثمة عجزاً بميزان المدفوعات الدولي يصل ، سنوياً ، إلى عشرات المليارات من الدولارات الأمر الذي يعني أن هذه الأموال قد تم حصرها وهي تغادر ، إلاّ أنها – إحصائياً – لم تصل إلى أي بلد آخر ، وذلك لأن الكثير من المصارف في الواحات الضريبية ليس على استعداد للكشف عن ذلك ولا حتى للأغراض الإحصائية . وكان خبراء منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي وخبراء صندوق النقد الدولي قد قدروا في وقت مبكر ، وفي عام 1989 على وجه التحديد ، قيمة الثروات المخفية في هذا الحجر المظلم من الاقتصاد العالمي بمليار دولار أخرى .
والمهزلة هي أن هذا كله لا يتوقف ، مادياً ، على هذه الهياكل السياسية الصورية التي تحمي تحت رايتها وسيادتها المستعارة عالم المال . فنادراً ما يسافر المرء إلى الكاريبي أو لشتنشاين محملاً بحقائب مليئة بالنقود ، كما لا تحصل هذه الهياكل على البنى التحتية لإدارة الثروات إلا بالكاد . وهي ليست بحاجة إلى هذا كله في الواقع ، فصندوق بريد وممثل عام أو وكيل يفيان بالغرض كلياً ، أما ما تبقى فإن أجهزة الكمبيوتر هي التي تقوم به . فعملياً يتم الهروب عبر ما في المصارف والشركات من شبكات كمبيوتر صحيح أن المراكز الرئيسة لهذه المصارف والشركات هي في الأرض الألمانية أو البريطانية أو اليابانية أو الأمريكية ، إلا أن القطاع المالي حَوّل ، بلا تردد أو خوف ، مساحات شاسعة من وحدات التخزين الالكترونية المركزية ، إلى مناطق خارجة عن نطاق التشريع الوطني .
المشكلة تكمن في أن إجراء من هذا القبيل لا ينسجم مع حرية رأس المال في التنقل . من ناحية أخرى استطاعت المؤسسات المصرفية حتى هذا الحين الحيلولة دون كل إجراء يمس ” سرية معاملاتها ” بذريعة أن إجراء من هذا القبيل سيدفعها حتماً إلى نقل نشاطاتها إلى مناطق أخرى.
الحلف الخدّاع:
وبناء على هذا المبدأ صارت الدول وحكوماتها عرضة للابتزاز . وكل دول العالم تقريباً أخذت ، بفعل الضغوطات التي تمارسها المؤسسات المالية عليها ، تطبق النهج الذي كرر وصفه ، في عام 1996 أيضا ، ” سارازن ” وزملاؤه بالعبارات التالية : تخفيض الضرائب على الثروة والاستثمارات ، خصخصة كل الخدمات المالية ، تخفيض الانفاق الحكومي على الخدمات والرعاية الاجتماعية . فحسب ما يروي ، فإن المعدلات الضريبية العالية ” تسبب الإحباط وتغري بالمناوأة ” التي تقود في نهاية المطاف إلى الهجرة إلى الخارج .
وهكذا ومع كل سنة ضريبية توضع وكل قانون ضريبي يسن ، تعززن ، بفعل العولمة ، اللاعدالة بغض النظر عن اختلاف الثقافات أو القيم الاجتماعية .
والموازنات الحكومية هي الجسر الذي يفضي إلى هذه السياسات الموحدة . وفي الواقع فإن الانفتاح على النظام المالي العالمي يعني بالنسبة للدولة المعنية ، حسب وصف مجلة ” نيوزويك ” الأمريكية ، الدخول في ” حلف خداع ” فهو يفتح أمام الحكومات ، في بادئ المر ، المنافذ إلى رؤوس الأموال المتاحة في العالم ، الأمر الذي يعني أن الاستثمارات الحكومية لن تتوقف على حجم المدخرات الوطنية فقط ، بل سيكون بالإمكان تمويلها بالقروض الأجنبية أيضاً . وفي الحقيقة فإن في هذا إغراء يصعب على أي حكومة طموحة الصمود في وجهه . فالوحدة الألمانية أيضاً ما كان بالإمكان تمويلها من دون المشتريات الأجنبية للسندات الحكومية . فحصة الأجانب من الدين الحكومي الألماني قد فاقت اليوم الثلث . ولكن ومع هذا فإن الدخول إلى أسواق المال العالمية فادح الثمن : إنه يُشترى بالخضوع لقانون تدرج معدلات الفائدة والاستكانة لقوى ليس لدى معظم الناخبين تصور عنها إلاّ بالكاد .
برواتب مغرية يعمل لدى مؤسسة ” مودي لخدمات الاستثمار ” ( 300 ) محلل ، وهي أكبر وأكثر وكالات تقييم الاستثمارات رواجاً في العالم . وفي أعلي بوابة الوكالة ثمة نقش كتب بحروف مذهبة وعلى مساحة تزيد على الاثنى عشر متراً مربعاً ، يوضح أهداف وفلسفة هذه المؤسسة إذ جاء فيه : ” القرض الاستثماري من إبتكارات الحداثة ، ولا تستحقه إلا الأمم الذكية والمحكومة بأرشد السبل . إن القرض هو عصب الحياة بالنسبة لنظام التجارة الحرة الجديد . فمشاركته في زيادة ثروة الأمم فاقت مشاركة مجمل إنتاج مناجم الذهب في العالم كله بأكثر من ألف مرة ” .
وتتوارى خلف هذا الإعلان العقائدي الحماسي أجواء من القوة والسرية نادرة المثيل ، ولربما لم يكن هناك مكان آخر في العالم يصون هذا الكم الهائل من الاسرار عن الكثير من الدول والمشاريع . .
وفي البداية أوضح ” فينسنت تروجليا ” نائب مدير هذه المؤسسة التي ترجع بداياتها الأولى إلى مطلع هذا القرن ، ما لا تريد أن تكونه مؤسسة مودي : ” كلا ، إننا لا نعطي تقييماً عن أمم برمتها ، وتقييمنا لا يتضمن جوانب أخلاقية ولا يفصح عن شيء حول القيمة الحقة لبلد ما . كما أننا لا نقول للحكومات ما يتعين عليها عمله . إننا لا نقدم النصح أبداً ” . ولكن وبالنظر للواقع الفعلي تتراوح هذه التأكيدات بين التواضع في التعبير وبين الرياء والنفاق ، وذلك لأن تروجليا هو مدير تصنيف الأمم لدى مودي ، أي أن الوكالة تقوم وبأشرافه هو نفسه بتصنيف دول العالم بناءً على ملاءمتها المالية . فدرجة ( XIAA ) لا تخطى بها إلا الطليعة المالية كالولايات المتحدة الأمريكية واليابان ودول الاتحاد الأوروبي ذات الاقتصادات المستقرة كألمانيا والنمسا . وهكذا نزولاً حسب مقومات مالية محددة .
وفي الواقع فإن لهذا التقويم أهمية كبيرة ، فالمواطنون المكلفون بشراء الأوراق المالية لصناديق الاستثمار والمصارف سيطالبون ورءاً للمخاطر ، بأسعار فائدة أعلى على سندات الدين الحكومي ، كلما كان التصنيف أسوأ وموديز هنا هي في وقت واحد ، السوق وذاكرته التي لا تنسى أخطاء الحكومات أبداً إلى بعد مرور عشرات السنين . فالأرجنتين مثلاً لا تزال إلى الآن تئن تحت وطأة درجة التصنيف ( B ) ، وذلك لأنها فيما مضى من الزمن قد عاشت فوضى سياسة مالية جلبت لها معدلات تضخم من ثلاث خانات ، وجعلتها غير قادرة على تسديد ما بذمتها من ديون في الوقت المناسب . ولكن ، ومع أن العملة الأرجنتينية قد غدت أكثر العملات استقراراً في أمريكا الجنوبية ، وأن سائر عوامل الاستثمار متوفرة إلاّ أن هذا لم يعطها الميزة الكافية لأن تتجاوز هذا التصنيف المتدني .
بالنسبة لتروجليا والعاملين لديه ليس هذا كله سوى نتيجة للتطبيق الصارم للمعايير الاقتصادية . ومن هنا فإذا وجهت وزارة المالية في بلد ما الدعوى للعاملين لدى موديز لزيارة البلد والاطلاع على الوضع المالي الحكومي ، فإن موديز تشترط أن يسافر اثنان من عامليها ، على الأقل ، تفاديا لمحاولات الرشوة . ولعله تجدر الإشارة هنا إلى أنه يتعين على كل محلل ، أن يقدم شهرياً ، كشفاً باستثماراته الخاصة ، إذ لا يسمح لأي واحد منهم باستغلال ما بحوزته من معلومات لم تنشر بعد في مضارباته الخاصة ، كما أكد ذلك نائب رئيس مؤسسة موديز . بناء على ما تدعيه موديز فإنها لا تعير أهمية لكل الضغوط الحكومية : ” إننا لا نراعى سوى مصلحة المستثمرين ، ولا شأن لنا بالسياسة ” .
ومع هذا فإن النتائج ذات طابع سياسي دون شك . فتقويمات الوكالة يمكن أن تكلف البلدان المعنية فوائد إضافية على القروض قد تصل إلى المليارات كما يمكن لها أن تؤثر في الانتخابات الحكومية وأن تسيء إلى مشاعر العزة لأمم برمتها. فحينما انخفضت قيمة الدولار الكندي في فبراير 1995 وصار يسمى في الأسواق ” البيزو الشمالي ” ، حاول رئيس الوزراء جين كرتين ” التصدى لهروب رؤوس الأموال ، وذلك من خلال موازنة حكومية جديدة تضمنت تخفيضاً في الإنفاق . ولكن ، وقيل أن يُناقش مشروع الموازنة الجديدة في البرلمان ، أعلنت موديز أن القدر الذي سينخفض به الانفاق الحكومي غير كاف ، وأن المؤسسة تدرس احتمال خفض تصنفها الحالى للسندات الكندية ومنحها درجة ( AQ ) ، الأمر الذي دُفع رئيس المعارضة لاتهام الحكومة بانتهاج سياسة مالية فاشلة ، وفعلا انخفضت على نحو سريع احتمالات فوز كرتين في الانتخابات . وكانت صحيفة نيويورك تايمز قد علقت على نحو سافر ، إذ كتبت تقول ” رجل موديز يدير العالم “. وكذلك حصل في استراليا عندما خسرت حكومة العمال الانتخابات.
الدولار سلاحاً
ومهما كان الحال ، فإن الأمر الذي لا شك فيه هو أن حالة عدم التوازن المثيرة ، قد جعلت مصير نواح كثيرة من الاقتصاد العالمي يتوقف على ما ينتاب الاقتصاد الأمريكي من تطورات . فمنذ 1990 يلاحظ المتعاملون بالأسواق والاقتصاديون أن التطورات في منطقة الدولار ، هي بمفردها ، التي تقرر في نهاية المطاف تطور أسعار الفائدة في العالم .
وتمنع هيمنة منطقة الدولار القائمين على توجيه السياسة المالية والنقدية ، قوة تجعلهم ينتهجون على نحو متزايد سياسة تفضى إلى التصادم مع الأمم الأخرى . وقياس موازين القوى في الحرب المستقرة والدائرة من أجل الهيمنة المالية هي بلا ريب أسعار صرف العملات . فعندما فقد الدولار عشرين بالمائة من قيمته إزاء الين والمارك في الأشهر الأربعة الأولى من عام 1995 ، تسبب هذا الحدث في نشر الفوضى في الاقتصاد العالمي وفي اندلاع ركود في أوروبا واليابان من جديد . وكان استراتيجيو الاستثمارية قد ذعروا من هذا التطور فراحوا يتحولون باستثماراتهم صوب المارك والين . إثر ذلك لم ينخفض الدولار بمفرده ، بل انخفضت قيمة جميع العملات الأوروبية الأخرى ، إزاء الفرنك السويسري والمارك الألماني . وعلى نحو مفاجئ غدت إيرادات المشروعات الألمانية من مبيعاتها الخارجية أقل مما تتوقع ، الأمر الذي أصاب وايملر وايرباص وفولكس فاجن وآلافاً من المشروعات الأخرى بخسائر فادحة .
ومن وجهة النظر الموضوعية ما كان هناك مبرر للتدهور السريع في الصرف . فالقيمة الحقيقية للدولار كانت في الواقع ( 80 ، 1 ) مارك وليس ( 36 ، 1 ) كما هو سائد في أسواق التعامل . كما كان الدولار يحصل في أسواق النقد ، أي في سوق القروض القصيرة الأجل ، على فائدة تتفوق على ما تحصل عليه العملتان الصاعدتان ، المارك والين ، بمقدار نقطة مئوية وهكذا أصيب علماء الاقتصاد بالحيرة إزاء هذا التطور .
إلاّ أن ” فلهلم هانكل ، أستاذ الاقتصاد في جامعة فرانكفورت ، يرى في تدهور الدولار ” سياسة نقدية أمريكية محنكة ” فحينما يطلق القائمون على السياسة النقدية في واشنطن التصريحات التي تسبب تدهوره ، فإنهم يجبرون الدول الأخرى على مواجهة المشكلة .
وتشهد الاحصائيات الاقتصادية لعام 1995 على أن النجاح كان حليف الاستراتيجيني القائمين على شؤون الدولار ففي ألمانيا لم يتحقق سوى نصف ما كان المرء يتوقعه من نمو اقتصادي ، كما تسبب ضعف الدولار في تسريح أعداد كبيرة من العاملين .
أما بالنسبة لليابان فقد كان الأمر أشد وطأة . إذ انخفض فائض تجارتها مع الولايات المتحدة الأمريكية بمقدار ثلاثة أرباع في خلال اثني عشر شهراً فقط . وهكذا لم يعد الاقتصاد الياباني يعاني من تراجع النمو الاقتصادي ، بل صارنين تحت وطأة الانكماش ، وما رافقه من مضاعفة لعدد العمال العاطلين عن العمل ، ولم يتخل الأمريكيون عن توجههم الصارم إلا في خريف عام 1995 ، وذلك بعد وثوقهم من تحقق النتيجة التي كانوا يرغبون بتحققها . ابتداءاً من سبتمبر بدأ محافظو المصارف المركزية الثلاث معاً بدعم الدولار ، الأمر الذي تسبب ، بكل هدوء وعلى نحو تدريجي في ارتفاع سعر صرف الدولار ليصل ، في صيف عام 1996 ، إلى ( 48 ، 1 ) مارك من جديد .
ومعنى هذا هو أن أسواق العملات لا تتصرف على نحو جنوبي البتة ، بل هي ترقص على ألحان آلن غرينسبان ، وبالتالي فإن ما يبديه الخبراء من حيرة حيال هذه الظاهرة ليس سوى مؤشر على تجاهل نظرياتهم لحقيقة أنه في عالم المترابط عبر شبكات الربط الإلكترونية أيضاً يعمل بشر لهم مصالح يفرضونها لما لديهم من وسائل القوة والهيمنة ، وهناك آخرون يستسلمون لهم من هنا فليست المصارف المركزية متشابهة من حيث العجز على مواجهة الوحش المفترس : السوق . فلكل واحد منهما منزلته . ويتربع المصرف المركزي الأمريكي على القمة . وفي المرتبة الثانية يأتي المصرف المركزي الياباني والمصرف المركزي الألماني ، اللذان يهيمنان بدورهما على جيرانهما في مناطق نفوذ الين والمارك الألماني .
الضريبة كأداة تساعد على توجيه أسواق المال : ضريبة توبين
كان ” توبين ” الاقتصادي الأمريكي الحامل لجائزة نوبل ، قد طور في السبعينات خطة مناسبة جداً ، وذلك انطلاقاً من اعتقاده بأن حرية رأس المال في الانتقال تضر بالقطاعات الإنتاجية ، وذلك بسبب التغيرات المفاجئة التي تطرأ على اتجاهاتها من ناحية ، وبسبب التغيرات الفوضوية الكبيرة التي تحل بأسعار الصرف من ناحية أخرى ولذا فقد نصح بضرورة ” الحد شيئاً ما ، من نشاطات أسواق النقد الدولية التي تعمل بجدارة تفوق المطلوب بقدر ما ” ، وذلك بفرض ضريبة بنسبة واحد بالمائة على كل المعاملات بالعملات الأجنبية . هذا وإن بدت هذه النسبة ضئيلة ، إلاّ أن تأثيرها عظيم بلا مراء . فبادئ ذي بدء ، لن تكون الجهود الرامية إلى استغلال اختلاف مستويات
أسعار الفائدة السائدة في الأسواق والبلدان بحرية ، إلاّ في حالات استثنائية فقط . فعلى المستثمر الذي يرغب ، مثلاُ ، في التحول من أوراق مالية مصدرة بالمارك الألماني ، وبفائدة منخفضة نسبياً ، إلى أوراق مالية مصدرة بالدولار وبفائدة أعلى نسبياً ، عليه أن يحتسب ، مقدماً ، أنه سيدفع إلى المالية الحكومية ما قيمته اثنان بالمائة من رأسماله المستثمر ، وذلك لأنه سيدفع واحداً بالمائة عند انتقاله من المارك إلى الدولار وواحداً بالمائة ، آخر ، عند رجوعه من الدولار إلى المارك ثانية . انطلاقاً من الاستثمار السائد ، حالياً ، في كمبيالات مدتها ثلاثة أشهر سيكون الاستثمار مجدياً فقط عندما يبلغ الفارق السائد بين أسعار الفائدة الألمانية والأمريكية ، بالنسبة للسنة ككل ، ثمانية بالمائة – وهو احتمال يصعب تصوره حقاُ .
أما إذا فضل استثماراً أطول مدى ، فسيكون الربح حقاً أعلى ، إلاّ أن مخاطر أن ينخفض فارق معدلات الفائدة وبالتالي ستكون قيمة الستثمار ، هي الأخرى أعلى أيضأ .
إن محاسن هذه الضريبة بالنسبة للاقتصاد الحقيقي ، أي القطاعات الانتاجية ، واضحة بلا مراء : إذ سيكون ، في الحال ، بمستطاع كل مصرف مركزي التحكم بمستوى الفائدة في السوق الوطنية بحرية تامة ، أي بصورة مستقلة عن المصارف المركزية الأخرى ، وبما يناسب الحالة الاقتصادية السائدة في كل بلد . ومن هنا فحتى إن كان الاقتصاد في الولايات المتحدة الأمريكية ، يعيش حالة ازدهار ونشاط جيد ، فإنه سيظل بوسع الأوروبيين الذين يعيشون حالة ركود اقتصادي ، إقراض نقودهم بفائدة هي أدنى من الفائدة التي يطلبها المصرف المركزي الأمريكي بمقدار ثماني نقاط مئوية وإنه لأمر جلي أن هذه الضريبة المسماة نسبة إلى مخترعها بضريبة توبين ( tobin tax ) لا تمنح الحكومات الحرية على تمديد أسعار الفائدة كما يحلو لها ، لا سيما أن مثل هذه الحرية أمر غير مستحسن أصلاً . فحينما تختلف مستويات تطور البلدان ، فلا مناص من أن تعكس أسعار صرف عملاتها هذه الاختلافات ، وتكون قادرة هي الأخرى أيضاً على التغير . من ناحية أخرى ستتراجع عمليات المضاربة على نحو بين ، وسيزيد احتمال أن تتطور أسعار الصرف تبعاً للمعطيات الاقتصادية المسماة بـ ” الأساسية ” بالمصطلح الاقتصادي . في الوقت ذاته سيكون بمقدور المصارف المركزية السهر ثانية على مهمتها الأساسية ، أعني استقرار أسعار الصرف . ولا ريب في عملياتها الرامية إلى دعم أسعار الصرف من خلال بيع وشراء العملات ستستعيد – بفعل الحرية على العمل التي تفرزها الضريبة – وزنها من جديد ، وذلك لأنها ستتعامل مع رأس مال سائل تراجعت كميته على نحو كبير .
إلى جانب هذا كله يبرر العائد المالي الذي ستحصل عليه الحكومة فرض الضريبة على المتاجرة بالعملات الأجنبية من قبيل ضريبة توبين . فتبعاً لمستوى المعدل الضريبي يقدر الخبراء أن العائد العالمي سيتراوح ما بين 150 و 720 مليار دولار ، الأمر الذي يقلل من وطأة العجز الذي تعاني منه الموازنات الحكومية من هنا ستعيد هذه الضريبة إلى خزينة الدولة ما تخسره من جراء التهرب الضريبي الذي يتم بإدارة وتنظيم المصارف التجارية .
وفي الواقع لم يُطرح ، منذ عقود من السنين ، أي برهان جدي من وجهة النظر العلمية أو السياسية يثبت بطلان اقتراح توبين . فحتى معارضوه يرون أن هذا الاقتراح لا غبار عليه في الناحية النظرية . إن عيب هذا الاقتراح يكمن بلا ريب في أن المعنيين به يعارضونه وأنهم يهددون دول العالم بعضها ببعض ، مطبقين نفس الذي يطبقونه لإجبار الدول على تخفيض الضرائب الاعتيادية . والواقع أن إعفاء مركز مالي واحد كبير من هذه الضريبة سيعني بلا ريب تركز المتاجرة بالعملات في هذا المركز . وحتى إن طبقت مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى لمجموعها ضريبة توبين ، فسيظل بوسع القطاع المالي نقل عملياته ، ظاهرياً ، إلى فروعه في الواحات الضريبية الممتدة من جزر الكيمن وحتى سنغافورة . متخلصاُ من التقليص المحتمل في عملياته إثر فرض الضريبة .
وفي الحقيقة ، فحتى بضريبة المبيعات هذه لن يكون في الإمكان ترويض القطاع المالي الذي استفحلت وحشيته ، ما دامت الدول تتبارى على رأسماله وعلى ما يخلقه من فرص عمل . ولكن ، ومع هذا ، لا ينبغي لبعض الدول ، ودول الاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص ، البقاء مكتوفة الأيدي . فهذه الدول بمستطاعها أن تتدبر الأمر منفردة ، كما أوضح توبين في دراسة جديدة قدمها في صيف عام 1995 . المطلوب منها فقط أن تتقدم بالموضوع الضريبي خطوة أخرى ، فتخضع ، إقراض عملتها إلى المصارف الأجنبية ، بما فيها فروع مصارفها الوطنية في الخارج ، أيضاً إلى ضريبة إضافية لن يكو بالإمكان التهرب منها : فمن يريد مضاربة على الفرنك ، لا مناص له ، بادئ ذي بدء ، من أن تعترض بالفرنك . وحتى إن اقتراض المبلغ المطلوب من مصرف في نيويورك أو سنغافورة ، فإنه سيتعين ، في نهاية المطاف ، على هذا المصرف نفسه الاقتراض لدى المصارف الفرنسية التي ستحمل زبائنها عبء الضريبة الإضافية .
ومعنى هذا أن الضريبة ستواجه المضاربة غير المرغوب فيها في الصحيح أي في الينبوع الذي يمولها بالسيولة الضرورية ، أعني القروض التي تزودها بالأموال التي تضارب بها . عملياً ستلغى ، عبر الضريبة ، بعض جوانب التحرير الكلي لتنقل رأس المال من جديد . في الوقت نفسه لن يكون للأمر أثر يذكر على التاجِرْ بالبضائع وعلى الاقتصاد الحقيقي ، أي الانتاجي فالضريبة الإضافية لن يكون لها وزن يذكر بالنسبة للاستثمارات أن الانتاجي فالضريبة الإضافية لن يكون لها وزن يذكر بالنسبة للاستثمارات الخارجية الصناعية أو بالنسبة للمتاجرة بالسلع ، إلاّ أنها ستكون بلا شك عظيمة الأثر بالنسبة للعمليات التي تضارب بالمليارات ، وتحقق أرباحاً طائلة بهامش ربح ضئيل ينجم عن تغير سعر الصرف بمقدار نقطة مئوية واحدة .
الفصل الرابع
شريعة الذئاب / الأزمة اللامحدودة في سوق العمل والأممية الجديدة
بالنسبة لكل قطاع وكل مهنة هناك ثورة جذرية في عالم العمل ، ثورة في عالم العمل ، ثورة لن يسلم منها أحد إلا بالكاد . ولقد ضاعت سدى كل الجهود التي بذلها السياسيون والاقتصاديون للعثور على بدائل لفرص العمل الضائعة في مؤسسة بناء السفن فولكان ومصانع انتاج الطائرات داسا أو مصانع فولكس فاجن لانتاج السيارات . كما انتشر الخوف من ضياع فرصة العمل بين العاملين في المكاتب أيضاً ، وراح يلقي بظلاله ، حتى على تلك القطاعات الاقتصادية التي كانت إلى حين من الزمن في منأى من مغبته . وأضحت الأعمال ، التي كان المرء يرى فيها مهنة سيستمر العمر كله في تأديتها ، فرصاً مؤقتة ومن كان في الأمس متخصصاً بمهنة ذات مستقبل براق ، صار مهدداً بأن تتحول كل كفاءاته بين ليلة وضحاها إلى قدرات لا قيمة لها .
وما هو في بداياته الأولى بالنسبة للمصارف وشركات التأمين أصبح منذ مدة ليست بالقصيرة حقيقة واقعة في قطاع كان يُظن أن مستقبله زاهر مشرق وهو صناعة برامج الكمبيوتر لقد بدأ المسؤلون في شركات الكمبيوتر الكبرى منذ عقد من السنين ، باستخدام خبراء جدد من الهند بأدنى الأجور فكانوا يستأجرون في بعض الأحيان طائرات برمتها لنقل هؤلاء العاملين . وكانوا يسمون مشروعاتهم هذه المقتصدة للكلفة (BRAIN SHOPPING ) شراء العقول وفي بادئ الأمر قاوم خبراء البرمجة المحليون المنافسين الزهيدي الأجور . وكانت الحكومة قد وقفت إلى جانبهم – ولذا فلم تمنح سمة الدخول لخبراء الكمبيوتر الهنود إلا في حالات استثنائية فقط .
إلاّ أن هذا الاجراء لم يجد نفعاً بالنسبة للمهندسين الأمريكيين المختصين ببرامج الكمبيوتر فالكثير من الشركات نقلت أجزاء مهمة مما لديها من نظم معلومات إلى الهند مباشرة . وقدمت لهم حكومة نيودلهي في عشر مناطق ، أُنشئت لهم فيها خصيصاً كل الهياكل التحتية الضرورية ابتداءً من المختبر المكيف وانتهاء بشبكة الاتصال عبر الأقمار الصناعية بلا ثمن تقريباً . ومهما كان الحال ، فالنسبة لهؤلاء العاملين في مجال نظم المعلومات كل جد وإخلاص وبأجور زهيدة ، قد بدأت السماء بالنسبة لهم تتلبد ، إذ أخذ زميل آخر ينافسهم على نحو متنام وأكثر رخصاً : إنه الكمبيوتر الذي لا قدرة لهم على مصارعته والانتصار عليه فالمطلعون على بواطن الأمور في هذا القطاع يرون أن العمل البشري في قطاع برامج الكمبيوتر ” ظاهرة مؤقتة حتى إن كان زهيد الأجر ، فالتوسع في إنتاج البرامج الجاهزة والتقدم في تطوير لغات جديدة في كتابة البرامج سيؤدي قريباً ، إلى ألاّ تكون هناك حاجة إلى العمل البشري إلا بالكاد ، وأن استخدام الأجهزة الجديدة سيمكن مبرمجاً واحداً في المستقبل من تأدية ما ينجزه اليوم مائة من زملائه ، إنه حقاً تنبؤ بلا رحمة لفئة مهنية كانت تعتبر حتى الآن طليعة التقدم .
من ناحية أخرى سيختفي ، بفعل التوسع في الاتصال المباشر ( ON LINE ) عبر شبكان الربط الالكترونية ، عدد لا يحصى من المهن الخدمية الأخرى . فأمناء المحفوظات والمكتبات والعاملون لدى الصحف المحلية وجرائد الاعلانات ، هؤلاء جميعاً سيفيضون عن الحاجة . وحينما يتوافر أكبر عدد من الأفراد أمام أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم ، وعلى الهاتف المربوط بشبكة المعلومات ، وحينما يكون بمستطاع الزبون اختيار ما يحتاج إليه من المعروض على مستوى العالم بدقائق ، من دون أن يغادر منزله ، عندئذ سيفقد جزء كبير من العاملين فرض عملهم بلا مراء .
إن الاقتصاد القائم على الجدارة العالية والتكنولوجية المتقدمة يتسبب ، عن طريق إعادة الهيكلة والتخلص من التعقيد والروتين وما يتبع ذلك من تقليص في فرص العمل وتسريح للأيدي العاملة ، في تفاقم البطاقة وفي خفض عدد المستهلكين في مجتمع الرفاهية . وبالتالي لاح في الأفق بوادر هزة اقتصادية واجتماعية يصعب التكهن بمدى خطرها الآن . فسواء تعلق الأمر بإنتاج السيارات أو أجهزة الكمبيوتر أو بصناعة المواد الكيماوية أو الأجهزة الالكترونية أو بشبكة الاتصالات الهاتفية أو بالخدمات البريدية أو بتجارة التجزئة أو بالاقتصاد المالي : نعم سواء تعلق الأمر بهذه أو بتلك ، فإن الحال واحدة ، وهي أنه حيثما تجري المتاجرة بالبضائع والخدمات عبر الحدود الدولية بكل حرية ، تعصف بالعمال ، بلا هواة على ما يبدو ، زوبعة هوجاء تتمثل في فقدان العمل البشري لقيمته وفي ترشيد يقضى على فرص العمل . إن كل واحد يشعر بآثار التحول ، حتى أولئك الذين لا تزال فرص عملهم تبدو آمنة حتى الآن . وأخذ الخوف من المستقبل وعدم الوثوق بما يغمره بنشران ظلاله أكثر فأكثر كما أخذ البناء الاجتماعي ينهار ويتحطم . ومع هذا يرفض غالبية المسؤولين تحمل المسؤولية فتتظاهر الحكومات ومجالس إدارات المؤسسات بالحيرة مدعين أنه لا ذنب لهم فيما يحدث ، مؤكدين لناخبيهم ومستخدميهم أن الضياع الهائل في فرص العمل ليس سوى نتيجة لا مناص منها للتحولات الهيكلية ” .
ولا شك في أن المنتفعين من الاقتصاد الذي تنتفي فيه الحدود الدولية ، يودون السمو بالأزمة إلى مصاف الأحداث الناجمة بفعل قوانين الطبيعة . إلا أن التكامل الاقتصادي المتخطي لكل الحدود الدولية لا ينجم ، أبدا ، بفعل قانون طبيعي أو تقديم تكنولوجي مستقيم المسار وذي صيغة واحدة لا بديل لها ، بل هو في الواقع النتيجة الحتمية لتلك السياسة التي انتهجتها الحكومات في البلدان الصناعية الغربية ، منذ عقد من الزمن ولا تزال تطبقها حتى هذا اليوم .
حرب تحرير لرأس المال :
وكانت المسيرة صوب العلاقات الاقتصادية المعولمة ، قد بدأت حينما كانت أروبا لا تزال تصارع الآثار التي خلقتها الحرب العالمية الثانية . ففي عام 1948 توصلت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية ، إلى ” الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة المسماة اختصار بـ ” الجات ” ، وذلك رغبة من هذه الدول في خلق نظام مشترك للتجارة الدولية لأول مرة في التاريخ . وفي جولات دولية وصل عددها الثمانية واستغرقت كل واحدة منها عدة سنوات ، اتفقت الدول المشاركة في الجات على تخفيض مستمر لتعريفاتها الجمركية في عقود السنين التالية . ومن هنا لم تبق هناك أهمية تذكر للضرائب الجمركية بالنسبة للتجارة السائدة بين الدول المتقدمة . وهكذا ومنذ تأسيس ” منظمة التجارة العالمية ” المسماة اختصاراً (WTO ) ومقرها في جنيف كبديل للجات لم تعد الحكومات تتفاوض على القيود الجمركية . بل صارت تركز جهودها على العوائق الأخرى التي تحد من حرية التجارة بين الدول ، كاحتكار الدول لبعض المجالات الاقتصادية ، أو كالقيود الفنية التي تتخذها .
وكانت النتائج التي أفرزها التحرير المتزايد للتجارة عظيمة بلا مراء فمنذ أربعة عقود من الزمن فاق نمو التجارة في السلع والخدمات نمو الانتاج . لا بل منذ عام 1985 أضحى نمو قيمة التجارة يفوق نمو قيمة الانتاج الاجمالي بمقدار الضعف . وفي تمام عام 1995 بلغ حجم التجارة العابرة للحدود خمس مجموع السلع والخدمات المحتسب انتاجها إحصائياً .
ولفترة طويلة من لمس المواطنون في البلدان الصناعية أن النمو المطرد في التشابك الاقتصادي مع العالم الخارجي قد أدى فعلاً إلى رفع مستواهم المعيشس أيضاً . إلا أن الحال قد تغير في نهاية السبعينات ، إذ حدث تحول تاريخي في السياسة الاقتصادية المطبقة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية ، وهو تحول أضفى على الاقتصاد العالمي جداً جديداً . فحتى ذلك الحين كانت غالبية البلدان الصناعية تسير في ضوء المبادئ
– 3 –
التي صاغها الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز ، كرد على الكارثة الاقتصادية التي اندلعت في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين . وكان كنينز قدر خط الحكومة إلى مصاف المستثمر المالي الرئيسي في الاقتصاد الوطني ، إذ أناط بها التدخل ، عبر موازنتها المالية في النشاطات الاقتصادية بغية تصحيح حالات البطالة والركود التي يفرزها السوق ، فإذا تميزت الحالة السائدة بالركود ، فإن على الحكومات رفع الطلب الكلي من خلال زيادة الانفاق الاستثمارى وذلك تفادياً لانكماش النمو الاقتصادي .
أما في الحالات التي تتميز بنشاط اقتصادي يفوق حجم الطاقات الانتاجية المتاحة ، فإن على الحكومات تفادي التضخم وذلك من خلال استخدام زيادة الايرادات الضريبية ، لتسديد ما ترتب عليها من ديون كانت قد مولت بها ما أنفقته لمواجهة حالة الركود . ومن هنا فقد دعم الكثير من الدول على نحو انتقال ، تلك الصناعات التي كان يُعتقد أنها الضامنة لتحقيق نمو اقتصادي سريع ولزيادة الطلب على الأيدي العاملة . إلا أن هذا التصور أثيرت من حوله الشكوك ، بفعل ارتفاع أسعار النفط في الفترة الواقعة بين عام 1973 وعام 1979 .
ففي كثير من الحالات لم تستطع الحكومات من السيطرة على العجز في الموازنة ومن التحكم بالتضخم .
كذلك لم يعد بالامكان ابقاء أسعار صرف العملات في مستوياتها السائدة .
ومن هنا فقد اتخذ المحافظون الذين فازوا بالانتخابات في عام 1979 في بريطانيا ، وفي عام 1980 في الولايات المتحدة الأمريكية عقيدة اقتصادية مختلفة كلية لمبدأ سياستهم وهي ما يسمى باليبرالية الجديدة والتي نادى بها فريدمان مستشار ريفان الاقتصادي و
. فقد كان هذان المنظران قد أوكلا إلى الحكومة مهمة الحفاظ على الإطار العام للنظام الرأسمالي مؤكدين على أنه كلما تمتعت المشروعات بحرية أكبر بشأن استثماراتها واستخدامها للأيدي العاملة ، كان النمو أكبر والمستوى الاقتصادي أعلى للجميع . وبناء على هذا الاعتقاد راحت الحكومات الغربية ، الليبرالية النزعة في غالبيتها ، تبذل في الثمانينيات ، قصارى جهدها من أجل تحرير رأس المال من القيود ، فألفت على جبهة عريضة ، ما كان سائداً من رقابة وتدخلات حكومية ، ولم تكتف بهذا فقط ، بل راحت تضغط على كل الشركاء الرافضين لتطبيع هذا المنهج ، للأخذ بالتوجه الجديد مهددين إياهم بالعقوبات التجارية وبوسائل الضغط الأخرى .
فالتحرير ، والليبرالية والخصخصة : لقد غدا هذا الثلاثي هو الوسائل الاستراتيجية في السياسة الاقتصادية الاوروبية والأمريكية ، التي أعلن من شأنها المشروع الليبرالي الجديد لتغدوا ايدلوجية تتعهد الدولة بفرضها . وبفعل إيمانهم المتطرف بالسوق رأى الحاكمون في واشنطون ولندن أن النظام الذي تأخذ بقانون العرض والطلب ، هو أفضل الأنظمة المتاحة طرءً . وصار توسيع التجارة الحرة هدفاً بحد ذاته لا يحتاج إلى تفسير وبالتحرير الكامل لأسواق الصرف الأجنبي وأسواق رأس المال ثم في الواقع ، ومن دون أي اعتراض ذي شأن أكبر تغيير جذري في النظام الاقتصادي السائد في الديموقراطيات الغربية .
– 4 –
وبعد مضي فترة وجيزة على ذلك ، لم تعد مجهولة هوية أولئك الذي يتحملون في المستقبل عبء مخاطر السوق ، فعلى وجه الخصوص في القطاعات المنتجة للسلع الكثيفة العمل البشري والتي تشغل كثيراً من الأيدي العاملة غير المتعلمة أو قلة من الكادر المتخصص ، واجهت المشروعات من كل الأحجام المنافسة القادمة من بلدان الأيدي العاملة رخيصة الأجر . ولذا أضحت الصناعة الأثاث والمنسوجات والأحذية والساعات اليدوية ولعب الأطفال مجدية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية فقط ، في حالة تحول أجزاء واسعة من الانتاج إلى الانتاج الآلي أو العالم الخارجي . من ناحية أخرى كانت اليابان قد انضمت بصفتها دولة صناعية جديدة ، إلى صف الرواد القدماء في السوق العالمي ، وراحت تضغط بالأسعار المتدنية لصادراتها على باقي الصناعات الأخرى . وتمثل رد العالم الغربي في بادئ الأمر بفرض ضرائب جمركية حمائية وبإجبار اليابان ، دونما طائل ، على أن تقدم التعهد بأنها ستقوم طواعية بالحد من صادراتها إلى هذه البلدان . وفي ذات الوقت ظلت الكلمة الأولى سياسياً وأيدولوجيا ، في أيدي مناصري حرية التجارة ، الذين استطاعوا – بزعمهم أن أساليب حمائية من هذا القبيل تقف حجر عثرة في طريق المتقدم التكنولوجي – أن يظفها بأن تُطبّق الغالبية العظمى من وسائل الحماية لفترة مؤقتة لا غير .
إن التخلي عن الانتاج الواسع للسلع الكثيفة العمل البشري ، والتحول صوب الانتاج المعتمد على التقنية العالية ، وصوب المجتمع الخدمي أصبح هو التطور الذي كان يراد منه تضميد الجراح التي سببتها المنافسة الدولية والانتاج الآلي . وفي الحقيقة لم يتحقق هذا الأمل أبداً . فالبرغم من النمو الدائم لم يجد ، باستثناء اليابان ، عدد متزايد من السكان في كل دول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي فرص عمل بأجر مناسب .
الرفاهية من خلال التجارة الحرة : الوعد الكاذب :
وفقاً للنظريات الاقتصادية السائدة ما كان يمكن أن تفضى الحال إلى ما عليه سوق العمل أبدا . فالتبادل الحر للسلع عبر الحدود الدولية يؤدي ، حسب ما يقوله دعاة التجارة الحرة حتى هذا اليوم – إلى زيادة الرفاهية لدى كل الأمم المشاركة . واليوم لا شيء قادر على التنقل بالسرعة التي يتنقل بها رأس المال . فمن ناحيه توجه الاستثمارات الدولية تدفق التجارة ، ومن ناحية أخرى تحدد المليارات المتنقلة بسرعة الضوء أسعار الصرف الأجنبي ، وكذلك القوة الشرائية للبلد المعني ولعملته إزاء باقي بلدان العالم ومعنى هذا هو أن الفروقات النسبية في التكاليف لم تعد هي المحرك الدافع للمتاجرة لقد صارت العبرة للتفوق المطلق في جميع الأسواق والبلدان في آن واحد ، فحيثما تكون الشركات دولية النشاط قادرة على انتاج بضائعها في – مناطق تتصف بتدني – الأجور
– 5 –
وبخلوها من مدفوعات الضمان الاجتماعي أو التكاليف المطلقة التي تتحملها في سياق عملية الانتاج . ولا يترتب على هذا الأمر انخفاض أسعار السلع فقط ، بل يترتب عليه : انخفاض سعر قوة العمل أيضاً .
وكلما كان الانتاج ورأس المال أكثر قابلية على التحرك عبر الحدود الدولية ، كانت أقل خضوعاً للحكومات تلك المؤسسات العملاقة ، التي ترعب اليوم الحكومات وناخبيها على حد سواء وتجرد الجميع مما لديهم من سطوة : أعني الشركات العابرة للقارات . هناك الآن ما يقرب من أربعين ألف شركة تمتلك مصانع ما يزيد على ثلاث دول . ووصلت قيمة مبيعات المائة الكبرى منها إلى ما يقرب من ( 4 ، 1 ) بليون دولار في العام الواحد . وتهيمن الشركات العابرة للقارات على ثلثي التجارة العالمية ، ويُنجز ما يقرب من نصف هذه التجارة في داخل شبكه المصانع التي تعود ملكيتها إلى الشركة الأم . من هنا فإن هذه الشركات صارت محور العولمة والقوة الدافعة لها بلا انقطاع . وفي هذا كله تمكنها طرق الامدادات الحديثة وتكاليف النقل المنخفضة على توحيد مراحل الانتاج وتركيزها . فالشركات جيدة التنظيم تستطيع عند الحاجة تحويل انتاج كل سلعة تنتجها من بلد إلى آخر في غضون أيام وجيزة . وهكذا لم تعد البلدان المختلفة وشركاتها الوطنية هي التي تقوم بنفسها في المتاجرة دولياً بما يُنتج في هذه البلدان من السلع ، وهو أمر كان يمكن أن يتيح الفرصة للتفاوض أو الاختلاف حول الحصص التي ستحصل عليها الأطراف الوطنية من الأرباح المتحققة في التجارة الدولية ، بل ، وبدلا من هذا ، صارت البروليتاريا العالمية التي تتنافس الآن على فرص العمل الضئيلة التي يتيحها لها الانتاج المنظم عالمياً
ولا ريب في أن هذا التطور قد تسبب في القضاء على القواعد التي قامت عليها فيما مضى من الزمن الاقتصادات الوطنية : فمن ناحية يُعجل هذا التطور في توالي الابتكارات التكنولوجية وعمليات الترشيد على نحو غير معقول ، الأمر الذي يؤدي إلى أن تنمو الانتاجية بوتائر أسرع من وتائر نمو الناتج القومي الاجمالي . إن حصيلة هذا كله هو ما يسمى بـ ” jobless growth ” أي نمو لا يفضي إلى زيادة في فرص العمل . ومن ناحية أخرى فإنه يغير توازن القوى بين رأس المال والعمل على نحو جذري . إن الأهمية التي كانت فيما مضى من الزمن الشعار الذي رفعته الحركة العمالية ، في مواجهة دعاة الحكام والرأسماليين . أضحت الآن شعار الطرف الآخر . فالطبقة العاملة ، التي لا تنتظم في الغالب الدعم ، إلا في إطار وطني لا غير تواجه شركات دولية تُسخِّر الانتقال إلى خارج الحدود للقضاء على كل ما يواجهها من مطالب . على ضوء هذا فلربما كان الوعد بزيادة الرفاهية من خلال التجارة الحرة صادقاً بالنسبة للمستثمرين وقادة الشركات . إلا أنه يفتقدا لمصداقيته بالنسبة لعمالهم والمستخدمين لديهم وبالنسبة للعدد المتزايد من العاطلين عن العمل على وجه الخصوص . فبالنسبة لهؤلاء يفضي التقدم المزعوم إلى عكس المتوخى .
– 6 –
النموذج الأمريكي : العودة إلى العمل الأمر اليومي :
حقاً لقد صارت أمريكا تحتل مكان الصدارة ، إلا أن مواطنيها دفعوا ثمناً غالياً من أجل ذلك . فأكثر بلدان العالم انتاجية وثراءً أضحى ، في ذات الوقت ، أكبر اقتصادات العالم رخصاً من حيث الأجور . فميزة أمريكا لم تعد تكمن اليوم في سعة السوق الوطنية أو في ما لديها من علماء جبابرة ، بل صارت تكمن في رخص الأيدي العاملة .
فالمنافسة المتصاعدة تسبب في إصابة ما يزيد على نصف السكان بالفزع الأمريكي الجديد : انحدار بلا نهاية . في عام 1995 حصل أربعة أخماس مجمل المتسخدمين والعمال الذكور في الولايات المتحدة الأمريكية عن كل ساعة عمل ، مبلغاً هو من الناحية الحقيقية ، أدنى مما كانوا يحصلون عليه في عام 1973 بمقدار ( 11 ) بالمائة . ويعني هذا أن المستوى المعيشي الفعلي قد انخفض بالنسبة للغالبية العظمى في العقدين الأخيرين .
حقاً لقد ارتفع الناتج الاجمالي في الفترة الواقعة بين عام 1973 وعام 1994 من الناحية الحقيقية ، بمقدار الثلث بالنسبة للفرد الواحد من سكان الولايات المتحدة الأمريكية ، إلا أن متوسط الأجر الاجمالي كان قد انخفض ، بالنسبة لجميع العاملين الذين لا يتقلدون مناصب إدارية ، إدارية أي بالنسبة لما يقرب من ثلاثة أرباع السكان العاملين ، بمقدار 19 في المائة أي أنه انخفض إلى 258 دولاراً أو ما يساوي 380 ماركاً ألمانيّاً في الأسبوع . علماً بأن هذا ليس سوى متوسط إحصائي هذا ، وكان الأجر قد انخفض على نحو أشد بالنسبة للثلث الأدنى في سلم الدخول : فهذه الملايين من السكان صارت تحصل على أجر يقل بمقدار 20% عما كان سائداً قبل عشرين عاماً .
ومع هذا ، ومقارنه بالماضي ، لا مراء أبداً في أن المجتمع الأمريكي ، إجمالاً ليس هو الأفقر ، فلم يسبق أن حاز المواطنون الأمريكيون على ما يحوزونه اليوم من الثروة والدخول ، إن المشكلة تكمن فقط في أن النمو المتحقق هو برمته من حصة الخمس الثري أي حصة العشرين مليون عائلة لا غير كما هو ثابت إحصائياً .
وحتى في إطار هذه الفئة نفسها يتوزع الربح توزيعاً غير عادل على نحو شديد . فواحد بالمائة من أثرى العائلات ضاعفوا دخولهم منذ عام 1980 . وهكذا أضحى أغنى الأغنياء أي حوالي نصف مليون شخص يمتلكون اليوم ثلث مجموع الثروة التي يمتلكها الأهالي في الولايات المتحدة الأمريكية .
– 7 –
ويحصل غالبية المديرين الكبار على رواتبهم العالية إكراماً لما يبذلون من جهد يرد إلى تخفيض تكاليف العمل بكل السبل . ومن أجل تحقيق هذا الهدف اتخذت الصناعة ذات التقنية المتدنيّة الناشطة في انتاج الملابس والأحذية ولعب الأطفال والأجهزة الكهربائية طريقاً أكثر بساطة . فالجزء الأعظم من الانتاج في هذه القطاعات هجر الوطن ، إذ يتحول المنتجون إلى مستوردين يقومون إما بشراء بضائعهم من منتجين آسيويين أو بتسويق ما تنتجه مصانعهم الكائنة في الخارج نفسها ، فهناك رواد كبار في السوق العالمية ، كالمؤسسة الناشطة في صناعة أحذية الرياضة NICE أو كعملا في صناعة لعب الأطفال MARTEL ، لا يمتلكون اليوم أي مصانع ينتجون بها ما يسوقون من سلع . فهؤلاء يتعاقدون مع مختلف المنتجين في أندونيسيا وعبر بولندا وحتى المكسيك أو من الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً ، على أن ينتج لهم هؤلاء ما يسوقون من سلع ، المهم هو : من يقدم لهم أدنى التكاليف . فعلى سبيل المثال تشغل المشروعات الأمريكية في المكسيك ما يقرب من نصف مليون عامل بأجر لا يصل ولا حتى إلى خمسة دولات في اليوم ، أي بأجر لا يسد الرمق إلاّ بالكاد . أضف إلى هذا أن هؤلاء العاملين لا يحصلون على أي مدفوعات اجتماعية كالتأمين الصحي أو الضمان الاجتماعي .
الفزع من اللامساواة : حينما رفع الرأسمالي الأمريكي القديم ( فورد ) في عام 1914 أجور العمال لديه إلى الضعف وصار يدفع لهم خمسة دولارات عن كل يوم عمل ، شهرَّت به صحيفة دول ستريت جورنال واصفة خطوته هذه بأنها ” جريمة اقتصادية ” . وفي الواقع لم يقدم فورد على هذه الخطوة إلا لأنه كان قد توصل بنفسه إلى المنطق الذي ساد فيما بعد في الاقتصاد الوطني المتسارع النمو . فإذا كان يريد أن يجعل من سياراته سلعة استهلاكية في متناول الجميع ، فإنه يتعين تمكين الزبائن المحتملين من الحصول على دخول تكفي لاقتناء السلع الجديدة ، ولذا فإنه راح يدفع لعماله دخولاً تكفي رواتب ثلاثة شهور منها لشراء إحدى سياراته من موديل تي ، ولا ريب في أن هذه النسبة لم تعد متحققة اليوم للكثير من العاملين لدى الشركات المصنعة للسيارات ، خاصة عندما يعمل هؤلاء في المكسيك أو في جنوب شرق آسيا أو في الولايات المتحدة الأمريكية الجنوبية . وبما أن المشروعات تسوق بضائعها عالمياً ، لذا ” لم يعد مستقبلها يتوقف على ما لدى العاملين الأمريكيين في قوة شرائية ” ، هؤلاء العالميلن الذين صاروا يتحولون أكثر فأكثر إلى ” طبقة مذعورة
– 8 –
من هنا يرى لترثارو THUROW الاقتصادي في معهد MIT أن ما تنشره السلطات الأمريكية من إحصائيات رسمية عن مستوى البطالة ليس سوى تضليل ، في أفضل الحالات ولا يكاد يكون أكثر من حملة إعلامية كاذبة . فبناء على ما يقول يتعين أن نضيف إلى سعة ملايين عاطل عن العمل عام 1995 م ، حسب الاحصائيات الرسمية التي أعلنتها وزارة العمل والقائمة على التقدير وليس على الإحصاء الصحفي ، نعم يتعين أن نضيف إلى هؤلاء سنة ملايين مواطن أيضاً الذين يرغبون في العمل إلاّ أنهم تخلوا عن البحث عن فرصة عمل لفقدانهم الأمل في ذلك بالاضافة إلى هذا وذاك هناك ما يقرب 5 ، 4 مليون عامل مجبرين على العمل لبعض ساعات النهار فقط . وبالتالي وبناء على ما يقوله . THU فإننا لو جمعنا المجموعات الثلاث معاً ، فإن أربع عشرة بالمائة من مجموع السكان في سن العمل بحاجة إلى فرص عمل نظامية . وسترتفع هذه السنة إلى 28 بالمائة ، إذا ما أخذ المرء بعين الاعتبار أولئك الذي لا يعملون إلا من حين لآخر : أعني 1 ، 10 مليون عامل ومستخدم يعملون بعقود مؤقتة ، وكذلك
3 ، 8 مليون يعملون لحسابهم الخاص غالبيتهم جامعيون ، نادراً ما يوكل إليهم إنجاز عمل هم متخصصون فيه . وتترك هذه الحالة أثرها في توزيع الدخول طبعاً . فما يقرب من مهن العاملين يحصل على أجور هي دون المستوى الرسمي للفقر ، كما تقول ذلك منظمة العمل الدولية ( ILO ) التابعة للأمم المتحدة . وبالتالي فقد غدا الفقراء العاملون فئة معتبرة في التركيبة الاجتماعية الأمريكية من ناحية أخرى يتعين اليوم على العاملين الأمريكيين العمل مدة أطول في المتوسط ، من زملائهم في غالبية بلدان منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي ، أضف إلى هذا أنهم يحصلون بأدنى تأمين وأنه يتعين عليهم تغيير مكان عملهم وسكناهم على نحو أكثر لذا ” إن معدل بطالة منخفضا لا يعني كثيراً عندما يسرح عامل يحصل على أجر يبلغ 15 دولاراً في الساعة ، ويتحول إلى عمل آخر يحصل فيه على نصف هذا الأجر فقط .
لم يحسد الأمريكيون ، أبداً ، مواطنيهم من رجال الأعمال الناجحين على ثرواتهم ، وذلك لأن غالبيتهم ستنتفع ، في نهاية المطاف ، من هذا الثراء ، إلى حد ما أيضاً . ومن هنا لم يعرف التاريخ الأمريكي في الفترة السابقة على عام 1970 مرحلة طويلة من الزمن تعين فيها على الغالبية العظمى من السكان أن تتكبد الخسارة باستمرار ، في حين أن هناك أقلية تضاعف ثروتها ودخولها . إن لهذا الاعذار اثاراً وخيمة على مجمل الحياة الاجتماعية ، كما أنه يهدد ، على نحو متزايد ، الاستقرار السياسي . لقد تحول واحد من أكبر دعاة الحرب الباردة ، في ما سلف ، إلى واحد من أكثر نقاد
– 9 –
التوجه الاقتصادي الجديدة شدة ، فهو يرى أن ما تفرزه ” الرأسمالية النفاثة ” هو في واقع الحال ” نكتة خبيثة : فما كان يزعمه الماركسيون قبل مائة : عام من مزاعم كانت خاطئة كلية آنذاك ، أضحى الآن حقيقة . فالرأسماليون يزدادون ثراء الطبقة العاملة تزداد فقراً . و ” أن المنافسة المعولمة تطحن الناس طحناً وتدمر التماسلك الاجتماعي .
هل يتبقى شيء ألماني الطابع في شركة هوكست ؟
يصور التحول السائد في المصانع المنتجة للسيارات السرعة المرعبة التي يخطوها التكامل المعولم ، ولم يكن تقليص العاملين في المصانع في عقد الثمانينيات سوى البداية فقط .
فهي نقلت ولا تزال حتى هذا اليوم تنقل على نحو متنام فروعاً من الانتاج إلى الموردين الذين يزودونها الآن بأجزاء متكاملة ومعدة للتركيب ، من قبيل المجاور ، والمكيفات الهوائية ولوحات المفاتيح للسيارات . أما المصانع الأمريكية الحديثة لانتاج السيارات فإنها لا تنتج سوى ثلث المعدات اللازمة ، تاركة انتاج الباقي لموردين أخذوا يسعون في جانبهم أيضاً . بفعل الضغوط السعرية التي يمارسها عليهم زبائنهم ، إلى ترشيد الانتاج بلا انقطاع . إلاّ أن البعد الجديد لزيادة الانتاجية تسبب الآن في اندلاع عمليات تشابك وتبسيط للانتاج عبر كل الحدود ، أعني الحدود الدولية والحدود بين المشروعات أيضاً . فالمنتجون ، على الرغم من كل ما بينهم من منافسة ، اكتشفوا منذ أمد ليس بالقصير أن باستطاعتهم الاقتصاد في التكاليف إذا ما تركوا ، معا ، منتجين آخرين ينتجون لجميع المؤسسات ما تحتاج إليه من معدات . ومن هنا أضحى عدد لا يزيد على أصابع اليدين إلاّ بالكاد من هذه المولدات الصغيرة ، يسد حاجة السيارات الألمانية بمختلف انواعها . كما صار التشابك وتنميط المعدات يعم حتى المحركات ، بل وحتى السيارة برمتها .
من ناحية أخرى ، فإن المؤسسات ماضية على قدم وساق في إنشاء التحالفات والمشروعات المشتركة ( GOINT – VENTURES ) والاندماجات ، وذلك رغبة منها في تحقيق أعلى مستويات الجدارة والأداء .
وعلى هذا النحو تنسج مؤسسات إنتاج السيارات شبكة متكاملة تحيط بالعالم أجمع ، شبكة تلبي ، من حيث ما هي عليه من قابلية على التكيف والمرونة ، متطلبات ما تنتجه من بضائع ومن هنا ، لم يعد المنتجون الحقيقون [ أي العمال ] سوى عنصر يسبب التكاليف ، إنهم أدوات دونما حقوق ، أدوات يمكن دفعها إلى حافة الهاوية في كل وقت . ففي صناعة السيارات الألمانية فقط ضاعت في الفترة الواقعة بين عام 1991 وعام 1995 ما يزيد على ثلاثمائة ألف فرصة عمل ، وإن كان عدد السيارات المنتجة سنوياً قد ظل ثابتاً
– 10 –
في الفترة الزمنية ذاتها . وفي الواقع لا توجد دلائل على بلوغ هذا المسار نهايته .
ومع أن ضياع فرص العمل الناجم عن التشابكات العالمية قد بلغ جداً صار ينذر بالخطر ، إلاّ أن الأمر الأكثر خطورة هو التخلي عن الاستراتيجيات التصحيحية التي كانت تنتهجها في الماضي السياسات الاجتماعية والاقتصادية ، وحتى عقد التسعينيات كانت الأمم الاقتصادية الكبرى تتخذ مسارات مختلفة . فاليابان كانت قد طورت مبدأ الاستخدام مدى الحياة . وكان يجري توزيع أعباء التكيف على نحو متساو . وكان للأمن الاجتماعي الجماعي الأولوية ، لأن سلم القيم السائدة في المجتمع فحسب ، بل وفي سلم القيم السائدة فيما تتخذه المشروعات في خطوات عملية أيضاً ، إذ كانت المشروعات تضعه في مرتبة تسبق مرتبة الربحية الأعلى لرأس المال .
أما اليوم فلم يعد لهذا كله قيمة على ما يبدو . ففجأة يمارس رؤساء المؤسسات اليابانية أيضاً سياسة تخفيض العمل البشري ، ونقل الانتاج إلى الخارج كما لو كانوا قد من زملائهم الأمريكيين وفي كل الحالات التي يكون فيها الطرد عملاً مستنكراً ، فإنهم يعمدون إلى خفض قيمة العاملين لديهم وذلك عن طريق نقلهم إلى وظائف أدنى أجراً أو لا يعاز بتخفيض أجورهم ؟ أو نقلهم إلى فروع صغيرة أو تحويلهم إلى مندوبين تجاريين على أمل دفعهم لترك العمل . وحسبما ذكرت في عام 1994 إحدى الدراسات المقتصر تداولها على موظفي وزارة الاقتصاد فقط ، وبناءً على تقديرات المنتقدين يبحث اليوم عشر اليابانيين في سن العمل عن فرصة عمل . وفي الواقع فإن الحكومة ، التي كانت فيما مضى المؤسسة الساهرة على الاستقرار الاجتماعي ، هي التي تعزز هذه التحولات . فالتحرير الاقتصادي والتجاري أنهك قطاعات اقتصادية كاملة . فتراجعت فتراجعت قيمة الفوائض السابقة في الميزان التجاري على نحو كبير ، وما يثير الفزع في فرنسا ليس هو معدل البطالة الذي زاد على 12% فقط . فإلى جانب هذا هناك ما يقرب من 45% من مجموع العاملين يتعين على التعايش مع عقود عمل مؤقتة أو بعقود عمل لا تحميهم من التسريح المفاجئ . فسبعون بالمائة من كل فرص العمل الجديدة التي كانت في عام 1994 مؤقتة لا غير . في الوقت نفسه نخسر النقابات العمالية اعضاءها وتأثيرها ومنظورها باستمرار . فالسوق العالمية تقوض قواعد قوتها .
ومع أن العمالقة الثلاثة هوكست HOECHST وباير BAYER وباسف BASF قد أعلنوا أن ما حققوه من أرباح في عام 1995 ، فاق ما حققوه في كل السنين الماضية ، إلا انهم أذاعوا على الملأ في الوقت نفسه أنهم سيسرحون ، مجدداً ، عدداً من الأيدي العاملة علاوة على 150 ألف فرصة عمل كانوا قد شطبوها قبل عام واحد فقط . ويعترف ما نفرد شنيدر MANFRED SEHNUIDER رئيس مؤسسة BAYER بهذا التناقض ، فيقول : ” إننا على علم بأن الناس يشعرون بما في الأمر من تناقض ” ، إلاّ أن الربح الذي حققته المؤسسة لا يجوز أن يحجب عن أنظارنا أن ” BAYER تعاني من ضغط في ألمانيا ” .
بهاتين الجملتين عبر شنايدر بإيجاز عن منظوره . فبياتر ، شأنها في ذلك شأن
– 11 –
منافسيها الآخرين . مؤسسة ألمانية عُرفاً بسبب وجود مركزها الرئيس في ألمانيا . فهي تحقق ، في المتوسط 80% من مبيعاتها في الخارج ، ولا يزيد عدد العاملين لديها في ألمانيا على ثلث مجموع ما لديها من مستخدمين . وفي هذا السياق راح يورجن دورمان ، أحد القادة الاداريين لدى عملاق الصناعة الكيماوية في فرانكفورت ، أعني HEECHST ، يتساءل : ” أهناك شيء في HOECHST لا يزال ألماني الطبع ؟ ويجيب بنفسه عن سؤاله قائلاً ” إن الولايات المتحدة الأمريكية هي أكبر أسواقنا ، ومساهمنا الكويتي يمتلك حصصاُ تفوق ما لدى جميع المساهمين الألماني ، هذا بالاضافة إلى أن مسؤوليتنا من حيث البحث والتطوير ذات توجهات عالمية ” ويواصل حديثه قائلاً بأن ما لا يسير على النحو المطلوب هو الشركة المساهمة الألمانية ، فهي لا تحقق الأرباح المطلوبة . ولربما بدا هذا مبالغاً فيه ، إلا أنه سينطوي على شيء من الصدق عند المقارنة بفروع المؤسسة في أمريكا وآسيا . وفي ذات الوقت يؤكد DOOMANN على أن المؤسسة ” مهمة اجتماعية في ألمانيا طبعاً ، فنحن نشعر أيضاً – بأننا مواطنون ألمان ” . لكنه يرى أن المرء قد : بالغ بالوطنية ، إلى حد ما ” ، حتى الآن .
نعم . لم يعد بمقدور مسؤول كبير في منشأة عالمية التنظيم أن يراعي مسؤولية اجتماعية – وبهذا المعني فإن DORMANN ليس المُعاني الوحيد من هذا المأزق . فالتكليف الوارد في المادة 14 من الدستور الألماني والقائلة بأن ” الملكية مسؤولية اجتماعية ” وأنه ينبغي لها أنه توجه لخدمة المصلحة العامة ” تبدو لغالبية زملائه أيضاً أمراً غير قابل للتحقيق فما كان سائداً في الولايات المتحدة الأمريكية صار عرفاً يأخذ به قادة المؤسسات ، فهم أيضاً أخذوا يقسّمون فروعهم بناء على ما تدره من أرباح ، فإما أن الفرع أعلى الأرباح أو يكون مصيره التصفية . ومن هنا راحت HOECHST تتخلص المرة تلد الأخرى من المصانع الكيماوية القديمة .
زيادة قيمة الأسهم : نهاية ألمانيا التشاركيّة
إن الضغوط التي تواجهها المشروعات وقياداتها الادارية تتأتى من سوق المال متعدية الجنسية ، هي السوق التي هي مركز القوة للعولمة . فالتعامل العابر الحدود بالأسهم يلغى الروابط الوطنية على نحو أشد مما يفعله تشابك الانتاج . ومن منظور الموجهين للتدفقات العالمية لرأس المال تعاني المؤسسة من سوء الجدارة في ما كانت إحدى الشركات التابعة لها تحقق أرباحاً على رأس المال ، المستثمر تقل عن عشرة بالمائة ، وهكذا وكرد فعل من ناحية ، واستباقاً لمثل هذه التحديات من ناحية أخرى ، أخذت على نحو متزايد : كلاب مسعورة ” تحتل كراسي المديرين ، فالقساوة في تسريح العاملين والعزيمة في مواجهة النقابات مزايا تضمن الارتقاء في السلم الاداري فبين ليلة وضحاها أكتشف النقابيون أن معركتهم لم تعد تدور حول رفع أجور زملائهم
– 12 –
من العاملين ، بل صارت معركة حياة أو موت للنظام النقابي أصلاً . في أن يتخلى مشروع عن مستويات الأجور الملزمة بحكم ما اتفقت عليه النقابة مع ممثلي اتحادات المشروعات إلاّ ويتلوه مشروع آخر من ناحية أخرى أخذت مشروعات أخرى تنسحب من اتحادات ارباب العمل أصلا تخلصاً من الأجر الذي اتفقت عليه مع النقابة . كما راحت بعض المشروعات متوسطة الحجم تسعى للتوصيل إلى اتفاقيات مع العاملين لديها تثير الرعب والفزع لدى المسؤولين النقابيين . ويكمن الأسلوب المتبع ، في كل مكان تقريباً ، بالابتزاز بكل بساطة فالنسبة لمنتج مراحل التسخين فيسمان ، وهو مشروع مقام في مدينة كاسل ويعتبر عظيم النجاح ، إذ استطاع أن تحقيق ، بعمَّاله البالغ عددهم ستة آلاف وخمسمائة ، مبيعات سنوية تبلغ 7 ، 1 مليار مارك . نعم في هذا المشروع ، كان إعلان الادارة نيتها على نقل انتاج ماكينات التدفئة إلى التشبك في المستقبل ، كافياً لأن يوافق دونما اعتراض – 96 بالمائة من العاملين على العمل ثلاث ساعات اضافية في الأسبوع بلا أجر رغبة منهم في عدم المجازفة على إغلاق أحد المصانع في ألمانيا .
وفي حين يجري على هذا النحو ، تخفيض الأجور في ألمانيا ، يجري بنفس الأساليب ، العمل على ابقاء الأجر عند مستواه المتدني في البلدان التي يُنقل إليها الانتاج . ومع أن النقابيين يحاولون باستمرار ، تقريباً ، الوقوف بوجه عمليات الابتزاز هذه ، إلا أنهم يخسرون هذه المواجهات دوماً ، وذلك لأن بمقدور أرباب العمل أن يوقعوا بين العاملين وأن يبتزوا بعض مناطق الاستيطان الصناعي بالمناطق الأخرى . ولا يزال بعض المسؤولين النقابيين يوهمون أنفسهم بأن مشاركة ممثلي النقابات في مجالس ادارة المؤسسات بحكم القانون وكذلك انضواء جميع النقابات تحت تنظيم نقابي موحد ، عاملان قادران على صد التطور الوخيم ” الذي ركعّ النقابات الأمريكية . إلاّ أن عدد الأعضاء النقابيين يوحي بحقيقة مغايرة . فالتسريح تجزئة المؤسسات والاعتقاد بأن العضوية في النقابة تكلف رسوماً نقدية ، إلاّ أنها لا تنفع شيئاً عند الحاجة ، لا بل إنها يمكن أن تكون سبباً لفقدان فرصة العمل ، قد أدت إلى أن غير الاتحاد العام للنقابات الألمانية حوالي خُمس اعضائه منذ عام 1991 .
تحرير الأسواق : جنون منظم
ليس قادة صناديق الاستثمار والمؤسسات الصناعية بمفردهم المسؤولين عن ضياع فرص العمل وتدهور الأجور . فهناك مجموعة أخرى من الناشطين في هذا المجال
– 13 –
إنها الحكومات الوطنية . فلا تزال الغالبية العظمى من الوزراء والأحزاب الحاكمة في بلدان منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي تعتقد بأنه من ما تراجع تدخل الدول في الاقتصاد وعلى تحد كاف ، فسيتحقق الازدهار وستزداد فرص العمل بصورة عقوبة . وبناء على هذا البرنامج تهدم شيئاً فشيئاً ، في طوكيو وحتى واشنطن وبروكسل مشروعات احتكارية أو شبه احتكارية ، تديرها الدولة في داخل حدودها الوطنية . لقد صارت المنافسة كل شيء ، ولم تعد هناك أهمية لفرص العمل . إلاّ أن الحكومات تتسبب ، حينما تقوم بخصخصة البريد ، والاتصالات الهاتفية ، ومشروعات الكهرباء والمياه والنقل الجوي وسكة الحديد ، وتفتح الباب على مصراعيه للمتاجرة الدولية بهذه الخدمات ، وتمنح الأسواق الحرية على اتخاذ القرار في كل الأمور ، ابتداء من التكنولوجيا ، وحتى أساليب حماية حقوق العاملين ، حين تقوم بهذا كله ، فإنها تتسبب في الواقع بتعميق الأزمة التي انتخبت هذه الحكومات من أجل معالجتها .
إن هذا التناقض واضح في الولايات المتحدة وبريطانيا وضوحاً تاماً ، ولعل تحرير قطاع النقل الجوي الأمريكي خير مثال عليه . فلأسباب تتعلق بالسلامة والسيطة كان هناك كارتل حكومي يقوم بتوزيع الرحلات على الشركات المختلفة في السبعينات ، أما المنافسة فقد كانت حالة استثنائية . وكانت شركات الطيران تحقق ، آنذاك ، أرباح مجزية كما أنها كانت تقدم فرص عمل مضمونة في الغالب . إلاّ أن أسعار الرحلات كانت مرتفعة نسبياً . ولذا من كان لديه الوقت الكافي ولا يستطيع دفع السعر المطلوب ، كان بامكانه السفر بالحافلة أو القطار . إلاّ أن إدارة ركان قلبت كل شيء رأسا على عقب . فانهارت الأسعار ومعها العديد من المشروعات أيضاً وتحولت شركات الطيران وكذلك المؤسسات المنتجة للطائرات إلى قطاعات تفتقر إلى الاستقرار على نحو عظيم . وكانت حصيلة هذا كله تسريح جماهير عريضة من العاملين وعمليات شراء معادية للشركات ، أي عمليات شراء يردد بها تصفية هذه الشركات والتخلص من منافستها ، وحالات تتسم بالفوضى في المطارات . في نهاية المطاف لم يبق على قيد الحياة سوى ست شركات مسيطرة ، صارت تبيع رحلات أكثر مما كانت تبيعه في سالف الزمن ، وإن كان عدد المستخدمين لديها قد أصبح أدنى مما كان عليه قبل عشرين عاماً . ولا مراء أن السفر الجوي قد صار زهيداً على نحو لا مثيل له في السابع . إلاّ أن فرص العمل الجيدة قد ضاعت إلى الأبد .
بناء على هذا كله ، فإذا كان السياسيون ( الأوروبيون ) صادقين فيما يتزعمون على نحو متكرر من أن البطالة هي أكبر همومهم ، فإنهم يطبقون بلا ريب ، جنوناً منظماً . ولكن أهم فعلاً على علم بما يعملون ؟ إن من حق المرء فعلاً أن يثير الشكوك ههنا .
– 14 –
إن اللعب السياسي على الحبال والتأرجح بين الاستنكار والنفاق ليس عملاً أخرق فقط ، بل هو دليل أيضاً على أن غالبية رجال الحكم لم يعودوا يسيرون عدد نتائج ما يصوغون من برامج اقتصادية ذات العباد عالمية .
” إن القرار بتحرير بعض القطاعات الخدمية التي كانت الدولة تحتكر تقديمها ، ليس خطوة ذات طابع ايديولوجي أبداً ، بل هو تعبير عن رغبة طبيعية للتكيف مع التطورات الاقتصادية والتكنولوجية . ” كما يؤكد المفوض الأوروبي لشؤون المنافسة ، ولا ريب أن هذا التعبير يزيح القناع عن الايديولوجية اللامبالية ، التي يلمسها المرء دائماً وأبداً حينما يزعم السياسيون بأنهم يستجيبون لما تمليه عليه طبيعة الأمور ، عندما يتخذون قراراتهم بشأن خصخصة المشاريع الحكومية وتوزيع العوائد الضريبية والميزات الاقتصادية . وممثلو اللوبي ، فمن قبيل ديرك هودج المدافع عن مصالح المؤسسات الصناعية البريطانية في بروكسل ، أكثر وضوحاً في هذا الشأن فهو يزعم شاكياً ، أن الأسعار المعتبرة التي يدفعها المواطنون في أوروبا عن الخدمات الحكومية هي ” نتيجة منطقية لسوء الجدارة السائدة في المشاريع الحكومية ، فهذه تخدم المستخدمين لديها أكثر من خدمتها للزبائن ” ويواصل حديثه قائلاً : ” إذا كانت أروبا تريد أن تكون قادرة على المنافسة ، فإنه لا يجوز الاستمرار في إثقال كاهل القطاعات المنتجة في المجتمع بأعباء سوء الجدارة هذه . ”
ولربما بدت هذه الكلمات منطقية للوهلة الأولى . فتكاليف الهاتف والنقل والطاقة الكهربائية ، أو السفر لأغراض تخص المعاملات الاقتصادية تشكل حينما تكون مرتفعة ، عبئاً يقلل من فرص الاقتصاد الأوروبي على مواجهة المنافسة العالمية . أضفت إلى هذا أن المستهلكين من الأهالي يدفعون أيضاً أسعاراً مرتفعة لما تقدمه لهم الاحتكارات من خدمات وأنهم كثيراً ما يتذمرون من سوء انجاز هذه الخدمات . فالأمر الذي لا شك فيه هو أن غالبية المشروعات المعنية تعمل – مقارنة بما هو متاح لها من وسائل تكنولوجية – بجدارة متدنيّة . ومع هذا كله ، تقدم هذه المشروعات ، في أوقات الشدة والأزمات على وجه الخصوص ، فرص عمل آمنة للجمهور واسع من العاملين . ومن هنا فعندما تكون ملايين كثيرة من المواطنين مهمشة أو ترتعد خوفاً على فرص عملها وعلى مستقبل أطفالها ، يصبح التحرير الاقتصادي طيشاً سياسيًّا . وعلى الرغم من هذا تتمسك غالبية الحكومات بهذا التوجه ، وذلك لأن خبراءها يؤكدون لها في كل يوم إيماناً منهم بالنظرية الليبرالية المحدثة ، بأن تخفيض التكاليف سيمكن مشروعات التقنية العالية والخدمات من خلق فرص عمل جديدة وأكثر جدارة .
غير أن المعجزة لم تتحقق أبداً . ولن يختلف الأمر ههنا بالنسبة لصناعة الاتصالات أيضاً التي تكثره الاشادة بها في هذا السياق ، والتي يُزعم أن خصخصة شركة الاتصالات الألمانية ستعيد طريق نجاحها . فما يتنبأ به المرء من ازدهار سيتم ، بفعل التكاليف ، الشركات المختصة بتقديم خدمات الربط الالكتروني ، سيكون برنامجاً لضياع فرص عملا لا غير . إذ كلما توسع الزبائن أكثر في استخدام شبكات الربط الالكتروني لانجاز معاملاتهم المصرفية وحجوزاتهم للسفر ومشترياتهم المختلفة ، كانت فرص العمل لدى المصارف وشركات التأمين
– 15 –
ومكاتب السفر وتجارة المفرق أقل . من ناحية أخرى ليس ثمة يبشر بأن الخسارة في فرص العمل ، سيتم تعويضها من خلال الازدهار الذي سيعم مقدمي الخدمات المتعلقة بنظم المعولمات الالكترونية ، أعني منتجي برامج وأجهزة الكمبيوتر التي تربط – عبر الاسلاك – عالم المستقبل .
وهكذا تمضي استراتيجية التحرير الاقتصادي بعملية رفع الجدارة إلى حد يدمر الذات . ومع هذا تطالب الغالبية العظمى من الخبراء لدى المؤسسات الرائدة في الاقتصاد العالمي ، سواء كانوا يعملون في منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي أو لدى البنك الدولي أو لدى صندوق النقد الدولي ، بضرورة المضي قدماً في عملية التكامل على المستوى العالمي . حقاً لقد أثبتت المشكلات المتعاظمة في الدول المتقدمة بطلان مزاعمهم المتفائلة ، إلاّ أن هؤلاء الخبراء يصّرون بالاجماع ، على أن إزالة الحدود أمام السوق يُعبر الطريق أمام العالم الثالث على أدنى تقدير للخروج من مأزق الفقر والتخلف ، وأنه ” سيكون بوسع ستة مليارات مواطن في العالم المشاركة في تلك الانتصارات التي لم ينعم بها حتى الثمانينيات ، سوى ستمائة مليون مواطن في البلدان الصناعية القديمة لا غير ” .
إن الهدف نبيل بلا شك . ولكن هل سيتحقق هذا الهدف فعلاً ؟ هل سيذهب ما يخسره الشمال من رفاهية إلى فقراء الجنوب حقاً ؟
انتهى الفصل الرابع من فضح العولمة –
: الفصل الخامس : –
أكاذيب ترضي الضمير
أسطورة الميزة على استقطاب الاستثمارات
وخرافة العولمة العادلة
كانت الحكومة المكسيكية وخبراؤها الأمريكيون قد أرادوا للبلد الازدهار والاستقرار فعلى مدى عشر سنوات نفذ ثلاثة رؤساء للجمهورية مقترحات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والحكومة الأمريكية تنفيذاً تاماً فقد خصخصوا الجزء الأعظم من المؤسسات الصناعية ، وألغوا كل العوائق . من طريق المستثمرين الأجانب ، وألغوا الضرائب الجمركية على الواردات وفتحوا أبواب البلد على مصاريعها للنظام المالي الدولي . وذهبت المكسيك أي بعد من هذا ، إذ عقدت في عام 1993 مع الولايات المتحدة الأمريكية وكندا اتفاقية ترمي إلى تأسيس منطقة التجارة الحرة المسماة : النافتا NAFTA ، والتي يتعين بموجبها أن تتكامل المكسيك في غضون عشر سنوات مع سوق أمريكا الشمالية كلية . وكان الليبراليون المحدثون في كل أنحاء العالم قد عثروا في المكسيك على تلميذهم المثالي . وبقبول المكسيك عضوا في منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي ، كافأ البلدان الغنية في عام 1994م التوجه المكسيكي المثالي كما يُزعم .
وللوهلة الأولى ، بدا البرنامج يبشر بالخير فعلاً . فالعديد من المؤسسات متعدية الجنسية شيدت هناك مصانع أو وسعّت ما كانت قد شيدته . كما ارتفعت الصادرات بمقدار 6% في السنة ، وتراجعت نسبة المديونية الخارجية التي كانت قد أدت في عام 1982 إلى انهيار اقتصاد البلد . ولأول مرة شهدت المكسيك تنامي الطبقة الوسطى ، حقاً كان حجمها لا يزال ضئيلاً ، إلا أنها توافرت لها قوة شرائية جيدة مكنتها من تأسيس المشروعات الجديدة والمشاركة في رفع الضرائب إلى الحكومة . غير أن المعجزة اقتصرت في واقع الحال ، على جزء ضئيل من الاقتصاد والسكان – فالمصانع الجديدة التي نشرت الازدهار في إنتاج الكيماويات والكهربائيات والسيارات ، كان مصيرها شديد التعلق بالاستيراد ، وبالتالي فإن ما خلقته من فرص عمل كان ضئيلاً نسبياُّ . من ناحية أخرى تركزت قلعية المشاريع الحكومية السابقة في أيدي أقلية من المساهمين الكبار . فخمسة وعشرون من الاتحادات الصناعية فقط ، كانت تسيطر على شركات تنتج نصف إجمالي الناتج القومي .
في الوقت ذاته عصف الانفتاح السريع على الولايات المتحدة الأمريكية بقطاعات اقتصادية وطنية مهمة ، إذ إنها لم تستطع الوقوف في وجه المنافسة الأمريكية . فأغرقت وارادات البلد ، وركن الصناعات المتوسطة الحجم المنتجة للبضائع كثيفة – العمل البشري ففي صناعة المكائن بمفردها توقف الإنتاج في نصف المصانع – وعلى نحو مشابه كان الحال في صناعة النسيج ، وهي صناعة كانت تتمتع بالاستقرار حتى ذلك الحين . وانخفض معدل النمو الحقيقي إلى ما دون معدل نمو السكان . وتمت الرسملة المتصاعدة للقطاع الزراعي فنتائج وخيمة التي كان ينبغي لها أن تكون عاملاً مساعداً على زيادة التصدير والصمود أمام المنافسة الأمريكية العملاقة . فقد حلت الماكينات محل العمل البشري الأمر الذي أدى إلى فقدان ملايين كثيرة من الفلاحين المكسيكيين فرص عملهم ، ونزوحهم إلى المدن المكتظة أصلاً بالسكان . وابتداء من عام 1988م تزايد الاستيراد بمعدلات نمو بلغت أضعاف معدلات نمو الصادرات . فارتفع العجز في الميزان التجاري ارتفاعاً عظيماً ، حيث صار مجموعه في عام 1994م يضاهي مجموع العجز في مجمل بلدان أمريكا اللاتينية معاً ، إلا أنه كان بوسع القائمين على مقدرات الاقتصاد المكسيكي التراجع عما سلكوا من طريق . ومن أجل تهدئة خواطر الناخبين ، ولكي تبقى أسعار المواد المستوردة عند مستوى منخفض ، رفعت الحكومة أسعار الفائدة على القروض الممنوحة بالعملة الوطنية .
فير أن حصيلة هذه الخطوة لم تتسبب في خنق الاقتصاد الداخلي فحسب ، بل أدت أيضاً إلى دخول خمسين مليار دولار إلى البلد ، كانت صناديق الاستثمار الأمريكية قد استثمرتها في المكسيك لأجل قصير . في ديسمبر 1994م حدث ما لابد من حدوثه : فقد انهار الازدهار المبني على المديونية ، وصار تخفيض قيمة البيسو أمراً لا مناص منه وخوفاً من الغضب الذي سيعم المستثمرين الأمركيين بسبب ما سيتكبدونه من خسائر ، ودرءاً لانهيار مالي على المستوى العالمي : اتخذ وزير المالية في واشنكن روبين ورئيس صندوق النقد الدولي كامديو ، الخطوات اللازمة لمنح أبر قرض دعم في التاريخ . ومع أن هذا القرض انقذ المستثمرين الأجانب ، إلا أنه دفع المكسيك إلى حافة الكارثة الاقتصادية فلكسب ثقة الأسواق الدولية ثانية سقى رئيس الجمهورية إرنستو زديكو البلاد مرّ الدواء من جديد . فارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية الذي وصل إلى 20% في السنة ، والانخفاض الكبير الذي حدث في الانفاق الحكومي ، تسببا في اندلاع أقوى ركود منذ ستين عاماً . وفي فترة زمنية لا تزيد على شهور وجيزة أيُمكن الافلاس لخمسة عشر ألف مشروع . وفقد ما يقرب من ثلاثة ملايين مواطن فرص عملهم . كما انخفضت القوة الشرائية لدى المواطنين بما لا يقل عن الثلث .
هكذا وبعد عشر سنوات من الإصلاحات ذات الطابع الليبرالي المحدث أضحت أمة المائة مليون مواطن في وضع أسوأ مما كانت عليه من قبل . فابتدأ من حرب العصابات التي يقودها الفلاحون في الجنوب وانتهاء بالمليون مواطن من أصحاب المشروعات المتوسطة ، الذين لم يعد بمستطاعهم تسديد أسعار الفائدة المرتفعة على ما بذمتهم من قروض ، أخرى حركات المعارضة تعصف باستقرار الدولة ، إن المكسيك يقف في البداية حقاً ، لكنه لا يقف على عتبة الدخول إلى عالم الفتى ، بل يقف ” على عتبة الفوضى والحرب الأهلية ” .
وبهذا المعنى لم تكن حصيلة مغامرة تأسس منطقة التجارة الحرة النافتا nafta في مصلحة الج الشمالي العملاق أيضاً . فحينما راحت المصانع الأمريكية تهاجر باتجاه الجنوب ، كان لا يزال بوسع إدارة كلنتون القول بأن التصدير المتزايد إلى المكسيك ، سيخلق للصناعة التصديرية الأمريكية مائتين وخمسين ألف فرصة عمل إضافية في الولايات المتحدة الأمريكية . إلا أن انهيار الاقتصاد المكسيكي ، أدى إلى تراجع الطلب المكسيكي على البضائع الأمريكية أيضاً . وبالتالي فقد تحول فائض التجارة الأمريكية مع المكسيك إلى عجز عام 1994 . ومع هذا فإن كان الأمل في زيادة فرص العمل في الولايات المتحدة الأمريكية قد قل ، إلا أن الارباح قد ارتفعت حقاً بالنسبة لكل الشركات التي استطاعت أن تخفض تكاليف إنتاجها ، من خلال الأيدي العاملة زهيدة الأجر في المكسيك . أضف إلى هذا إلى هذا أن تخفيض قيمة البيسو قد حقق للكثير من الاتحادات الصناعية الأمريكية ، وكذلك للعديد من الشركات الألمانية الآسيوية المنتجة للسيارات والأجهزة الكهربائية ، ميزة إضافية في السوق العالمية . حقاً إن هذه الشركات تقدم فرص عمل للكثير من العوائل المكسيكية وتمكنها من كسب ما يسد رمقها ، بيد أن هذا لا يعوض ، ولا حتى بالكاد الخسائر الناجمة عن انهيار الاقتصاد الداخلي . وهذه الحقيقة هي التي تفسر سبب الارتفاع الجديد في عدد المهاجرين المكسيكيين : الذي يعبرون نهر lio grand بشكل غير رسمي وبأساليب تتسم في الغالب بالمغامرة ، بهدف الحصول على فرصة عمل في الولايات المتحدة الأمريكية ، وإن كانت اتفاقية التافتا مع المكسيك قد سعت للحد من هذه الهجرة على وجه الخصوص .
وعلى هذا النحو تثبت التجربة المكسيكية أن الزعم أن السيادة المطلقة لقوى السوق هي التي ستحقق الرفاهية الاقتصادية ، ليس سوى ادعاء ساذج . فحيثما حاول بلد أقل نمواً الوقوف ، من دون سياسة تهدف إلى تشجيع الصناعة وبلا رحمة جمركية
في وجه المنافسة القوية القادمة من البلدان الصناعية الغربية ، فإن مصيره كان الفشل دائماً ، فالتجارة الحرة تعنى الغلبة للأقوى – ليس في أمريكا الوسطى فحسب .
نمورندلاً من شياه : المعجزة الآسيوية
لا يقتصر السعي لتحقيق المستوى الرفاهي العظيم على ماليزيا فقط ، فكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وهونغ كونغ ، وهي كل ، بلدان وضعت بـ ” النمور ” في وقت مبكر ، كانت قد سبقت ماليزيا بخمسة إلى عشرة أعوام في هذا المضمار . وجاء بعد ذلك دور تايلاند وإندونيسية وجنوب الصين ، فهذه البلدان انطلقت أيضاً في طريق التطور وصارت تحرز الآن نجاحات مشابهة ، الأمر الذي دفع الكثيرين ، لأن يطلقوا عليها لقب ” النمور ” . وأشار الاقتصاديون والصناعيون ، في كل أرجاء المعمورة ، بالمعجزة الاقتصادية الآسيوية معترين إياها قدوة ودليلاً حياً على جدارة نظام السوق لكسر طوق الفقر والتخلف ، وفي الحقيقة ليست هناك صلة وثيقة بين الازدهار الاقتصادي في آسيا ، ورأسمالية ” دعه يعمل . . دعه يمر ” السائدة في غالبية منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي . فمن غير استثناء طبقت البلدان الناهضة في الشرق الأقصى استراتيجية مستهجنة على نحو شديد في الغرب : دعم مالي عظيم على كل المستويات الأنشطة الاقتصادية . فبدلاً من أن تحذو حذو المكسيك وتصبح شاة تنحسر في مجزرة المنافسة الدولية ، طور نمو التنمية الموجهة حكومياً من جاكارتا حتى بكين مجموعة من الأساليب التي تتيح لهم فرصة توجيه عملية التنمية . فبالنسبة لها لا يشكل التكامل مع السوق العالمية الهدف الذي تسعى لتحقيقه ، بل هو وسيلة تخدم الهدف المنشود لا غير ، وبالتالي فلا يستعان به بتحفظ وبعد تمحيص دقيق إن كل هذه الخطوات تخدم هدفاً واحداً مشتركاً . أن تبقى الحكومات صاحبة السيادة على اقتصادها الوطني وتضمن أن الرأسمال الوطني ، والأجنبي أيضاً ، ينقذ الأهداف المقررة من قبل السلطة السياسية : ومن لا يسر على هدي هذه الأهداف ، فإنه يبقى في الخارج .
ولا ريب في أن النجاح قد أثبت صواب منظور المخططين الاقتصاديين الآسويين . وإذا كانت ، تقريباً كل بلدان جنوب شرق آسيا ، الصاعدة اقتصادياً الآن ، قد بدأت انطلاقتها ، مثلها في ذلك مثل المكسيك – مورداً ينتج لصناعة للمؤسسات المتعددة الجنسية ، أي أنها بدأت انطلاقتها كورس ثانو لهذه المؤسسات ، إلاَ أن المسؤولين في الادارات الحكومية لم ينسوا حتى هذا اليوم أبداً حماية اقتصادهم الوطني وتعزيز عوامل نموه وازدهاره ، والعمل على تأمين تمويل استثماراته بعوائد ما تصدره فروع المؤسسات المتعددة الجنسية من بضائع . وخطوة بعد خطوة ، خلقوا مشروعاتهم الوطنية التي تخضع للسيطرة الحكومية والخاصة مناصفة ، والتي أخذت تحتل الآن ، هي نفسها أيضاً مكانتها في السوق العالمية .
– 4 –
يتبين من هذا كله أن العولمة في الاقتصاد العالمي لا تتبع بالضرورة مبدأ واحداً يسرى على كل أرجاء المعمورة . ففي حين تدعو بلدان الرفاهية القديمة ، إلى ضرورة تراجع دور الدولة وإعطاء قوى السوق مجالاً أوسع ، تطبق البلدان الصاعدة حديثاً العكس من ذلك تماماً كما نلاحظ أن قادة المؤسسات أنفسهم الذي يرفضون في الولايات المتحدة الأمريكية أو ألمانيا كل أنواع التدخل الحكومي في قراراتهم الاستثمارية رفضاً قاطعاً ، نعم هؤلاء أنفسهم يُخضعون في آسيا صاغرين استثمارات تبلغ المليارات للشروط التي يضعها البيروقراطيون الحكوميون ، الذين لا يتهيبون من تسمية عملهم بالتخطيط الاقتصادي المركزي . ولكن على ما يبدو ، تفي الأرباح المنخفضة ، في سياق معدلات نمو تتكون من خانتين ، هل التحفظات الأيديولوجية .
المتاجرة العادلة : هل تنطوي على حماية للفقراء ؟
لا ريب للمعجزة الآسيوية أيضاً جوانب سلبية : إذ اقترن الازدهار الاقتصاد هناك بالرشاوي والاضطهاد السياسي والتدمير العظيم للبيئة والاستغلال غير المحدود في أغلب الأحيان ، للعاملين المحرومين من الحقوق ، وللنساء منهم على وجه الخصوص .
وعلى نحو يدعو للدهشة تتجاهل غالبية الحكومات الغربية الأساليب المرفوضة – حسب المعايير الغربية – التي تسلكها الدول في جنوب شرق آسيا ، في غزوها للسوق العالمية وفي سعيها للحصول على حصة في هذه السوق .
ولا شك في أن تجاهلاً من هذا القبيل يكشف عن موقف خطير النتائج ومشؤوم العواقب فهو يعني أنه يتعين تأجيل حماية البيئة ، وصيانة صحة العاملين ، وتطبيق الديمقراطية والاعتراف بحقوق الإنسان إلى وقت آخر ما دام هذا التأجيل يخدم الاقتصاد العالمي .
وأما ممثلي نقابات العمال فإنهم يدعون ومنذ أمد بعيد إلى ضرورة فرض عقوبات تجارية على البلدان التي تنتهك حقوق الانسان وتُخل بمعايير المحافظة على البيئة .
وحتى حكومة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون كانت قد أيدت ظاهرياً هذه المطالب : ففي سياق المباحثات الختامية حول إنشاء المنظمة العالمية للتجارة ، نادى ممثل الحكومة الأمريكية بضرورة إدراج بند خاص بالظروف الاجتماعية للعمل ، وبحماية البيئة في اتفاقية منظمة التجارة العالمية ( wto ) بناء على هذا البند كان المفروض أن تكون في الامكان تقديم شكوى إلى منظمة التجارة العالمية ضد الدول التي يثبت عليها أن صادراتها تنتج في ظل شروط تحل
– 5 –
بالمعايير الدنيا المقررة من قبل منظمة العمل الدولية ilo التابعة للأمم المتحدة بغية فرض رسوم جمركية على صادراتها معاقبة لها على هذا الاخلال . ولكن سرعان ما جرى الاعتراض على هذا المسعى ليس من قبل الدول المعنية فحسب . بل من قبل دول أخرى أيضاً . الامر الذي زاد الطين بلة . فاعتراض الدول المعنية كان بالامكان كسر طوقه ، وذلك لأن عدم مشاركتها في اتفاقية منظمة التجارة العالمية سيكلفها الكثير ، بالنظر لأن الاتفاقية قد ضمنت لها إزالة الكثير من الرسوم الجمركية – الحمائية والعقبات الأخرى الكثيرة التي كانت لا تزال تعيق صادراتها . فالمشكلة الحقيقية كانت تكمن في أن بلدان الاتحاد الأوروبي وباستثناء فرنسا – كانت قد شاركت في هذا الاعتراض الأمر الذي أحبط المساعي . وتصدرت قائمة الحكومات المعترضة الحكومتان الألمانية والبريطانية على وجه الخصوص اللتان ” تؤمنان بحرية التجارة إيمان الأطفال بالخرافات والأساطير ويزعم المعترضون أن مطالبة التجارة العالمية بضرورة مراعاة المعايير الاجتماعية ” يمكن أن يكون منفذاً خلفيا لتسلل سياسة حمائية محدثة ” ، وذلك لأنه سيكون بمستطاع البلدان الأكثر . ثراء الاحتجاج بالأمور ذات الطابع الاجتماعي ، للتخلص من منافسة بلدان النصف الجنوبي من العالم المنتجة بتكاليف أدنى . وعلى نحو مشابه احتج جميع ممثلي الدول النامية في سياق مفاوضات جنيف أيضاً ، إذ أكدوا على أن إدراج الشروط الاجتماعية في اتفاقية منظمة التجارة العالمية ، لإيراد منه سوى إبعاد فقراء الجنوب عن المشاركة في الرفاهية الاقتصادية .
وفي أفضل الحالات ليس لهذه الحجة سوى قيمة إعلامية لا غير . أما إذا تفوه بها سياسي أوروبي فإنها في الواقع نفاق مكشوف . فحينما يتعلق الأمر بمصالح الصناعات الكبيرة وأصحابها ذوي النفوذ ، لا تُظهر المفوضية الأوروبية وحكومات دول الاتحاد الأوروبي إلا القليل من الرحمة في سياستها التجارية . ففي كل الحالات التي لم تستطع فيها المشروعات الأوروبية إحراز موطئ قدم لنفسها في بلدان الأجور المنخفضة ، وأن المفوضية الأوروبية باستمرار على الاستجابة لشكاوي الاتحادات الصناعية ومطالبها بشأن فرض ضرائب جمركية موجعة ، منعاً لإغراق السوق ببضائع تباع بسعر أدنى من قيمتها ، وكان المقصود ههنا هو البضائع المستوردة من آسيا على وجه الخصوص . فبالنسبة لما يزيد على المائة سلعة فرض المسؤولون عن التجارة في بروكسل ضرائب جمركية حمائية حتى بعد إنشاء منظمة التجارة العالمية ، بحجة أن المصدرين يبيعون سلعهم بأسعار هي أدنى من القيمة الحقيقية لهذه السلع ، وذلك قصد إغراق الأسواق على نحو غير عادل .
إن ما يزعمه حكام الدول النامية من أن حرية العمل النقابي أو تحريم عمل الأطفال
– 6 –
سيزيدان الفقراء فقراً ، زعم كاذب أيضاً بلا مراء ، فالعكس هو الصحيح ، [ فمعاقبة الموقف السلبي حيال مراعاة الشروط الاجتماعية والبيئية ستهدد الأرباح الآتية من التجارة الخارجية ] مما سيدفع النخب المتسلطة بأساليب غير ديمقراطية في دول الجنوب ، لأن تفسح المجال لفئات أعرض من السكان في ثمار التقدم الاقتصادي في بلدانها – ومن ناحية أخرى فإنه من السهولة بمكان تفادي سوء استخدام إعاقة الاستيراد للأغراض الحمائية ، التي يجيزها البنود المتعلقة بالشروط الاجتماعية الواردة في اتفاقية منظمة التجارة الدولية ، إذا ما أنيطت بمؤسسات الأمم المتحدة المتخصصة مسؤولية الكشف عن انتهاكات حقوق الإنسان .
السياسة الحمائية : أهي السياسة التي ستحمي سوق العمل في الدول المتقدمة :
ومع أن فرض عقوبات تجارية على الحكومات المتسلطة أمر مبرر وعادل ، إلا أنه لن يحد كثيراً من وطأة الضغوط التي تفرزها المنافسة القادمة من الجنوب – إن أمل الكثير من النقابين [ في الدول المتقدمة ] في أن تحد هذه الخطوة من تدهور مستويات الأجور وتفاقم البطالة ، أمل خداع بلا مراء . فالميزة في انخفاض التكاليف الإنتاج لدى بلدان الأجور الزهيدة لا تكمن فقط في القمع السياسي إلى تقوم به . الأجهزة الحكومية أو الأساليب الاستغلالية التي تنتهجها المشروعات المتعطشة للأرباح . إن الازدهار الذي تتمتع به صادرات قلة قليلة نسبياً من البلدان النامية يكمن في المقام الأول في انخفاض المستوى المعيشي العالم للسكان ، إلاّ أن العامل الأهم للميزة التنافسية يكمن في الواقع – في التخصيص المتعمد لقيمة العملة الوطنية الذي تقوم به البلدان حديثاً ، فبهذه الطريقة تجعل هذه البلدان من صادراتها سلعاً لا يمكن من حيث انخفاض أسعارها . إلى جانب هذا ، فإن من المشكوك منه أن يؤدي إغلاق الأسواق بوجه المنافسة القادمة من بلدان الاجور الزهيدة ، إلى وقف الضياع المتنامي لفرص العمل في البلدان المتقدمة نعم ، لا خلاف على أن الاستيراد المتنامي من الشرق الأقصى قد تسبب في خسائر في القطاعات الصناعية الكثيفة العمل البشري ولهذا السبب انخفض ، على وجه
– 7 –
الخصوص الطلب على الأيدي العاملة غير المتعلمة ، وما سواها من الأعمال التي لا تتطلب مهارة كبيرة . ومع هذا ، فمن وجهة النظر الاقتصادية الكلية ، كان ازدهار هذه المتاجرة فرصة مثمرة للغالبية العظمى من البلدان الشمالية الفنية فمع زيادة استيرادها زادت أيضاً مشتريات الدول الصاعدة حديثاً من البلدان التي صدرت إليها بضائعها ، فقد تعين عليها أن تستورد كل ما تزال عاجزة عن إنتاجه ، إبتداء من معدات المصانع وانتهاء بالأقمار الصناعية المستخدمة في الاتصالات في هذا السياق لم يكن هناك بلد آخر من بلدان منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي قد نجح نجاح ألمانيا إذ أنها أكبر مصدر في العالم بالقياس إلى الانتاج القومي الاجمالي . فسواء في المتاجرة مع جنوب شرق آسيا أو مع بلدان اقتصاديات السوق الجديدة في أوروبا الوسطى ، لم تحرز ألمانيا الاتحادية توازناً في الميزان التجاري ، بل حققت فائضاً معتبراً ، إلاّ أن غالبية الأرباح المتحققة في – التصدير ذهبت إلى حسابات القطاعات التي يتصف إنتاجها بكثافة رأس مال عالية ، وباستخدام واسع لأحدث المبتكرات والأساليب التكنولوجية المتقدمة ، أعني قطاعات إنتاج المكائن والمعدات والصناعة الكيماوية وصناعة الأجهزة الإلكترونية والدقيقة .
إن هذا التحول هو أول وأهم سبب في الأزمة السائدة في سوق العمل . إن غالبية المشروعات الألمانية وكذلك الفرنسية أيضاً أو اليابانية ، قد كسب الكثير من العولمة . المشكلة تكمن في أن الحصة التي تستقطعها هذه المشروعات من إيراداتها ، لتنفقها على تشغيل الأيدي العاملة في وطنها الأم ، هي في انخفاض مستمر ، الأمر الذي يعني أن حصة الأجور ، أي نسبة الأجور والرواتب إلى الدخل القومي هي التي تتدهور وليس المستوى المعيشي العام . ففي ألمانيا ، البلد الذي كان حتى فترة وجيزة شديد الاهتمام بتحقيق التوازن بين الفئات الاجتماعية ، انخفضت حصة الأجور بمقدار عشرة بالمائة مقارنة بعام 1982 . في الوقت ذاته ازداد التعاون في توزيع الأجور بين المهن المختلفة . فعلى سبيل المثال ما زال المستقبل مشرقاً ، من حيث الرواتب والأجور ، بالنسبة للخبراء الذي يصعب الاستغناء عنهم أو بالنسبة للعاملين في مهن خدمية تتطلب مهارة تقنية عالية وغير مهددة بالمنافسة الأجنبية إلا بالكاد . أما بالنسبة للجزء الأعظم من العاملين ، وغير المتعلمين منهم على وجه الخصوص ، فقد بدأ العد التنازلي بلا مراء.
– 8 –
بيد أن نسبة ضئيلة فقط من هذا التطور يكمن مردهما في بلدان آسيا وأروبا الوسطى حديثة التصنيع . إن التدهور العظيم في أسواق العمل يعود في المقام الأول إلى التشابك السريع بين بلدان منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي . ففي التسعينيات أيضاً لا تزال هذه البلدان تستقطب ما يزيد على ثلثي الاستثمارات العابرة للحدود . حقاً ما فتئت المشروعات في بلدان الشمال تستثمر على نحو متزايد في البلدان النامية ، إلاّ أن ما يزيد على نصف هذه الاستثمارات يخصص لاستخراج المواد الأولية وتأسيس مشروعات خدمية من قبيل الفنادق والمصارف ، أي أنها لا تتسبب إلا على نحو ضئيل في انتقال فرص العمل من الدول الصناعية إلى الدول النامية . ومع هذا فقد انتقلت رؤوس الأموال بين البلدان الفنية بهدف شراء المشروعات والاستثمار على نحو أعظم . ففي حين زادت الاستثمارات المباشرة في البلدان النامية في الفترة الواقعة بين عام 1992 وعام 1995 ، من حوالي 55 مليار إلى 97 مليار دولار في العام ، ارتفع في نفس الفترة الزمنية ، مجموع المبالغ التي أنفقتها المؤسسات الصناعية على استثماراتها المباشرة في بلدان منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي ، من حوالي ( 11 مليار إلى 216 مليار دولار في العام . كما أن النسبة العظمى من التجارة العالمية المزدهرة ما زالت تتم بين الدول الفنية .
لقد قدمت المدرسة الليبرالية المحدثة في العلوم الاقتصادية بحوثا ودراسات بلغت من الكثرة بحيث صارت تكون مكتبات كاملة . وتحاول هذه البحوث والدراسات إثبات أن سبب الأزمة السائدة في سوق العمل يكمن فقط فيما تحقق من تقدم في التكنولوجيا وفي أساليب إدارة المشروعان ، وليس بسبب التشابكات والمنافسة العابرة للحدود . إلاّ أن هذه التفرقة أكاديمية الطابع بكل تأكيد . ففي العالم الحقيقي تكون كلتا الظاهرتين مترابطتين ترابطاً وثيقاً جداً ، وذلك لأن التشابك العالمي هو الذي يمنح التقدم التكنولوجي تلك القوة الفعالة التي تهمش اليوم ملايين العاملين . ولا ريب في أن أي محاولة تبذل لوقف هذا التطور من خلال تقييد التجارة وفرض رسوم جمركية حمائية ، ستبقى سلاحاً غير فعّال ، ما دامت هذه السياسة ، الحمائية مقتصرة على مواجهة البلدان الزهيدة الأجور . إن الدولة التي تسعى إلى الحفاظ على صناعاتها الكثيفة العمل البشري ، ستنجح في سعيها هذا فقط في حالة إغلاق حدودها – في وجه المنافسة القادمة من البلدان المتطورة الأخرى . وليس ثمة شك في أن ثمن هذا سيكون خسران هذه الدولة لكل أسواقها الخارجية ، وذلك لأن المنافسين
– 9 –
بالمثل ويتخذون نفس الخطوات – إنها استراتيجية فوضوية بكل تأكيد . أضيف إلى هذا أن الثمن الذي ستدفعه هذه الدولة لقاء حمايتها لأساليب التكنولوجيا المختلفة ، سيتمثل في خسارة عظيمة في مستواها الرفاهي ، وإن كانت قد حققت استخداماً أكبر لقوى العمل وفي كل الحالات التي يرفع فيها الاقتصاديون ورحالات الاقتصاد صوتهم محذرين ، وداعين مواطني دول الرفاه الاقتصادية ، لأن يقبلوا بشيء من ضيق العيش في المستقبل ، وذلك لأن العاملين بأجور زهيدة يفرقون الأسواق في كل مكان ، فإنهم يتجاهلون الحقيقة ويتكتمون على أن النتاج القومي الاجمالي لا يزال متنامياً إلى الآن . وكذلك الحال بالنسبة لمتوسط معدل ربحية رأس المال المستثمر فهي أيضاً لا تزال متنامية ، بل وتنمو على نحو أسرع من معدل نمو الناتج القومي الإجمالي ، الأمر الذي يثبت أن البلدان الفقيرة لا تنتزع من الأغنياء فرص الرفاهية الاقتصادية قط .
إن العكس هو الصحيح : إن أصحاب الامتيازات في الشمال والجنوب ، أعني أصحاب الثروة والمستثمرين وذوي المهارات العالية ، هم الفئة التي تحقق لها عولمة الاقتصاديات حصة متزايدة من مجموع الرفاهية المتزايدة في العالم على حساب باقي السكان .
بناء على هذا كله فإن فحوى التوترات المرافقة للتشابك الاقتصادي العالمي ، لا تزيد ولا تنتقص ، عن كونها صراعاً على توزيع الدخل القومي ، أي أنها ليست بالظاهرة الجديدة ، بل هي الصراع القديم قدم النظام الرأسمالي نفسه . والأمر العجيب هو أنه لا يزال بوسع المغرمين بنظام السوق التغاضي عن هذه الحقيقة البسيطة الساطعة وخداع أنفسهم والرأي العام معهم .
كسر طوق التردي :
إن ما تنطوي عليه الرغبة في زيادة القوة التنافسية الألمانية من تناقضات ، برهان على الخطأ الجذري الذي ترتكبه تلك السياسة التي تجعل من المنافسة المعولمة هدفاً يجد ذاته : فهي تتجاهل بهذا النظرة المستقبلية . فالتسابق غير المحدود على زيادة الحصة في الأسواق العالمية للسلع والعمل ، يفقد العمل البشري قيمته على نحو متساو ويبدو من منظور الغالبية العظمى كما لو كان سباقاً بين أرنب وقنفذ . فدائما ثمة تنافس زهيد الثمن ، وإذا لم يكن له وجود اليوم ، فهو سيكون موجوداً في القريب بكل تأكيد وبالتالي ، فإن من ” يكيف ” نفسه ، إنما يجبر أطرافاً أخرى على التكيف من جديد فاتحاً بذلك الأبواب على مصاريعها لأن يكون هو نفسه ، في القريب مجبراً على تكيف آخر . ومعنى هذا هو أن غالبية العمال لا يمكن أن يخرجوا من هذه اللعبة
– 10 –
ألا وهم خاسرون ، مهما بذلوا من جهود . إن قلة ضئيلة فقط من أصحاب الثروات وإلى حين من الزمن ومن العاملين ذوي المهارات العالية ، ستحقق ما تتوخاه من مكاسب ، ولن يزيد عدد هذه القلة على خُمس السكان في البلدان الصناعية القديمة وحتى أولئك المدافعون عن الليبرالية الاقتصادية بحكم المهنة ، كالاقتصاديين العاملين لدى منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي في باريس ، لم يعودوا قادرين على نكران هذا التطور باتجاه مجتمع الخمس الثري وأربعة الأخماس الفقيرة . فإحصائيات الدخل تشهد على نحو بّين على تزايد الهوة بين الفقر والثراء .
إلاّ أن استمرار هذه الحركة اللولبية نحو الأسفل دونما نهاية ليس قدراً لا مناص منه فكسر طوقها أمر ممكن بناء على الاستراتيجيات الكثيرة المقدمة للوقوف في وجه هذه الحركة . المهم هو أن يتمحور التحرك المضاد حول إعلاء شأن العمل البشري ، فحتى الاقتصاديون الليبراليون لا ينكرون الآفاق العظيمة التي سيحققها في هذا الخصوص الإصلاح الضريبي الرامي إلى المحافظة على البيئة فرفع كلفة استهلاك الطاقة تدريجياً وعلى نحو طويل الأمد وذلك من خلال النظام الضريبي ، لن يؤدي إلى الحد من التلوث البيئي الخطير فحسب ، بل سيؤدي في الوقت ذاته إلى زيادة الطلب على العمل البشري أيضاً ، وإلى تباطؤ السرعة التي يخطوها استخدام تكنولوجيا الانتاج الآلي . أضف إلى هذا أن ارتفاع تكاليف النقل ستؤدي بلا ريب إلى التخفيف من حدة تقسيم العمل بين الأمم ، وذلك لأن المخازن المتنقلة الحاوية على السلع الوسيطة ، الممثلة في طابور الشاحنات الخانقة لحركة المرور على الطرق الخارجية السريعة ، لن تكون اقتصادية من حيث الكلفة . ولن يكون من الصعب جني الإيرادات الحكومية الضرورية لتمويل هذه المهام ، فمن دون آثار سلبية على الاقتصاد فإنه بالإمكان فرض ضريبة على حركة رأس المال العابر للحدود ، والاستفادة من نبع مالي غرير من دون زيادة في كلفة العمل البشري . وستحكم الدولة إيرادات أكثر فيما لو منعت نقل الثروات إلى الواحات الضريبية الممتدة من ” لشتنشتاين ” إلى جزر القنال الإنجليزي ، هذه الواحات التي تشكل في الاقتصاد العالمي منفذاً تتخلص عبره الثروات من العبء الضريبي على نحو متزايد عاماً بعد عام ولا ريب في أن اصلاحاً ضريبياً من هذا القبيل سيكسر طوق إعادة التوزيع من
– 11 –
إن الاعتراض على مثل هذه الاقتراحات واضح بجلاء : فبسبب التورط في الاقتصاد المعولم على وجه الخصوص ، لم تعد الدول القومية ، ودول الشمال الغنية على أدنى تقدير ، قادرة على النهوض بمثل هذه الاصلاحات الجذرية فمع أن جميع الاحزاب الممثلة في البرلمان الاتحادي تؤيد ، من حيث المبدأ ، ضريبة حماية البيئة – إلا أن إشارة واحدة من قبل ممثلي الصناعات إلى أن رفع أسعار الطاقة سيدفع آلاف المشروعات إلى الانتقال إلى العالم الخارجي ، تكفي لإحباط البرنامج الإصلاحي . وعلى هذا النحو تفقد الديموقراطية حيويتها وتصبح مسرحية لا طائل منها .
من هنا فإن استعادة الإرادة السياسية ، أعني استعادة أولوية السياسة على الاقتصاد ، هي المهمة المستقبلية الأساسية . فقد صار جليا الآن استحالة الاستمرار في السير على هدي التوجه السائد الآن . فالتكيف الأعمى مع الضرورات التي تفرزها السوق العالمية يقود المجتمعات – التي تتمتع بالثراء الآن – إلى فوضى لا مناص منها ، إنه يقود إلى هدم البنى الاجتماعية ، هذه البنى التي تشكل سلامتها ضرورة حتمية لهذه الدول . ولا طائل من انتظار ما ستقدمه الأسواق والشركات العابرة للقارات من حلول ، لمواجهة القوة التدميرية الآتية من أولئك الذين سيدفعهم التهميش والخسران إلى التطرف ، فلا الأسواق ولا الشركات العابرة للقارات لديها الحلول لمواجهة هذه المخاطر .
: انتهى الفصل الخامس بحمد الله : –
الفصل السادس :
ولكن : من هو ذا الذي سيفلح ؟
ضمور الطبقة الوسطى وبزوغ المضللين المتطرفين
أيمثل نموذج الشخص المتطرف أو المسالم الخائف ، وكلاهما في وضع اقتصادي جيد حتى الآن ، النماذج التي ستهيمن على التطور المستقبلي في ألمانيا ، بل ، لربما ، في أوروبا قاطعة ؟ أتصور هذه النماذج الحالة السياسية التي ستسود في مطلع العام 2000 ؟ الاقتتال أو الهجرة ، أسيكون هذا هو الخيار الوحيد ؟ ومع أن التاريخ لا يعيد نفسه بالضرورة ، إلا أن الكثير من الدلائل تسير إلى أن الصراعات التي عمّت القارة الأوروبية في العشرينات من هذا القرن ستعود من جديد .
لقد أخذ الإطار الذي يصهر المجتمع في بوتقة واحدة ينهار – ومن هنا فإن الهزة السياسية الملوحة لمخاطرها في الأفق صارت تتحدى كل الديمقراطية الحديثة . وبجلاء لا مثيل له هذا التحدي في الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص ، وإن لم يُدرس بعدُ دراسة مستفيضة .
شارلي براون في وحدته
” لماذا تصر أوروبا على الانتحار ؟ ألا ترون انه قد حان الاوان وصار يتعين عليكم التكيف مع المسار الاقتصادي والتغيرات الشمولية ؟ ” إن جلين داوننج استشاري المشروعات في واشنطن ، هو الذي فاضت شفتاه بهذه العبارات أما الضيف القادم من القارة المصّرة على الانتحار كما زعم . ” وأخيراً يحدث شيء ما من جديد ” قال ذلك وكله غبطة وسعادة . ولم يكن ما غباه بهذه العبارة سوى ” الثورة الأمريكية ” AMERICAN REVOLUTIONER ” الجديدة التي بشر بها زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب ، باعتبارها الأمل الكبير الذي يمنِّي به اليمنييون الأمريكيون أنفسهم منذ رونالد ريجان .
فهم يطالبون بالكف عن الزعم بأن الأجور تتدهور ، فالديمقراطيون هم المسؤولون عن هذا كله ، وذلك لأن هؤلاء هم الذين يزورون الإحصائيات ولا يحسبون معدل التضخم حساباً صحيحاً ” وبالتالي ” سيجعل من نفسه أضحوكة ” كل من يتحدث ” عن تدهور أو انهيار الطبقة الوسطى الأمريكية ” أو يزعم أنه قد صار يتعين على البيض أيضاً من أبناء الطبقة الوسطى أن
– 1 –
يعمل الزوج والزوجة معاً عملاً مضنياً لكي يحققوا ، ولو بالكاد ، المستوى المعيشي الذي كان سائداً في السبعينيات ، والذي كان الأمريكيون يُحسدون عليه في كل أرجاء المعمورة . ففي تلك الحقبة كان الرجال يجدون فرص عمل مضمونة ، وبأجر جيد أما زوجاتهم فإنهن كن يقبعن في فيما تمتلك العائلة من دار سكن في إحدى الضواحي وقد خيم عليهن الملل من طول ساعات الفراغ ، إن لم يكن لديهن أطفال . أما بالنسبة لأولئك النسوة اللاتي كن يعملن ، فإن الغالبية منهن كن يحبذن العمل ، لا حباً بالأعمال بل رغبة في التخلص من الملل .
وخير شاهد على فقدان المستثمر للنظرة الواقعية ، نجده في الحالة التي سادت في صيف 1996 ، أي بعد مرور أقل من عام على احتفال ابنته بزواجها . فالعالم الذي كانت تعيشه الطبقة الوسطى البيضاء لم يعد له وجود يذكر . تقول ابنته إليون ” ليس في مقدورنا أن نعيش المستوى الذي يعيشه آباؤنا ، إن هذا الأمر لا سبيل إليه ، فالدار التي اشتراها ابي بعد فترة وجيزة من ولادتي ، تكلف الآن ما يقرب من أربعمائة ألف دولار ، أي أنه سيبقي بالنسبة لنا أمراً صعب المنال ”
ورغم أنها تعمل هي وزوجها في وظائف ناجحة إلاّ أنهما يدفعان نصف راتبيهما على الإيجار ومصاريف الكهرباء والهاتف لثقتيهما الجميلة حقاً ولكن الصغيرة جداً رغم أن الراتب الإجمالي الذي يحصل عليه زوجها يبلغ 45 ألف دولار في العام . ” إلا أنه لا يكفي إلاّ بالكاد ” حسب ما تقوله إليون . وعلى الرغم من كل هذا فإنها تقول بشيء من الغبطة : ” انظر إلى أولئك الذي ينهون دراستهم الجامعية وهم في سن الثانية والعشرين أو الثالثة والعشرين . إن هؤلاء لن يحصلوا على فرص عمل مناسبة ، بل صار يتعين عليهم أن يعملوا نادلين في أحد المطاعم أو موزعين للرسائل يمتطون دراجاتهم الهوائية متنقلين من شركة إلى أخرى ، الإيصال الرسائل التي لا ترسل بالبريد العام ، وذلك لأنه يراد لها أن تصل في نفس اليوم وفي أسرع وقت . ويعلق زوج إليون فيقول ” إن الطبقى الوسطى تتضاءل تختفي . ”
واحتياطاً لما يضمره المستقبل عن نوائب ، يستثمر من تبقى في التسعينيات في الطبقة الوسطى الأمريكية مدخراتهم في الأسهم ، إن هناك عشرين مليون عائلة أمريكية تقامر في الأسهم ، وقد
علقت كل آمالها على صناديق الاستثمار البالغ
– 2 –
عددها أكثر من سنة مليارات دولار موزعة على كل أرجاء المعمورة . وإذا كان الأمريكيون قد فضلوا قبل عشرين عاماً الادخار في دفاتر الادخار وفي السنوات إذ كانت نسبة ما ادخروه في هذه المجالات تساوي 75 بالمائة من مجموع الادخار الخاص في الولايات المتحدة الأمريكية – أي على نحو مشابه لما هو سائد اليوم في أوروبا – إلاّ أن هذه النسبة انقلت في التسعينيات رأساً على عقب : فلقد بلغ حجم المضاربة في البورصة ثلاثة أرباع هذه المدخرات . وعلى هذا النمو يمنح المدخرون المسؤول عن إدارة هذه الصناديق ، القوة التي تمكنهم من المطالبة بتخفيض الأجور وتقليص فرص العمل ، وهو مطلب غالباً ما يخضع له تلك المشروعات أيضاً ، التي كانت تقدم لهؤلاء المدخرين الصغار فرص العمل حتى الآن .
لقد صار – مزاج ملايين من العوائل يرتفع وينخفض الآن ، بارتفاع وانخفاض مؤشر دو جونز للأسهم ، حتى إن كانت هذه التحركات لا تزيد على نقاط مئوية ضئيلة وتناقش هذه العائلات على مدى ساعات طويلة مع خبراء صناديقهم ومع سماسرة البورصات ، بشأن النتائج المترتبة على هذه التحركات ، وإن كان حلهم تقريباً ، على علم بأن قلة ضئيلة فقط ، هي التي ستكسب في نهاية المطاف ، كسباً كبيراً وبأن هذا الكسب لا يمكن أن يكون إلاّ على حساب أولئك الاصدقاء الذين راهنوا على الأسهم والسندات الخاسرة . وهكذا صار شارلي براون يعاني معاناة قاسية في وحدته وعزلته .
وإذا كان المؤهلون أكاديمياً في وضع حرج ، وضع يدفعهم لأن يعتقدوا بأنهم لن يستطيعوا تأمين رفاههم الاقتصادي في المستقبل بالمضاربة في الأسهم ، فمن حق المرء عندئذٍ أن يسأل عما يدور في مخيلة أولئك الأمريكيين الذين لا يتوافر لهم لا شبابهم ولا امتيازاتهم ولا عافيتهم ولا بشرتهم البيضاء – فعلى سبيل المثال فإنه على ملايين من المستخدمين المكتبيين البالغ عددهم حتى الآن ( 2 ، 18 ) مليونا ، أن يتوقعوا خسرانهم لفرصة عملهم وإحلال زميلهم الكمبيوتر محلهم في العمل حسب ما ذكرت جريدة NEW YORK TIMES في مطلع فبراير من عام 1996 . وفي نفس هذا المنازل والمكاتب ، كان ذلك الاضراب الذي نظمه عمال الصيانة في نيويورك ، أعين شغلي المصاعد الكهربائية والمنظفات وخدم المنازل منذ أسابيع عدة قد بلغ ذروتها فاتحادات أرباب العمل كانوا قد طالبوا بتخصيص أجر المستخدمين
-3-
الجديد بمقدار 40 بالمائة . بناء على هذا المطلب فإن البوابين . الذين كان يحصلون على أجر جيد إلى ذلك الحين ، ستعين عليهم أن يقنعوا بأجر لا يزيد على 352 دولاراً في الاسبوع . ولم تكن نقابة ذوي المهن الخدمية مستعدة للخضوع لهذه التوجهات وذلك مخافة أن تؤدي موافقتها إلى دفع أرباب العمل ما لديهم من مستخدمين وإحلال قوى عمل جديدة ورخيصة في مواقعهم . وفعلاً ، أقدمت المشروعات المتحدة الصفوف على كسر شوكة الإضراب تحت جنح الظلام ، إذ شغّلت ليلاً ما يزيد على 15 ألف عامل ، كانوا على استعداد لطعن زملائهم في المهنة من الخلف ، لقاء أجر يبلغ تسعة دولارات في الساعة .
في نيويورك ، وهي المدينة التي كانت على الدوم تعتبر ” مدينة النقابات العمالية ” ، ولا تعرف الرحمة حيال العمال الذين لا يناصرون زملاءهم في الإضراب ، لم تُسمع في هذه المرة أية صرخة احتجاج – ولا حتى حينما طُرد من عملهم الكثير من العمال المضربين ، أو عندما انتهى الإضراب باتفاق يقضي بعودة هؤلاء العمال إلى أماكن عملهم ، ولكن بأجر يقل بمقدار 20 بالمائة عن أجرهم السابق . لقد مر حتى الآن ، الكثير من المواطنين الأمريكيين بتجربة الطرد من العمل بحجة مفادها : أن الجياع المنتشرين في الشوارع هم الأفضل بالنسبة لنا .
ولا ريب في أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تر في نفسها أبداً مجتمعاً متجانساً أو قائماً على روح التضامن والتكافل ، وإن كنا نود أن نكون مخطئين في هذا التقييم . إلاَ أنه ، ومهما كان الحال ، فإن الأمر الذي لا ريب فيه ، هو أن الهجوم على مجمل الطبقة الوسطى قد صار بمنزلة بارود جديد ، يغذي النار التي تصلي فئات كثيرة من هذا المجتمع الرائد في العالم أصلاً ، أعنى الصراعات العرقية المستمرة ومشكلات المخدرات المعروفة وكذلك أرقام الجرائم المعلنة ، وتدهور المدارس الثانوية التي كانت في يوم من الأيام تحظى بالاعتراف والتقدير ، هذه المدارس التي تشغل المدرسين بأجر لا تقبل به في ألمانيا ولا حتى الخادمة في المنازل . وهكذا لا تبدو أي حدود للتدهور ، وهذا في الوقت الذي تستمر فيه ثورة المتبقين في أعلى الهرم للتدهور على أولئك الموجودين في أسفله .
نهاية الوحدة الألمانية :
لقد أفرز التخلي عن البرنامج الذي كانت تسير على هديه الاقتصاديات الغنية ، والرامي إلى إتاحة الفرصة لطبقة وسطى عريضة بقدر الإمكان لأن تشارك في جني ثمار الازدهار
– 4 –
ففي ألمانيا كف ربع السكان ، على أدنى تقدير ، عن التطلع إلى الرفاهية ، إن الفئات الدنيا من الطبقة الوسطى تزداد فقراً بخطى وئيدة . ويترك هذا البلد – الذي هو أكثر البلدان الأوروبية ثراءً – شبيبته ، على وجه الخصوص ، تعاني من الإهمال والإحباط ، إذ هناك مليون طفل صاروا يعيشون على مدفوعات الرعاية الاجتماعية ، ويقول باحث متخصص في دراسة الشبيبة محذراً : ” إن الشباب يطمحون دائماً لأن يحققوا لنفسهم مكانة تتفوق على مكانة عوائلهم في السلم الاجتماعي أو أن يحافظوا على هذه المكانة على أدنى تقدير . إلاّ أن هذا الطموح لم يعد أمراً هيناً ، إذ تضاءلت الفرص العملية للحصول على أماكن العمل وسبل التعليم المناسبة تضاؤلاً عظيماً . إن هذه الآفاق المعتمة أخذت تنتشر شيئاً فشيئاً لتعم جميع الأوساط الاجتماعية . هذا وإن العنف هو إحدى سبل التعامل مع الإحباط ومع الصراع النفسي . ” . ومنذ نهاية عام 1989 ومصطلح عام 1990 يرصد الاحصائيون في ألمانيا ارتفاعاً عظيماً في حوادث الجنايات التي يرتكبها الصبيان والشباب . ويعترض الباحث نفسه على التبريرات السائدة التي تعزو هذه الجنايات إلى ” تدهور في الأخلاق والعادات ” ، إذ يؤكد أن ” مرتكبي هذه الجنايات من الشبان لا يستنكرون المثل العليا ، التي ينادي بها المجتمع المؤمن بالسوق على نحو متطرف ، إنما هم يطبقونها بحذافيرها وبأسلوب أكثر تطرفاً . “
” السعي إلى الارتقاء ، والنهب ، والرغبة في الحصول على متع الحياة بأسرع ما يمكن ” بهذه العبارت المقتضية صورة صحيفة تصدر في برلين ، المشاعر الطاغية على حياة جيل الشباب ، لا سيما أن المنافس يربض في كل مكان تحيناً للفرصة المناسبة ” وكان ممثل الحزب الاشتراكي في البرلمان ورئيس اللجنة البرلمانية للشؤون الداخلية ، قد حمل الآباء ، المسؤولة إذ قال : ” إن العوائل تهمل التربية ” ، إلاّ أن ملايين العوائل ترد على هذه التهمة ولسان حالها يقول : ” كم هو الوقت الذي يتبقى للوالدين المنهكين الاعصاب ، اللذين يتعين على كليهما أن يكدا في العمل حتى يوفرا للعائلة سبل العيش نعم ، كم هو الوقت الذي يتبقى لهما لتربية الابناء ؟ وكم هو عدد الأطفال الذين يترعرعون في كنف عائلاتهم أصلاً .
إن التدهور الذي عصف بالملايين من أبناء الطبقة الوسطى الألمانية الموفورة الرزق وحولها إلى فئة متواضعة العيش ، لن تجدي معه نفعاً ولا حتى تلك البرامج الرامية إلى رفع مستويات التعليم في السنوات القادمة ، فصبيان اليوم لن يستفيدوا بهذه البرامج . إن القوة بين الفقير والغني تزداد وتتعمق ، والغني لا يرغب في أن يجمعه شئ ما ببقية الشعب ، لا سيما حينما يبدو له أن هذه البقية تزداد تطرفاً من يوم إلى آخر . إن الوحدة الألمانية تنهار ، وإن لم يمض وقت طويل على
– 5 –
تحقيقها من الناحية الجغرافية ، فبدلاً من السير على هدي ” الرفاهية للجميع ” ، هذا العنوان الذي وسم به المستشار السابق لدفيج إيرهارد كتابة المنشور عام 1957 ، أخذ يسود الآن الشعار القائل : ” تمرد النخب ” وذلك انسجاماً مع النظرية الواردة في المؤلف المنشور عام 1995 للمؤرخ الأمريكي كريستوفر لاشى . إن اعتزال الاغنياء أصبح قاعدة والبرازيل غدت . القدوة الحسنة .
أصوليون في السلطة انقذونا من هؤلاء بحق السماء :
من يوم إلى آخر يتزايد عدد الناخبين الذي يشيحون بوجوههم عن ممثليهم التقليديين . فهم يحجبون كما لو كان مسيرين من قبل يد خفية – اصواتهم عن أحزاب الوسط ويجدون ضالتهم لدى الديماجوجيين اليمنيين . وتتقوض المؤسسات السياسية القديمة ، باستمرار ، ويبدو هذا التطور من الولايات المتحدة الأمريكية جلياً على أفضل نحو . حقاً إنه لتقليد دارج ألاّ يشارك المواطنون الأمريكيون مشاركة كبيرة في الانتخابات ، فحتى إبان الحملات الانتخابية التاريخية ، كتلك التي دارت بين جون كنيدي وريتشارد ينكسون في عام 1960 على رئاسة الجمهورية ، لم يصّوت سوى 7 ، 60 بالمائة من مجموع الناخبين ، إلاّ أن الحال قد تغيّرت في عام 1992 ، إذ لم يصّوت لمصلحة الرئيس الفائز بيل كلينتون سوى 2 / 24 بالمائة فقط هذا في حين حصل الديما جوجي اليميني – روس بيرو على 7 ، 60 بالمائة في ترشيحه الأول ، وبذا فإنه نال 19 بالمائة من مجموع الاصوات الصحيحة .
وكما تنبأت استطلاعات الرأي قبل أربع سنوات ، سقط بيرو في صيف عام 1996 أيضاً سقوطاً واضحاً ، وإن كان استعان هذه المرة بمساعدين منظمين تنظيماً محكماً وبما أسس من حزب يدعو أعضاءه إلى التصويت عبر الانترنت ، إن تطلب الأمر ذلك . وبسبب خيبة أملهم من سياسة كلينتون العادية للأقليات ومن مواقفة الديما جوجية حيال مسائل المحافظة على البيئة – شارك الخضر أيضاً بمرشح يعبر عن أفكارهم ، أعني – رالف نادر ، المحامي المدافع عن مصالح المستهلكين ، والذي كان قد قال إنه يهدف إلى ” تكوين قوة تنتهج سياسة هجومية في المستقبل ” .
يتنبأ الصحفى والكاتب المعروف ” جريدر ” فيقول : ” تزدهر الفاشية في ظل ظروف اقتصادية ومالية معنية . إن كل سياسي أمريكي تسلطي يوحى بشيء من المصداقية حينما يعد الشعب بأنه سيحقق له سبيل الحصول على لقمة العيش ، سيفوز فوزاً باهراً ، خاصة عندما يقدم وعده هذا وقد زخرفه بنبرات عنصرية الفحوى ” .
– 6 –
وكان هذا التنبؤ على وشك التحقيق على يد ” بات بوكانان ” ، ذي النزعات القومية والداعي إلى اغلاق الحدود في وجه الصادرات الأجنبية ، إذ راح يحقق النصر تلو النصر في الانتخابات الأولية التي كان يجريها الجمهوريون عام 1996 ، لاختيار مرشحهم لرئاسة الجمهورية ، يقول أحد الدارسين : ” فإن الامر لا ينطوى على مبالغة عندما يقول المرء بأن برنامج BUCHANAN قد انطوى على سمات ترجع جذورها إلى الصيغ الفاشية التي سادت أوروبا سابقاً : إلاّ أن الهجوم الديما جوجي الكبير الذي شنه بوكانان على رجالات المال الكبار ، وما رافق هذا الهجوم من مشاعر عداء لليهود وللأجانب عامة ، هي ، على وجه الخصوص ، العوامل التي لم ترق لأولي الأمر الجمهوريين ولحركة الائتلاف المسيحي المنظمة تنظيماً جيداً والتي تشكل بأعضائها البالغ عددهم 7 ، 1 مليون ، قوة رئيسة ومؤثرة في صفوف الجمهوريين الذي أدى إلى وقف ترشيحه .
إن النزعة إلى تأسيس النظم الاستبدادية تنتشر ، كرد فعل على التطبيق الزائد على الحاجة لليبرالية المحدثة ، كالنار في الهشيم في أرجاء المعمورة ، وأمثلة ذلك في نيوزيلندا حيث ظهرت حركة ذات نزعات عنصرية تسمى ” نيوزيلندا أولاً ” والتي صار بوسع زعيمها ونستون بيترز تسلم زمام الحكم عمّا قريب ، وفي استراليا تنوي تطبيق قوانين عمل جديدة غاية في القساوة واتخاذ اجراءات تقشف واسعة ، وحتى في السويد ، البلد الذي انفتح على العالم منذ وقت مبكر ، صار عدد المعادين للأجانب يزداد باستمرار ، كما نلاحظ نفس الحال في سويسرا وفي ايطاليا وفي فرنسا أو في بلجيكا .
أما في روسيا فإن غنيادي زيو جانوف الزعيم الروسي الشيوعي ، يريد أن يعيد عجلة التاريخ إلى الوراء ، وفي هذا السياق أيضا كان النمساويون قد سبقوا الجميع : فمنذ عام 1986 قطع الديما جوجي اليميني المتطرف جورج هايدر JOEXG HAIDER شوطا سياسياً بعيداً سيوصله ، ليس حسب توقعاته هو ذاته فحسب ، إلى مكتب المستشار [ أي رئاسة الوزراء ] في فيينا قبل نهاية القرن . إن هفواته اللسانية ، وهي هفوات تذكر النمساويين بالحكم النازي ، فقط قد أضرت به حتى الآن ، ولكن لفترات قصيرة لا غير .
|
– 7 –
يود المرء ألاّ يكون ما يراه سوى أضغث أحلام ، أو هذيان الحمى التي تفرزها السرعة التي تسير بها العولمة بحيث لا تترك للمرء الوقت للتفكير الرزين .
فعلى وجه الخصوص ، فإن ” تسارع عملية الهدم الخلاّق هي الطابع الجديد الذي اتخذه نظام السوق الرأسمالي ” كما قال محللاً إدوارد لوتاك ، الاقتصادي الأمريكي الذي صاغ لهذا الطابع الجديد مصطلح ” الرأسمالية النفّاثة ” ويواصل تحليه قائلاً : ” إن السرعة المروعة التي تتم بها التحولات قد غدت صدمة لشطر عظيم من السكان ” .
ويشن لوتاك القريب الصلة بالجمهورية في الولايات المتحدة الأمريكية ، هجوماً على نظرائه في المعتقد ، حيثما يؤكدون على لسان مرشحهم لرئاسة الجمهورية على ” قيم الأسرة ” إلاّ أنهم يطبقون سياسة معاكسة لذلك . من يرى توطيد أركان الأسرة والمجتمع أمراً مهماً ، لا يمكن له أن يناصر في ذات الوقت تراجع تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية وعولمة الاقتصاد ، فهذان اللذان يمهدان الطريق للتحولات التكنولوجية السريعة . إن تفكك الأسر الأمريكية وما نلاحظه في الكثير من اصقاع المعمورة من انهيار في المؤسسات الاجتماعية المناط بها السهر على التربية ، وكذلك الاضطرابات السائدة في بلدان شبيهة بالمكسيك على سبيل المثال _ ليست سوى نتائج أفرزتها هذه القوى التدميرية ذاتها “
وكمثال معبر ، غاية التعبير ، عن النتائج التي تفرزها ” الرأسمالية النفاثة ” يستشهد لوتاك بتحرير النقل الجوي في الولايات المتحدة الأمريكية من التدخل الحكومي ، فهذا التحرير أدى حقاً إلى تخفيض أسعار الرحلات ، إلاّ أنه أفرز في الوقت ذاته اندلاع موجات تسريح من العمل و ” شركات نقل جوي تعمها الفوضى وتعاني من انعدام الاستقرار ” ويواصل تحليله مؤكداً على أن هذا التطور ” يمكن أن يشكل مادة هامة لدراسة اجتماعية ( سوسيولوجية ) تبحث عن عدد حالات الطلاق التي سببها هذا التطور ، وعن عدد أولئك الاطفال الذين يعانون من حالات الطلاق هذه ، وعن هول المتاعب الاقتصادية التي جرها على عائلات العاملين لدى شركات الطيران ” .
ولننتقل إلى نتيجة أخرى لا تقل وطأة ، أفرزتها السرعة التي تسير بها هذه التحولات : في سياق المنافسة الدولية يتغير المعروض السلعي على ذلك النحو السريع ، بحيث لم يعد بمستطاع الشاب البالغ من العمر ثلاثين عاماً ، التعامل مع البضائع الدارجة لدى
– 8 –
الشبيبة التي تصغره بسنوات قليلة لا غير . فالإلكترونيات من أجهزة التسلية والكمبيوتر صارت تفوق مداركه . وهناك ملايين العمال الذين يتعين عليهم تغيير مهنهم على نحو جندي ولمرات عديدة ، فمن يبغي السير إلى الأمام ، فإن عليه أن يظهر مقدرة كبيرة على ” الحركة والتنقل ” وأن يكون مهيأ لتغيير محل سكنه باستمرار .
وفي سياق سرعة التطور هذه يتزايد بالضرورة عدد أولئك الأفراد الين يتخلفون عن مسايرة الركب ، وذلك إما لأنهم ليسوا على استعداد ، أو لأنهم ليسوا قادرين على تغيير رؤيتهم لمعنى الحياة باستمرار ، وقضاء العمر كله في تحقيق أقصى عطاء . وغالباً ما تُتخذ قرارات أساسية تتعلق بمصائر الأفراد أو بمستقبل المشروعات الاقتصادية بسرعة فائقة تدعو للقلق ، أضف إلى هذا أن المرء صار ينتظر من السياسيين أن يمتلكوا دائماً وأبداً ” ردود فعل جاهزة ” .
من ناحية أخرى أمسى في الامكان أن تتغير مواقف الناخبين من الأحزاب المشاركة في الانتخابات في قاعات الانتخابات نفسها ، الأمر الذي يؤدي إلى أن تبدو أحدث التنبؤات قديمة لا جدوى من الاعتماد عليها . وبهذا تصبح المزاجات العرضية والانطباعات المؤقتة أسساً تُقام عليها قرارات بعيدة الأثر .
ومن باب الدفاع عن الذات ” ينشأ في العصور الشبيهة بعصرنا ميل لاستلطاف التراخي في الفعالية والجدارة ، لا بل ينشأ ميل لاستمراء الاهمال والتقصير ” . إنّ عبارة الترويح عن النفس ” ، والتي يدعو إليها المفكر النمساوي فرانز كوب ، مطالباً بأن يقوم كل فرد من جانبه ” بالتخفيف من سرعة الزمن ” أصبحت الموضوع المهيمن على حديث الناس في العالم الواحد .
: انتهى الفصل السادس بحمد الله : –
– 9 –
الفصل السابع
جناة أم ضحايا ؟
بالرغم من كل الحماية الصارمة يبقى الخوف من محاولات الاغتيال مخيماً بكلكه عل الجميع ، ها هو بطرس بطرس غالي يحيا حياة تحف بها المخاطر الجسيمة إن العولمة هي الموضوع الرئيس الذي يشغل بال بطرس غالي منذ فترة من الزمن ” ليست هناك عولمة واحدة ، بل ثمة عولمات عديدة . فعلى سبيل المثال ، هناك عولمة في مجال المعلومات والمخدرات والأوبئة والبيئة ، وطبعاً ، وقبل هذا وذاك في مجال المال أيضاً . ومما يزيد الأمر تعقيداً ، أن العولمة قد صارت تتعاظم في المجالات المختلفة بسرعة متباينة ” حسبما قال في سياق التمهيد لحديثة . ” لأعطى مثالاً على ذلك : حقاً نحن نتحدث في المؤتمرات والاجتماعات العالمية ، الشبيهة بالاجتماع الذي عُقد مؤخراً في مدينة نابولي ، عن الجرائم العابرة للحدود ، إلاّ أن رد الفعل هذا يبقى رداً متواضعاً بطيئاً غاية في البطء ، مقارنة بالسرعة التي تتعاظم فيها عولمة الجريمة . ”
إن كثرة التحولات التي تعصف بالعالم ، وعدم تحقق هذه التحولات في كل أرجاء العالم في وقت واحد ، يسبب حسبما يقول بطرس غالي : ” تعقيد المشكلات على نحو بالغ ، وبالتالي فإنها يمكن أن تفضى إلى توترات وخيمة ” . ومستقبل الديمقراطية أصبح همه الأول ” إذ هذا هو الخطر الحقيقي : أسيشرف على توجيه العولمة نظام تسلطي أم ديمقراطي ؟
ويترتب على ما تنتجه العولمة من نتائج ” تضاؤل إمكانات الدول المختلفة على التدخل أكثر فأكثر تجاوز اللاعبين الدوليين حدود اختصاصهم من دون رقيب يذكر . ولعل القطاع ، العام خير دليل على ذلك . ” ولكن أيعي رؤساء أهم الدول ، هؤلاء الرؤساء الذين يتداول معهم بطرس غالي بلا انقطاع ، هذا كله ؟ ” كلا ” رد الأمين العام للأمم المتحدة وهو يهز رأسه أسفاً ، ” فبصفتهم قادة بلدانهم ، فإنهم لا يزالون يتصورون بأن السيادة الوطنية ما فتئت في أيديهم وأن بمقدورهم السيطرة على العولمة في النطاق الموطني . ” ” إن القادة السياسيين لم يعودوا يمتلكون الكثير من مجالات السيادة الفعلية التي تمكنهم من اتخاذ القرار . إلا إنهم يتصورون بأنهم قادرون على حل المسائل الرئيسية . إني أقول ، إنهم يتوهمون ، إنهم يتخيلون ، أن هذا بوسعهم . ”
” وكلاوس توفر ” ، الرجل الذي شغل منصب وزير البيئة الأسبق في ألمانيا على مدى سنوات طويلة والذي يشغل الآن منصب وزير الإسكان ، هو واحد ، ليس من أهم الشهود على النتائج الخطيرة لهذه الاستراتيجية فحسب ، بل هو واحد من ضحاياها أيضاً : ” إننا ، وفي أفضل الحالات ، نجري لاهثين وراء الأحداث ونفضل صرف النظر عن الإشكالات طواعية حينما تلتبس علينا الأمور ” ، وواصل حديثه إذ راح يقول : ” ولربما يغض المرء طرفه دون وعي ، لا لشيء –
– 1 –
إلاّ لأن المسألة التي نود حلها ، تكاد تكون مستعصية الحل ” .
” إن ما ادهشني ، ولا أود أن أقول إن ما سبب لي الإحباط ” كما يقول الأستاذ الجامعي السباق في أكاديمية ” دار تماوث ” المرموقة والواقعة وسط غابات ” نيوهامبشلر ” ” هو أن الطلبة ، لا ، بل حتى الأساتذة والمحاضرون ، قد توصلوا إلى نتيجة مفادها أن هناك احتمالين بشأن ارتفاع حرارة المناخ المتزايد : إما أن التنبؤات العلمية على خطأ ، وهو أمر يدعو للفرحة والسرور ، أو أن هذه التنبؤات على حق ، الأمر الذي يعني عندئذٍ أننا لم نعد قادرين ، على كل حال ، على وقف النتائج ، وذلك لأن إصلاح الحال يتطلب تكاليف يصعب ، سيكولوجيا ، تحميل المواطنين أعباءها ، وبهذا فإنه ليس بالإمكان لا سياسياً ولا اجتماعياً ، تمرير التحولات الاقتصادية الهيكلية الضرورية لمواجهة هذه النتائج . ”
وبحسابات من هذا القبيل وهي دقيقة في الواقع وليست هازئة بالضرورة ، يقف ، في كل أرجاء المعمورة ، جيل من العلماء الشبان ومن قادة المجتمع في المستقبل على عتبة الألفية الثالثة .
بناء على كل التجارب التي عاشها ” توبر ” فقد اندهش اندهاشاً عظيماً ، من السرعة التي بدت بها شمولية الإشكالات كما لو كانت أموراً ثانوية ، أي تحديات لا تخطى بالإهتمام إلا بعد أن تٌحل جميع المشكلات الأخرى .
” لقد كنت أعتقد أن نتائج مؤتمر ريودي جانيرو ستكون لها قوة فعّالة على التعامل مع الأزمات إلاّ أن جل هذه المعاهدات والاتفاقيات سرعان ما وضعت في صندوق كُتب عليه : يُفتح عند تحسّن الحالة الاقتصاديّة ” .
إن القادة السياسيين يتعامون عن مشكلات البيئة . ومن دون القوة العظمى ، الولايات المتحدة الأمريكية ، لا شيء يحدث . إلاّ أن الولايات المتحدة نفسها لا تنشط في هذا المجال أبداً . فحسبما يقول ” توبر ” : ” إنني لا اعتقد بأن المرء سيكون في أمريكا على حظ أكبر لكسب الانتخابات الرئاسية ، عندما يبرز نفسه مدافعاً عن مسائل حماية البيئة . ”
إن انتظار وقوع الحدث وليس اتخاذ المبادرة الحازمة ، والاصلاح المكلف للأخطاء وليس تفادي وقوع الخلل ، إن هذا هو كل ما تستطيع فعله السياسة الدولية حسب تقدير اللاعبين الدوليين . وميشيل كامديو ، رئيس صندوق النقد الدولي ( IWF ) في واشنطن وصلة الوصل بين عالم السياسة وإمبراطورية أسواق المال ، يؤكد من جانبه على أنه ” يتعين على المرء أن يعلم بأن اتخاذ المبادرة الذاتية أو عدم اتخاذها يُغر الآن عن نتائج ذات أبعاد عالمية ” . وبهذا التقييم فإنه لا يبرر مغامرة المكسيكية في تلك الليلة من الليالي شهر يناير من عام 1995 ، حينما خصص ثمانية عشر مليار دولار من أموال المشاركين في صندوق النقد الدولي بهدف مواجهة أول
– 2 –
أزمة في القرن الحادي والعشرون ” ، فحسب ، بل هو على ثقة أيضاً بأن ” التكييف مع البيئة العالمية المعولمة قد أضحى أمراً لا مفر منه ” . كما أنه لا يترك مجالاً للشك بأن الوول ستريت وقادة صناديقه الاستثمارية هي المهيمنة : ” إن العالم في قبضة هؤلاء الفتيان ” .
إلاّ أن these guys [ هؤلاء الفتيان ] ، كما يسميهم كامديسو بالانجليزية ، يرفضون تقييم رئيس صندوق النقد الدولي رفضاً قاطعاً . كلأ إنهم ، هم أنفسهم أيضاً ، لا يجلسون على كرسي القيادة ، كلا ، إنهم ، أيضاً ، ليسوا مسؤولين عما يحدث ، حسب ما يقولون : ” إن السلطة للسوق وليست لنا نحن . ” هذه هي العبارة التي يرددونها بصوت واحد ابتداء من ميخائيل سنو ، الرجل الذي أشرف توّاً على تأسيس صندوق سلامة عظيم لمصلحة الصرف السويسري ubs ، وانتهاءً بالمُضاَرب بمبالغ تصل إلى المليارات ستيف ترنت في واشنطن ، هذا الرجل الذي يبدو البيت الابيض من نافذة مكتبه الفاخر العملاق ، كما لو كان لعبة أطفال صغيرة .
” أمعن النظر في بلجيكا أو النمسا على سبيل المثال ” راح ترنت يشرح لنا ” ، ” لا مراء في أن المستثمرين من أبناء البلد هم دائماً أولئك الذين ينقلون أموالهم إلى الخارج متسببين بذلك في خلق مشكلات لبلادهم . فحينما تكون المخاطر ضئيلة والعوائد المتوقعة مرتفعة ، فإن شركات التأمين والمصارف النمساوية والبلجيكية هي التي ستقوم بنفسها في استثمار المزيد من مدخرات بلدانها في الأرجنتين على سبيل المثال . ولِمَ سيتصرفون على هذا النحو ؟ إنهم يتصرفون على هذا النحو لأنه يخدم تطلعات المستثمرين النمساويين وزبائنهم النمساويين . وبالتالي فليس لأي مؤسسة مالية أمريكية علاقة بذلك ، بل هو محض قرار اتخذه أولو الشأن الساعون إلى اتخاذ أفضل ما في مصلحتهم من قرارات ومعنى هذا أنه ليس بوسعك أن تحملّنا ، بصفتنا شركة مضاربة معولمة ، مسؤولية ما ستنجم عن هذه القرارات من انهيار من قيمة العملات الوطنية أو ما ستفرزه من ترسب كبيرين رؤوس الأموال . إننا ، وفي أفضل الحالات ننشط في أسواق بعض البلدان الكبيرة ونتعامل بعملات مهمة . ”
وفضفاض على نحو أشد هو التبرير الذي ساقة فنست تروجليا ” نائب مدير مؤسسة [ وكالة موديز للخدمات المالية ] . ” لقد غدا منحنا تصنيفاً من درجة AAA مرآة تعكس السوق . ولا ريب في أنه ليس بوسعنا أبداً أن نضمر عواطف حيال البلدان والشركات المختلفة . فأنا أفكر في سياق عملي بهؤلاء العجائز اللاتي استثمرت أموالهن في صناديق الاستثمار . فهن في أمّس الحاجة للحصول على عائد كبير بقدر الإمكان ، سواء لأنهن لا يتوافر مرتب تقاعدي كاف ، أو لأن احفادهن لا يستطيعون الدراسة في إحدى الكليات الجيدة المكلفة ، إلا اذا درت عليهن هذه الصناديق عوائد جيدة . ومن هنا ، فأنا حينما أساعد هؤلاء العجائز ، إنما أساعد جميع المستثمرين . ”
– 3 –
وكان ” فرديناند لاسينا ” ، الاقتصادي النمساوي الذي كان ، إلى حين اعتزاله العمل الحكومي في ابريل 1995 ، أكثر وزراء المال الأوروبيين تجربة ، قد لمس عن كثب ، ما هية الآثار التي تتركها روح التجبر والتعالي الجديدة السائدة عالمياً لدى المستثمرين في الصناديق وفي الصناعة ، إذ يرى أن ” مديري صناديق الاستثمار لا شغل لهم ، في الغالب الأعّم بالسياسة ، ولكن ، مع هذا ، تبقى عملية تحرير الأسواق من تدخل الدولة أمراً ايدولوجياً فهو كثيراً ما لاحظ أن ” كل أولئك الذين يؤيدون المنافسة شفهياً ، سرعان ما يعتقدون بأن السوق قد دُمر وأن الأمر صار يتطلب تدخلاً والمساعدات المالية من الدولة ، حينما تتحقق المنافسة الحقة فعلاً ” .
وحتى إن ظلت المساعدات المالية الحكومية مستهجنة في إطار الاتحاد الأوروبي ، ” إلاّ أن حقيقة الأمر هو أن الكثير من المساعدات المالية قد صارت تمنح على شكل إعفاءات ضريبية . فمن قبل أن يحدد المستثمرين المكان الذي سيستثمرون فيه ومن قبل أن يتخذ المصنع القرار بشأن الموقع الذي سيؤسس فيه فرعاً له ، يُقال للمسؤولين الحكوميين بكل صراحة ، إن عليهم أن يقدموا الإعفاءات الضريبية ونوعية هذه الإعفاءات ” .
فإذا كانت المشروعات في السابق تخطط ، حينما تختار موقعاً تنتج فيه الصلب والحديد مثلاُ ، بان مصنعها هذا سيستمر في الانتاج من هذا الموقع لعشرات السنين وأنه سيخلو آلافاً من فرص العمل ، لم تعد هذه القرارات سارية المفعول في عصر الالكترونيات .
فلدى ” سيمنز ” على سبيل المثال ، تُتخذ هذه القرارات ” في الغالب لسنوات وجيزة لا غير ولا تخلق أكثر من بضع مئات من فرص العمل ” . ويؤكد لا سينا ، الذي يدير الآن مصرف الائتمان والتحويل العائد إلى صناديق الادخار النمساوية على أن العولمة قد أخذت ، بما تفرزه من ” أعباء متزايدة ” ، تحد كثيراً من السادة الوطنية ، ويقول متسائلاً : ” ولكن أي سياسي يعترف طواعية ، بأنه يخضع للضغوط في الواقع ؟ ” .
” إن النظام الدولي لا يتصف بالاستقرار ” راح يعلن ميخائيل جورباتشوف آخر رئيس للاتحاد السوفيتي ” إن السياسة تجري وراء الاحداث . إننا نتصرف كما لو كنا رجال إطفاء حرائق ، ينتقلون ، عند اندلاع النيران ، إلى أوروبا وإلى باقي أنحاء العالم . إننا جميعاً لا نتصرف إلاّ على نحو متأخر ” .
” إن أصحاب المليارات الكثيرة مشغولون الآن بتسريح كادرهم الإداري الوسطي قبل أن يكون لهم حق الحصول على راتب تقاعدي من الشركة . إننا في طريقنا لأن نصبح المكسيك أو البرازيل
– 4 –
حيث يعيش الأغنياء خلف الأسوار ، مثلهم في ذلك مثل أغنياء هوليوود . ويُشغل العديد من أصدقائي جيشاً من فرق الحماية الخاصة لخوفهم من الاختطاف ” يؤكد ، عملاق الإعلام تيد ترز والذي تعتبره مجلة FORBES في عداد أثرى الأثرياء على الكوكب الأرضي ، بأنه قد أدرك عظمة المخاطر بنفسه .
ويستنكر الملياردير العصامي ، وهي يجلس في مركز CNN المتواضع في مدينة أتلانتا ، ضآلة المبالغ التي يتبرع بها أثرى الأثرياء من أجل الأمور الاجتماعية والبيئية . ” الحكومة الاتحادية مفلسة ، وحكومات الولايات المختلفة مفلسة هي الأخرى . إن الثروة برمتها في قبضة هذه الفئة عظيمة الثراء والقليلة العدد ، ومع هذا لا أحد منهم من ثروته . إن هذا ينطوي على مخاطر جسيمة بالنسبة لهم وبالنسبة للبلد . إننا على وشك أن نعيش ثورة فرنسية جديدة .
ويشير رئيس اتحاد الصناعة الألمانية ” تيل ينكر ” إلى التوجه الجديد الذي يتعين على أوروبا أن تسير عليه ” إننا سنحقق تقدماً حقيقياً فقط ، حينما نكون على وعي تام بالتحولات التي لا مفر منها ولا مناص ” . وفي مقصورة قيادة السفينة التي تمخر عباب محيطات المنافسة في السوق العالمية يقف ، أيضاً ، ” هرمان فرانز ” والذي يشغل الآن منصب رئيس إدارة سيمنز فهذه المؤسسة الأمميّة تعلن سنة بعد سنة تحقيقها أرباحاً عظيمة . ففي عام 1995 بلغت الارباح التي جنتها في ارجاء المعمورة 27 ، 1 مليار دولار ، أي ما يزيد على ما حققته في عام 1994 بمقدار 8 ، 18 بالمائة . ومع هذا سرحت هذه المؤسسة – التي تشغل 383 ألف عامل والتي تعتبر خاصة أكبر المؤسسات العالمية في ألمانيا – المزيد من الأيدي العاملة ” إن ساعة عمل المرأة العاملة في إنتاج الاسلاك الكهربائية التي تنتجها لحساب شركة فولكس فاجن ، تكلفنا في مدينة نيرنبرغ 45 ماركاً . أما في ليتاون فإنها أقل من مارك ونصف المارك . أصل إلى هذا أننا نحصل على موقع العمل هناك بلا ثمن .في مثل هذه الحالة لابد لنا من أن نفكر بشركة فولكس فاجن أيضاً وأن نسعى للانتاج بأقل تكلفة ممكنة ” حسبما يقول فراز والذي يبدو أنه يشعر بتأنيب الضمير وعدم الارتياح إزاء بعض التوترات الاجتماعية الجديدة ؛ فعلى الأقل ، يتنبأ بأن التطورات ” ستفرز بعض الاحتكاكات ” ، لكنه سرعان ما يستدرك منقول : ” إلاّ أن الصناعة ليست مسؤولة عن كذلك بكل تأكيد ” وهكذا يصبح فرانز أسير تلك الشبكة التي شارك هو نفسه في نسجها . فهو يشارك ، بجلاء ، في تعميو الهوة الاجتماعية ، لكنه يشعر بأنه ليس إلاّ منفذاً مطيعاً لقوانين السوق العالمية . ويفيد قائلاً إن سينمز مؤسسة شمولية النشاط ، حتى إن كانت إدارتها الرئيسة في ألمانيا ، ومن هنا ” فإننا نتحمل المسؤولية نحو جميع العاملين لدينا في كل أرجاء المعمورة ” .
– 5 –
” إن المشكلة تكمن في اختلاف النظم الثقافية السائدة في هذا العالم ” بهذه العبارة بدأ رجل الأعمال الكبير ” انطون شنيدر ” تحليله ” إن ما يسميه البعض FAIR PLAY لعبة عادلة يفهمه الآخرون في ضوء مفاهيمهم الثقافية ، وليس في ضوء ما نقصده نحن . فالكوري ، على سبيل المثال ، يرى في التدخل الحكومي لتوجيه التجارة الخارجية أمر بديهياً غاية في البداهة ، لكنه مع هذا ، يتحدث إلى العالم ، بأن ما يقوم به هو اللعبة العادلة تماماً : ولا ريب أن هذا أمر يصعب علينا أيضاً فهمه . في هذه الحقيقة يكمن ، في الواقع ، الخطأ الاساسي ، الذي يقوم عليه مشروع السوق المتشابكة على المستوى العالمي ” .
ويتوصل ” شنيدر ” إلى نتيجة مهمة فيقول : ” إني اعتقد أن معظم الشركات الأوروبية الكبيرة قد صارت في نفسها عجلات تسيّرها العولمة الاقتصادية ” .
وإذا كانت الأمور على هذا الحال ، فلم إذن كل هذه النشاطات العالمية ؟ ” لا مناص لنا من هذا النشاط – رد القائد الصناعي مجيباً – ” فنحن نرغب في قطف ثمار هذه الأسواق العالمية ، وبالتالي فإننا نذعن في مساعينا هذه للشروط التي تُطلب منا . إن الدخول إلى هذه الأسواق أمر ضروري بالنسبة لنا ، إذ إنه من الأفضل طبعاً أن يكون لي وليس للمنافس ، موطئ قدم . ولكن ، ومع هذا لا أحد يشعر بالطمأنينة ” .
ولا ريب في أن قادة المشروعات يعرفون ما يعرفه العامة من الناس من أن الخوف لا يُسدي المشورة الصائبة . فمهما بذل من جهود لاتباع النهج القويم ، تظل تلوح في الأفق أخطاء جسام لا مناص فيها . فكل قائد إداري في مشروع ما معرّضٍ لأن يدمر أكثر مما ينقذ ، وذلك لأن هناك احتمال أن يجابه المخاطر ، المبررة فعلاً بناء على التطور السائد في الحاضر ، بإخضاع المشروع إلى عمليات إعادة الهيلكة ( RE – ENGENEERING ) ، ونقل الانتاج إلى الخارج ( OUTSOURCING ) والتصغير ( DOWNSIZING ) بأكثر مما هو ضروري . أما ذلك الذي لا يساير الزمن ويفضَّل اتخاذ المواقف الدفاعية ، تفادياً لكل قرار خاطئ فإن كل القرارات التي يتخذها هذا ، ستكاد تكون خاطئة بلا ريب .
وبهذا ، فمن هم هؤلاء اللاعبون الدوليون في مجالات السياسة والمال والإعلام والإقتصاد : أهم مسيرون دونما إرادة أم هم جناة مع سبق الإصرار ؟
– 4 انتهى الفصل السابع بحمد الله ومنّه : –
– 6 –
الفصل الثامن
لمن الدولة ؟
انحطاط السياسة ومستقبل السياسة الوطنية
أعلن هلموت كول ، مستشار ألمانيا الاتحادية عن ” شماتته ” بما ينتظر أولئك الأفراد والشركات المتهربين من الضريبة من ملاحقة قانونية ، وقال مؤكداً أن أي بلد ، يرى في التهرب الضريبي خطئية طفيفة ، ” يضيع مستقبله ” ، بلا مراء .
لقد قوم المستشار المخاطر تقويماً صحيحاً بلا أدنى شك ، ولكن مع هذا ، ليس هناك ما يدعو للفرصة بكل تأكيد . فمهما زادت الدوائر الحكومية من حملات تفيشها وتحقيقها ، ومهما أبدت من صراحة ودقة في هذه الحملات ، فإنها ليست قادرة على الانتصار في الحرب المستعرة منذ سنوات حول إخضاع عوائد الثروات والمشروعات للعبء الضريبي . ويكمن سبب هذه الحقيقة في أن الاشخاص الذي يسيطرون على المعلومات أو قادة المشروعات الجسورين على نحو غير عادي فقط ، هم أولئك الذي يتبعون الطرق غير القانونية في تخليص ثرواتهم وعوائدهم من القوائد على الثروة من العبء الضريبي . أمّا تلك المؤسسات الصناعية التي تدار على نحو محنك ، وكذلك المكاتب التي تدير الثروات الخاصة على نحو جيد فإنها ليست بحاجة إلى هذه الطرق غير القانونية . فمن دون مخالفة للقوانين بالإمكان تخفيض العبء الضريبي ، في جنح الظلام السائد في السوق الدولية لرأس المال ، إنه يمكن تخفيضه إلى أقل من عشرة بالمائة ، إن تطلب الأمر ذلك .
|
أما عن الكيفية التي يتم بها هذا كله ، فإن المشروعات الألمانية الكبيرة تعطي درساً جيداً منذ سنوات طويلة . ” إننا نحاول أن نحمِّل ما نتحمل من نفقات لتلك المناطق التي تكون منها الضريبة في أعلى مستوى . ولا ريب ان ألمانيا هي هذا المكان ” ، هذا ما قاله فولكر دوبلفلد ، وهو المسؤول عن إدارة الشؤون المالية من قيادة BMW وبهذه الطريقة خفّضت المؤسسة مدفوعاتها الضريبية إلى الدولة بما يزيد على المليار مارك في الفترة بين عام 1989 وعام 1993 ، بناء على حسابات المطلعين على واقع الحال في قطاع انتاج السيارات .
– 1 –
وكذلك الحال مع سيمنز ، العملاق في إنتاج الاجهزة الالكترونية التي لم تدفع أي شيء عام 1996 ، وكذلك الحال بالنسبة للتقرير السنوي الذي قدمته شركة دايملربنز عن نشاطاتها في عام 1994 ، ففيه أيضا يرد على نحو مقتضيات أن الضرائب على العائد ” دُفعت في الغالب في العالم الخارجي ” .
إن التهرب الضريبي المتعاظم ليس في مبتكرات المؤسسات الصناعية الكبيرة فقط . فالأمر ذاته ينطبق ، أيضاً على ذلك العدد الهائل من المشروعات المتوسطة الحجم . فبما أن هذه المشروعات تستغل – على نحو منتظم – الفروقات السائدة بين النظم الضريبية الوطنية المختلفة ، لذا فإنها قادرة على تخفيض مدفوعاتها الضريبية إلى إدنى مستوى ممكن دولياً . وأبسط طريقة في ما يسميه الخبراء بالخطة الضريبية هو [ التسعيرة التحويلية ] . وقاعدة هذا هو خلق اتحاد يضم شركات وفروعاً تابعة للشركة الأم وموزعة على بلدان مختلفة – ولما كانت هذه الشركات والفروع التابعة لها تتعامل فيما بينها بالسلع الوسيطة وبالخدمات أو بحقوق البراءة والاختراع أيضاً ، لذا فإن هذه الشركات والفروع التابعة لها قادرة لأن تحتسب لنفسها تكاليف يكاد مستواها أن يكون اعتباطّياً . ولهذا السبب تكون نفقات المشروعات الناشطة دولياً في أعلى مستوى في تلك البلدان على وجه الخصوص، التي تكون فيها المعدلات الضريبية في مستوى أعلى . أمّا بالنسبة ” للواحات الضريبّية ” ، أو البلدان ذات المعدلات الضريبية المنخفضة نسبيا ، فإن الأمر على العكس من ذلك ، فالشركات والفروع التابعة لها ، تحقق ههنا ارباحاً عظيمة على نحو غير عادي ، حتى إن كان تمثيلها لا يزيد على مكتب يتوافر على جهاز فاكس لا غير وعلى موظفين اثنين فقط . إن المفتشين الحكوميين ليسوا قادرين على مواجهة هذه الأساليب . فمن أين لهم أن يثبتوا أن الأسعار التي تحتسبها المؤسسات ذات الفروع والشركات التابعة لها في تجارتها البينية مرتفعة على نحو يجافي الواقع . ولمواجهة هذه الأساليب وما شابهها تحاول ، طبعا ، الحكومات والمؤسسات التشريعية في كل ارجاء المعمورة ، اجراء الاصلاحات في طرق الرقابة والتحري وسد الفجوات والتغيرات القانونية . إلاّ أن هذا كله لا يجدي نفعاً عادة . ” ففي نهاية المطاف بالامكان التغطية على كل سبل التدليس من خلال ما يسود المشروعات من هياكل شاملة معقدة التركيب . ”
وهكذا تمكنت الشركات الناشطة عبر الحدود أن تورط خلال السنوات العشر الماضية كل دول العالم تقريباً ، في ما يسميه وزير الدولة للشؤون المالية في – بون هانز جورج هاو
– 2 –
بـ ” تنافس النظم الضريبية ” . فبما أن الدول المختلفة تتنافس دولياً فيما بينها من أجل استقطاب الاستثمارات ، لذا لم يعد أمامها ، إزاء عجز دوائرها وموظفيها الضريبين سوى العمل على جعل معدلاتها الضريبية تتقارب عند مستوى متدن . وكانت سيرة الانحدار قد بدأت عام 1986 ، حينما خفضت حكومات الولايات المتحدة الامريكية المعدل الضريبي على عوائد الشركات المساهمة من 46 بالمائة إلى 34 بالمائة واضعة بذلك مستوى عالمياً جديداً . فمع مرور السنين تعين على غالبية الدول الصناعية الأخرى منح نفس الميزة .
وفي إطار الاتحاد السوفيتي اتخذ التنافس صيغاً عجيبة غريبة . فبلجيكا تعرض منذ عام 1990 على المشروعات ، التي تنشط في أربعة بلدان على أدنى تقدير ، تأسيس ما يسمى [ مراكز تنسيق ] ، يُسمع فيها للمؤسسات بتركيز جميع خدماتها وعمليات ترويجها وتسويقها وكذلك أقسامها القانونية ، وطبعاً وقبل كل شيء ، جميع عملياتها المالية ، من دون أن تكون هذه المؤسسات مضطرة إلى دفع ضريبة على ما تحققه من أرباح كل ما في الأمر هو أنه يتعين عليها دفع ضريبية على جزء ضئيل من نفقاتها المحلية . ومن هنا ، لا عجب أن يلقى هذا النموذج تجاوباً واسعاً عريضاً . وهكذا وبفضل النماء البلجيكي نمت وترعرت الجذور المالية التي زرعتها هذه المؤسسات في قلب الاتحاد الاوروبي ، لتغدو أكثر شركاتها التابعة لها تحقيقاً للأرباح أصلاً .
فبناءً على ما هو مُعلن في الميزانية ، تزعم شركة BMW أنها حققت في فرعها البلجيكي ثلث المجموع الكلي من ارباح المؤسسة ، وإن لم تنتج هناك حتى سيارة واحدة . وأكثر سنماء واغراء للتهرب الضريبي هو العرض الذي تقدمه الحكومة الايرلندية لكل أولئك الذين يديرون صفقاتهم المالية من مكتب يقع في ميناء دبلن – فكل مارك تدره الفوائد التي يجنيها ، ظاهرياً ، الفرع المقيم في ايرلندا ، لا تأخذ منه خزينة الدولة سوى عشرة بالمائة فقط .ولهذا السبب تقيم الآن ، في المكاتب الفاخرة الواقعة في ميناء المدينة سابقاً ، فروع صغيرة لما يقرب من خمسمائة شركة متعدية الجنسية – شركات تُعتبر ، كما يؤكد رئيس غرفة التجارة الألمانية الايرلندية ” كبرى الشركات ” .
وبلغ المجموع الكلي للمبالغ التي تخفيها الشركات الألمانية عبر ايرلندا عن أنظار الضريبة الألمانية ما يقرب من 25 مليار مارك في عام 1994 ، حسب تقديرات المكتب الاتحادي لشؤون المال .
إن آثار السياحة الضريبية ، التي لا تعيقها حدود دولية ، أصبحت واضحة جلية ، وإن ظل الحديث عنها محرقاً في المناقشات السياسية : فعلاوة على السياسة النقدية والقدرة
– 3 –
على تحديد مستوى أسعار الفائدة وأسعار الصرف ، يضيع شيئاً فشيئاً في الاقتصاد متعدي الجنسية موضوع رئيس آخر من مواضيع السيادة الوطنية : السيادة الضريبية . فخلافاً لما توحي به المعدلات الضريبية العالية الواردة في القوانين الضريبية ، انخفض في ألمانيا ، متوسط الضريبة الفعلية على ارباح الشركات والعاملين لحسابهم الخاص منذ عام 1980 ، من 37 بالمائة إلى 25 بالمائة فقط في عام 994 ، حسب ما توصل إليه المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية في برلين . وفي الواقع فإن هذا التطور ليس ظاهرة ألمانية بحتة ، ففي ظل التنافس الضريبي السائد تنخفض نسبة الضرائب المفروضة على الشركات ليس في بلدان معينة فحسب ، بل هي في انخفاض مستمر على مستوى العالم .
فإمبراطورية سيمنز دفعت في عام 1991 ما يقرب في نصف الربح إلى المائة والثمانين دولة ، التي فيها فروع لها . وفي خلال أربع سنوات لا غير انخفضت هذه النسبة إلى عشرين بالمائة فقط .
|
وهكذا لم تعد الحكومات المنتخبة ديمقراطياُ هي التي تقرر مستوى الضرائب ، بل صار القائمون على توجيه تدفقات رأس المال والسلع هم الذين يمدّدون مقدار المبالغ التي يريدون دفعها ، كي تستطيع الدولة أن تؤدي المهام الموكولة إليها . ولا ريب في أن الكثير من اللاعبين الدوليين قد صار على وعي تام بهذه الحقيقة ، هذه الحقيقة التي أبى رئيس دايملر بنز يورجن شرمب إلاّ أن يصرّ ح بها في نهاية أبريل عام 1996 للجنة . الضرائب في البرلمان الألماني ، على الرغم من كل ما تنطوي من كرب وأسس . ففي عام ألفين ، على أبعد تقدير ، حسبما صرّح ، لن تدفع مؤسسته أية ضريبة على عوائدها . وزاد في تأكيده ، فراح يقول : ” إنكم لن تحصلوا على شيء منا ” ولمن يكن بوسع ممثلي الأمة وهم يسمعون هذا الكلام ، سوى الصمت والحيرة .
إن نضرب أموال الدولة بفعل الاقتصاد العابر للحدود لا ينعكس في جانب الايرادات فحسب فالأممية الجديدة تستحوذ على حصة متزايدة في الانفاق الحكومي أيضاً . إن التنافس على دفع أدنى الضرائب يتزامن مع تنافس على الحصول على اسمى التبرعات والمساعدات والطرق والسكك الحديدية وايصال الطاقة الكهربائية والماء ، بلا ثمن ، حداً أدنى في المستوى الدولي
– 4 –
أضف إلى هذا أنه عندما تنوي مؤسسة ما تشييد مصنع للانتاج خاص بها ، فإن بوسع الساهرين على احتساب التكاليف أن يتوقعوا حصول المؤسسة على إعانات ومساعدات بمختلف الصيغ والأسماء . ومن هنا فحينما توافق الشركة الكورية متعدية الجنسية ” سامسونج ” على استثمار مليار دولار في مصنعها الجديد ، المنتج للأجهزة الالكترونية ، في شمال انجلترا ، لقاء حصولها على مائة مليون من وزارة الخزانة ، فإنها تكون قد تساهلت كثيراً وقبلت بسعر مناسب جداً . فالدول والمناطق التي تتطلع لأن تشيد شركة مرسيدس بنز مصنعاً في أراضيها ، يتعين عليها أن تدفع ما هو أكثر من ذلك بكثير . فالبنسبة للمصنع الذي تشيده شركة مرسيدس في منطقة لورثنج لورين ” ، لانتاج سيارات من فئة الحجم الصغير يتحمل دافعوا الضرائب في فرنسا وفي باقي الاتحاد الاوروبي ربع مجموع المبالغ المستثمرة ، وذلك على صيغة إعانات مباشرة تحصل عليها الشركة . وإذا ما اضاف المرء إلى هذه المبالغ مقدار الإعفاءات الضريبية المتوقعة ، فستكون الدولة قد شاركت ، من دون أي حق لابداء الرأي ، بثلث المبالغ المستثمرة . وهذه ليست حالة استثنائية أبداً . فما خلا المناطق الصناعية المكتظة ، يمثل عمق وسعة هذه المساعدات المتوسط السائد في أوروبا . علماً بأن سلم المساعدات يتوقف على نسبة البطالة في الايدي العاملة وعلى حيرة السياسة وبالتالي فلا سقف علوياً له . ففي ألاباما على سبيل المثال ، وهي ولاية أمريكية فقيرة نسبياً ، تحملت مرسيدس بنز في عام 1993 نسبة 55 بالمائة فقط من مجموع نفقات بناء مصنع جديد هناك . مقارنة بهذا ، فإن الاعفاء الضريبي الكلي على مدى عشر سنوات ، الذي اشترطته ” جنرال موتورز ” على بولندا وتايلاند ابتداء من عام 1996 غاية في التواضع .
وأفحلت الحكومة الألمانية في تحقيق ذروة استقطاب الاستثمارات إلى الشق الشرقي من ألمانيا عن طريق المنح النقدية السخية ، في المحصلة النهائية لا تمول المؤسسة المستثمرة ولا حتى خمس اجمالي المبلغ المستثمر ، أي أن الجزء الأعظم مما ينطوي عليه المشروع من مخاطر ومجازفات يقع على كاهل دافعي الضرائب من المواطنين .
لقد لمست حكومة المستشار كول في سياق مساعيها الرامية إلى اصلاح حالة الصناعية الكيماوية التي ورثتها عن ألمانيا الديمقراطية ، لأول مرة على نحو بين ، كيف تؤدي محاولة استقطاب المؤسسات الصناعية العالمية عبر المنح والمساعدات المالية ، إلى استنزاف أموال الدولة .
– 5 –
إن التسابق المدمر والجنوبي على اعطاء الدعم المالي يميط اللثام عن تخبط السياسة والحكومات في متاهات الاقتصاد المعولم . ” إن الضغط الذي تفرزه المنافسة الدولية ، يدفع الحكومات على تقديم اغراءات مالية ، لا تبررها المعايير الموضوعية ” ، حسب ما أكد مؤتمر منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية ( الأونكتاد ) ، هذا المؤتمر ، الذي يحلل باستمرار الاساليب المتبعة في منح الدعم والمساعدات المالية في العالم . ويواصل خبراء الأمم المتحدة حديثهم مؤكدين على ان ايجاد طرق جديدة ، تقي من هذا الشطط ” قد أسس غاية ملحة جداً . ولكن ما جدوى هذه التخديرات ؟ فلأنهم مضطرون لأن يظهروا أمام ناخبيهم بمظهر يوحي بأنهم يعملون شيئاً لمواجهة البطالة ، لم يعد السياسيون السائرون قدماً في تحقيق التكامل في السوق العالمية ، يدركون بأنهم يتسببون بأضرار فادحة في الأمد الطويل من جراء الاغراءات المالية المكلفة التي يقدمونها إلى المشروعات في بلادهم . فهم حينما ينهكون موازناتهم المالية بهذه الاعباء ، سعياً منهم للمحافظة على الحصة الوطنية في ثمار الاقتصاد العالمي ، إنما يخضعون دولهم لمنطق يرى الأمور من منظور المشروع الواحد ، إلاّ أنه يقود إلى الكارثة من وجهة النظر الاقتصادية الكلية . فحتى إن لم يأخذ المرء القطاعات التي لا تستطيع ، تقليدياً ، أن تقف على قدميها دون دعم مالي ، أعني القطاع الزراعي ، والمناجم وبناء المساكن والسكك الحديدية ، يكلف الآن الدعم الاقتصادي في ألمانيا وحدها ، ما يزيد على المائة مليار مارك في العام الواحد ، حسب ما تؤكده التقديرات المتحفظة .
لقد أخذ هذا التمادي في إعادة توزيع الثروة يغير ، بشكل ملحوظ ، الهيكل الذي يقوم عليه جوهر الدولة . وكان المنظرون الليبراليون الجدد في معهد الاقتصاد الدولي في مدينة كيل ( IF W ) قد استخدموا صورة مجازية معبرة في تعليقهم على المهمة التي تضطلع بها الدولة الآن . ففي إحدى دراساته يرى المعهد بأن الدولة غدت في منظور الشركات متعدية الجنسية بمنزلة ” مضيف ” ، الأمر الذي يعني أن الشركات المتشابكة عبر الحدود الدولية قد أمست ، على نحو متزايد ، ذات طبيعة طفيلية .
فبضائعها تنقل عبر الطرق وسكك الحديد الممولة من قبل الحكومة والعاملون لديها يرسلون ابناءهم إلى المدارس العمومية وقادتها الاداريون يمتعون أنفسهم بما تقدمه المسارح ودور الأوبرا الحكومية من عروض . إلاّ أنها ، مع هذا ، لا تشارك في تمويل هذه وما سواها من المرافق العامة ، إلا من خلال الضرائب المفروضة على ما يستهلكه هؤلاء العمال والمستخدمون ، من بضائع . ولما كانت دخول العمال المأجورين ، أيضاً ، تميل إلى الانخفاض بفعل المنافسة ، وبما أن الدولة قد حمّلت ، أيضاً ، هؤلاء العاملين أعباء مالية تفوق طاقتهم على التحمل ، لذا صارت الدولة ، أيضاً ، ترزح تحت أعباء أزمات مالية هيكلية متتالية . إن الموازنات الحكومية باتت تخضع لنفس التيار الجارِّف
– 6 –
نحو الأسفل ، الذي تخضع له دخول السكان أيضاً . ويحدث هذا في وقت يطالب فيه السكان الحكومات في المجتمعات الصناعية المتقدمة بالنهوض بأعباء متزايدة . فالطرق التكنولوجية الجديدة جعلت صيانة البنية التحتية متزايدة الكلفة باستمرار . من ناحية أخرى يحتم تلوث البيئة عمليات اصلاح واسعة جداً . وبما أن السكان أمسوا يعمّرون مدة أطول ، لذا تزايد الانفاق على المرافق الطبية وعلى الرواتب التقاعدية . وبناء على هذا كله ليس بوسع المسؤولين السياسيين ، في الكثير من الحالات ، سوى الحد من الانفاق الحكومي على كل تلك المجالات والمرافق التي ليس ثمة لولي يدافع عنها ، أعني الحد من الانفاق الحكومي على نظام الرعاية الاجتماعية والمرافق الثقافية والخدمات العامة .
|
لقد جعل التخفيض الاجباري في الموازنات الحكومية السياسين حياري ، لا يعرفون كيف ينهضون بأعباء المهام الملقاة على عاتقهم ، وذلك لأن السبب يكمن في ما ينطوي عليه التقدم الاقتصادي
من سلطة لا مرد لها ، حسبما يزعمون . ولا ريب في أن هذا يؤدي إلى هدم أسس نظام الدولة الديمقراطية . ولا شك في أن الازمات الدائمة في المالية الحكومية – ليست سوى مظهر واحد من بين المظاهر الكثيرة للانحطاط السياسي . فإلى جانب سيادة الدولة في الأمور النقدية والضريبية ، يترنح الآن ركن آخر من اركان القومية : احتكار الدولة للسلطة ، فكما هو الحال بالنسبة للمصارف والمؤسسات الصناعية ينتفع مرتكبو الجرائم متعدية الجنسية أيضاً من إلغاء القيود القانونية المفروضة على الاقتصاد . فعلى مستوى كل البلدان الصناعية تتحدث دوائر الشرطة والقضاء عن طفرة بينة في نمو الجريمة المنظمة ، وكان أحد موظفي الشرطة الدولية ” الانتربول ” قد أشار إلى هذه الحقيقة بعين العقل ، حينما راح يقول : ” إن ما هو في مصلحة التجارة الحرة ، هو في مصلحة مرتكبي الجرائم أيضاً . ” وحسب تقديرات مجموعة خبراء ، شكلتها الدول الاقتصادية البيع الكبرى في عام 1989 ، ارتفع حجم المبيعات في السوق العالمية للهرويين حتى عام 1990 إلى عشرين ضعفاً في خلال العشرين سنة الماضية ، أما المتاجرة بالكوكايين فقد ارتفعت إلى خمسين ضعفاً . ومن هو قادر على المتاجرة بالمخدرات ، يستطيع بلا ريب ، المتاجرة بكل شيء آخر يتنافى مع القوانين .
” إن ازدهار عمليات التهريب لا يكمن في تقاعس الشرطة عن اداء مهامها . فالتنظيمات وطرائق عملها تكاد أن تكون معروفة على نحو جيدّ حسبما يذكر المدعى العام في مدينة ” أزبرج ” ، لكن بناء على عظمة تنامي التدفقات التجارية
– 7 –
لم تعد أجهزة الشرطة قادرة على مراقبة سوى جزء ضئيل من مجمل الشاحنات الناقلة للسجائر . ومن هنا فإنه لأمر يدعو للدهشة أن تستطيع أجهزة الشرطة مصادرة هذه الكميات الكبيرة في السلع المهربة . ومع هذا ، فإن هذه المصادرات لا تضر عمليات التهريب هذه ، فالمحققون يستطيعون إلقاء القبض ، فقط ، على الأعوان المناط بهم التوزيع وأولئك الناشطين في مجال النقل . أما أولو الأمر المسؤولون عن التنظيم ، فإنهم بصفتهم أرباب عمل أسخياء ، يظّلون بمنأى عن الإدانة . ” إننا نعرف أسماء هؤلاء القوم ، لكننا نعجز عن إثبات التهمة عليهم ” كما قال المدعى العام شاكياً ، ” فلشتنشاتاين ” أو ” بنما ” يظّلان خارج دائرة صلاحيتنا ، فههنا ، على أدنى تقدير ، يتوقف التعاون عابر الحدود بين أجهزة الشرطة .
ويلقى المحققون صعوبات أكثر وطأة في مساعيهم لمصادرة ثروة الشركات الناشطة في مجال الجريمة . فمهما اتصفت اعمال أجهزة الشرطة والقضاء بالجدارة ، تبقى الارباح المتراكمة تستظل بمظلة سوق المال الشمولية التي لا تدركها القوانين . فسرية الاعمال المصرفية ، هذه السرية التي يدافع عنها رجال المال دفاعاً مستميتاً ، لا تحمي الهاربين من دفع الضريبة فقط . وفي هذا السياق فليس من باب المصادفة أن تزدهر أهم الواحات الضريبية على طول المسالك الرئيسة لتجارة المخدرات .
من ناحية أخرى ، ليس هناك قانون قادر ، مهما كان صارماً في مكافحة غسل أموال الجريمة ، على وقف تغلغل المستثمرين الناشطين في الإجرام في القطاعات الاقتصادية الشرعية . ” فهم اذا كانوا يريدون غسل الأموال التي حصلوا عليها عن طريق الاجرام ، فإنهم قادرون ، على ذلك اليوم في كل أرجاء المعمورة دونما عقبة تذكر .
إن النتائج المترتبة تثير الرعب بلا شك . ففي منظور الخبراء ، أضحت ، اليوم الجريمة المنظمة عالمياً ، أكثر القطاعات الاقتصادية نمواً ، إنه يحقق ارباحاً تبلغ خمسمائة مليار دولار في العام . وفي دراسة قدمها خبراء من جامعة مدينة ” مونيتر ” إلى مكتب مكافحة الجرائم الاتحادي ، تنبأ الخبراء بأن الجرائم من قبيل المتاجرة بالبشر وإعادة العاملين على نحو غير شرعي – وسرقات السيارات ، وعمليات الابتزاز ستنمو في ألمانيا حتى عام 2000 بمعدل يبلغ 35 بالمائة . وبالنظر إلى ما بحوزتهم من رصيد مالي ، تزداد على نحو متصاعد أيضاً ، قدرة كارتيلات الإجرام على إفساد نزاهة بعض الشركات الشرعية وبعض الادارات الحكومية ، بل وأكثر من هذا هناك احتمال أن تشتري ملكيتها أو تسيطر عليها بالكلية . إن مخاطر هذا الاحتمال تكون أكثر وطأة ، كلما كانت أجهزة الدولة أقل كفاءة . في روسيا وأوكرانيا وفي كولومبيا وهونج كونج تتداخل العمليات غير الشرعية والشرعية
– 8 –
بحيث صار يصعب وضع حد فاصل بينها . فلم يعد بمستطاع أي كان معرفة ما إذا كان هذا الجهاز أو ذاك من أجهزة الدولة يكافح من أجل فرض القانون ، أم أنه يحارب بتكليف من المجرمين أنفسهم لدحر خصومهم . وإيطاليا ، أيضاً ، لم تستطع كسب الجولة في حربها ضد المافيا ، على الرغم من النجاحات الباهرة التي حققتها في إلقاء القبض على بعض أعضائها .
فرأسمال الزعماء القدماء انتقل ، بسلام ، إلى أيدي ورثة مجهولي الهوية ، لا يتعين عليهم أكثر من تحديث تنظيماتهم الارهابية .
فمن مجموع الثروة التي تمتلكها التنظيمات الارهابية الايطالية الأربعة ، وهي ثروة تتراوح ما بين 150 – 200 مليار مارك ، حسبما تقول التقديرات ، صادرت الدولة حتى نيويو 1996 مبلغاً لا يتجاوز 2 ، 2 مليار مارك ، علماً بأن هذه المصادرة ليست مصادرة نهائية ، بل هي مصادرة وقتية لا غير محاموا الدفاع عن المافيا أقاموا دعوى قضائية ضد الدولة يطالبون فيها باسترجاع هذه المبالغ ، بحجة أنها تمثل ثروة تحققت في سياق عمليات مشروعة .
ومن قواعدهم في البلدان المختلفة وبواسطة الحماية التي تقدمها لهم المصارف ، تتغلل شبكات الاجرام شيئاً فشيئاً في الدول الغنية التي لا تزال إدارتها الأمنية والقضائية تعمل بجدارة لا بأس بها على ما يبدو . وفي ألمانيا أيضا لم يعد تنفيذ الاغتيال لحساب طرف ثالث جريمة دخيلة غريبة . وفي سياق حرب استعرت بين عصابات فيتناميّة ، لقي حتفه في برلين تسعة عشر شخصاً في النصف الأول من عام 1996 . في الوقت ذاته تتوارى الحدود في التعامل الاقتصادي بين ما هو شرعي – وما هو غير شرعي . فمن دون علم قادة المشروعات ، يمكن ، بسهولة ، أن تتورط شركات ومصارف محترمة في عمليات غير مستقيمة .
وهكذا أصبحت الدولة والسياسة في كل أرجاء المعمورة في موقع دفاعي بلا مراء . وقانون مكافحة الكارتيلات ، وهو قانون كان في ما مضى من الزمن ركنا يضمن لاقتصاد السوق منع تآمر بعض المشروعات واتفاقها على استغلال المستهلكين ودافعي الضرائب ، قد فقد فاعليته هو الآخر أيضاً . فعملياً لم يعد له تأثير في العديد من الأسواق المعولمة .
ولعل في شركات النقل الجوي وصناعات المواد الكيماوية والمتاجرة بحقوق الافلام والبث التلفزيوني خير شاهد على ذلك . فكيف يمكن التأكد مما إذا كانت التحالفات الأوروبية – الأمريكية الثلاثة التي أنشأتها كل من ، لوفتهانزا وشركة الخطوط
– 9 –
الجوية البريطانية وشركة الخطوط الجوية الفرنسية مع شركائها الأمريكيين ، قد شكلت اتفاقيات احتكارية أم لا ، إذا ما تسببت هذه التحالفات بافلاس جميع النافسين الصغار الناشطين في النقل الجوي عبر الأطلسي ؟ ومَن هو ذاك الذي ينبغي عليه منع عمالقة إعلام ، من قبيل ليوكيرش وروبرت ماردوخ وبرتلزمان ، التعاقد على توزيع مناطق النفوذ ؟ وتقسم سياسة حماية البيئة بالفشل أيضاً . ففي سياق تنافسها على ما تخلفه المشروعات من فرص عمل ضمت غالبية الحكومات بكل خططها الرامية إلى اصلاح البيئة أو أجلت تنفيذ هذه الخطط . ففي صيف عام 1996 أشار غالبية خبراء الجو إلى ان كارثة الفيضانات في الصين وحالة الجفاف ، المستمرة منذ ثلاث سنوات في أمريكا بشدة لا مثيل لها في هذا القرن ، ليست سوى إنذار للكارثة المناخية القادمة تعاظم انحباس الغازات فوق كوكب الأرض . ومع هذا ، لا شيء يحدث ، وحتى تخديرات بعض وزراء البيئة صارت ترن كما لو كانت تتفوه بها شفاه متعبة مرهقة .
إن قائمة فشل الدولة بالتعامل مع فوضوية السوق العالمية تكاد تكون بلا نهاية . إذ شيئاً فشيئاً تفقد الحكومات في ارجاء المعمورة قدرتها على أخذ زمام المبادرة في توجيه تطور أممها . فعلى كل الأصعدة يتضح للعيان الخطأ السائد في نظام التكامل العالمي : فمع أن تدفق السلع ورأس المال قد اتخذ أبعاد عالمية ، إلاّ أن التوجيه والرقابة ظلتا مهمة وطنية . لقد صار الاقتصاد هو المهيمن على السياسة .
وبخلاف التصور الواسع الانتشار في العالم لا يؤدي عجز الدولة المتزايد إلى ضعف عام في جهاز الدولة أبداً ، أو إلى ” نهاية الدولة القومية ” التي تنبأ بها رئيس ماكينزي في آسيا سابقاً الياباني كينيشي أوهامه . فالدولة وحكومتها تظلان المؤسسة الوحيد التي باستطاعة المواطنين والناخبين ، مطالبتها بالسهر على العدالة والنهوض بالمسؤولية وتحقيق التحولات المطلوبة . وكذلك الحال بالنسبة للتصور من أن تشابك الشركات العالمية ذاته قادر على النهوض بمهام الدولة ، فهذا التصور الذي روجت له مجلة نيوزيك الامريكية على صفحة الغلاف وهم بلا شك . فمهما بلغت قدرة المشروعات من القوة والعظمة ، لن يفكر أي منها بتحمل مسؤولية ما يحدث من تطورات وتحولات خارج نطاق مشروعه . فهذا ليس من واجبه أصلاً . إن قادة المشروعات هم أول من يطالب بتدخل الدولة ، إذا ما أحسوا بالضائقة . ومن هنا ، وبدلاً من تطبيق خفض عام في الادارة البيروقراطية ، يتحقق في الكثير من الاصعدة عكس ذلك تماماً فبسبب عجزهم عن تحقيق اصلاحات جذرية ، يجدّ بعض الوزراء والموظفين انفسهم مجبرين على اتباع سياسة تتعامل مع الظواهر وليس مع لب المشكلة .
– 10 –
وتسير ردود فعل السياسة على مخاطر الجريمة على نفس النهج ، ولكن بأساليب غير مأمونة العواقب . فلأنها عاجزة عن النيل من العمود الفقري ، أي رأس مال ” المجرمين الآخرين بقواعد اقتصاد السوق ” ، لذا عثر السياسيون المسؤولون عن الأمن الداخلي في دول العالم المختلفة على ضالتهم في التوسع في أجهزة الشرطة . إنّ التوسع في أجهزة الرقابة يعطينا صورة عن الاتجاه الذي يسير فيه التطور : فإذا لم يعد بالإمكان ، سياسياً ، وضع حد للضغط الفوضوي الناجم عن الأسواق المتكاملة ، فإنه لابد من مكافحة النتائج بأساليب قمعية ، الأمر الذي يعني أن الدولة المتسلطة ستغدو الرد المناسب على عجز السياسة عن التحكم في بالاقتصاد .
إن الاستراتيجية الضرورية الصائبة واضحة وضوحاً جلياً بلا مراء : إنها تكمن في التعاون الدولي . فالعلماء المهتمون وحماة البيئة والسياسيون يطالبون منذ أمد طويل ، بضرورة تشابك السياسات الوطنية عبر كل الحدود الدولة . والدول الصناعية الغنية على وجه الخصوص قامت بالفعل ، بتكثيف تعاونها في السنوات العشر الماضية ، إذ ازداد على نحو كبير عدد المؤتمرات الحكومية الدولية والاتفاقيات العابرة للحدود . وذهبت أوروبا الغربية إلى أبعد من هذا ، إذ أنشأت في سياق معاهدات السوق المشتركة وتأسيس الاتحاد الأوروبي ، مجلساً تشريعياً يسري – مفعوله على العديد من الدول ، وابتداء من مؤتمر البيئة في ريودي جانيرو في عام 1992 وعبر مؤتمر السكان في القاهرة عام 1995 ، وانتهاء بمؤتمر مستقبل المدن في استنطنبول في عام 1996 ، هناك سلسلة طويلة من المؤتمرات التي نظمتها الأمم المتحدة ، تشير إلى أن السياسات الوطنية قد اتخذت ابعاداً دولية متزايدة التأثير . إذ شيئاً فشيئاً يتبلور ، على ما يبدو نوع من التنسيق الحكومي على المستوى العالمي .
أيعني هذا كله أن العالم قد أخذ يقترب من التعاون الشامل الهادف إلى انقاذ الاستقرار الاجتماعي والتوازن البيئي ؟ أبات الأمر لا يحتاج إلى تحركات بسيطة حتى تتحقق الإدارة الشمولية للعالم ؟ إننا حينما نأخذ العدد الهائل للمؤتمرات والمنشورات العلمية الخاصة بهذا الموضوع بعين الاعتبار ، سيبدو لنا الحال كما لو كنا نقف على عتبة عصر جديد . إلاّ أن الأمر ليس كذلك في الواقع ، فالنتائج المتحققة حتى الآن مخيبة للآمال .
– 4 انتهى الفصل الثامن بحمد اللّه وكرمه : –
– 11 –
الفصل التاسع
التوقف عن السير على غير هدى
إلا فلات من المأزق
إلى أي مدى تستوعب الديمقراطية السوق ؟ حتى سنوات وجيزة كان البحث في هذه المسألة أمراً لا طائل منه . ففي المجتمعات الغربية الديمقراطية كان اقتصاد السوق قد حقق لأعداد متزايدة من البشر حياة خالية من معاناة مادية كبيرة . ” السوق زائد الديمقراطية ” ، هذا هو الشعار الذي أنهن في نهاية المطاف دكتاتورية الحزب الواحد في الشرق . ”
ومع هذا ، لا تعني نهاية النظام الشيوعي نهاية التاريخ أبداً ، بل هي تعني التاريخ العظيم في التحولات الاجتماعية . فمنذ ذلك الحين توسعت دائرة اقتصاد السوق العالمية لتشمل أقواماً أخرى نريد عددها على مليار إنسان ، وليتحقق التشابك بين الاقتصادات الوطنية المختلفة بشكل حقيقي . إلاّ أنه تكشف في هذا السياق أكثر بأكثر مصداقية التجارب المرة التي مر بها مؤسسو دول الرعاية الاجتماعية في عصر ما بعد الحرب . الركنين المتلازمين ، اللذين يعملان بانسجام وتواؤم على زيادة الرفاهية للجميع فالأمر الأقرب إلى الحقيقة هو أن هناك تعارضاً مستمراً بين كلا النموذجين اللذين يحتلان أهمية مركزية لدى الدول الصناعية الغربية .
إن مجتمعاً يقوم على أسس ديمقراطية يضمن لنفسه الاستقرار فقط ، حينما يشعر الناخبون ويلمسون أن حقوق ومصالح الجميع تراعي وتؤخذ بعين الاعتبار ، وليس حقوق ومصالح المتفوقين اقتصادياً فقط . من هنا يتعين على السياسين الديموقراطيين أن يبذلوا قصارى جهدهم على تحقيق التوازن الاجتماعي وعلى الحد من الحرية الفردية ، إذا ما كانت في ذلك مصلحة المجتمع . في الوقت ذاته ، لابد من توافر الحرية للمشروعات في اقتصاد السوق ، إذا ما أُريد لها أن تنمو وتزدهر . فالتطلع إلى تحقيق الربح هو المحفز الذي يحرّك تلك القوى الضرورية لزيادة الرخاء عن طريق الابتكارات والاستثمارات ولهذا السبب يحاول ، منذ القدم ، أرباب المشروعات والمساهمون الاعلاء من حقوق أصحاب رأس المال . ويكمن الانجاز العظيم الذي حققته السياسة الغربية في عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية ، في المحاولة الناجحة للموازنة بين كلا القطبين . وفي الواقع كانت هذه الموازنة هي الفكرة التي قام عليها اقتصاد السوق المتكفل بالرعاية الاجتماعية ، الذي ضمن لألمانيا الغربية الاستقرار والسلام طيلة أربعة عقود من السنين .
– 1 –
إلاّ أن هذا التوازن ذاهب ادراج الرياح في الوقت الراهن . فتدهور مقدرة الدول على توجيه السوق العالمية يؤدي إلى أن تكون المسيرة في مصلحة الأثرياء في المقام الأول . وبتجاهل غريب يتناسى مهندسو الاقتصاد الجديد المعولم الأفكار التي سار على ضوئها أولئك الذين حققوا لهم أساس نجاحهم . فهم يعتقدون أن التخفيض المستمر للأجور وزيادة ساعات العمل وخفض المساعدات والمنح الحكومية للمحتاجين ، هي السبيل الصحيحية ” لتهيئة ” الشعوب لمواجهة المنافسة المعولمة . ولعله تجدد الاشارة هنا إلى أن الولايات المتحدة الامريكية قدسات خطوة أبعد في هذا السياق ، إذ أنها تخلت كلياً عن نظام الرعاية الاجتماعية . وفي منظور غالبية قادة المشروعات والسياسين الداعين إلى تحقيق النظام الليبرالي ، لن يكون الاعتراض على هذا البرنامج محاولة لا طائل منها للوقوف في وجه تطور متحقق لا قدرة لأحد على وقفه . فحسبما يقولون فإن المعولمة مسيرة حتمية ، لا يمكن مقارنتها إلاّ بالثورة الصناعية فقط ، وبالتالي ، فمن يعترضها ، سينهزم في نهاية المطاف ، كما انهزم أولئك الذين أرادوا الوقوف في وجه الماكينة في بريطانيا في القرن التاسع عشر .
|
إن الشؤم كل الشؤم سينزل علينا فيما لو كان أنصار العولمة محقين في هذه المقارنة . فعصر الثورة الصناعية كان أشد مراحل التاريخ الأوروبي بشاعة . فحينما توحدت صفوف الإقطاعيين القدماء والرأسماليين الجدد استطاعوا معاً ، وبما لدى الحكومة من وسائل عنف غاشمة ، تقويض القيم الاجتماعية القديمة ، والقضاء على قواعد النظام الحرفي وعلى الحقوق العرفية ، التي كانت تضمن للفلاحين حداً أدنى من المعيشة على الأقل ، نعم حينما استطاعوا انجاز هذا كله ، لم يتسببوا في بؤس وشقاء ملايين وملايين كثيرة من بني البشر فحسب ، بل كانوا قد تسببوا أيضاً في إندلاع حركات مضادة ما كانت أممهم قادرة على التحكم فيها ، حركات أدت قواها التدميرية في بادئ الأمر إلى انهيار نظام التجارة الدولية الحرة الحديث العهد ، وإلى حربين عالميتين وإلى ارتقاء الشيوعيين إلى سدة الحكم في الشق الشرقي من أوروبا في نهاية المطاف .
إنّ الآثار التي تركتها قوانين السوق التي تتمتع بالحرية الكاملة التي أدت إلى تكاثر موجات الإفلاس بين المشروعات وتزايد حركات التمرد والعصيان بين أولئك الذين
– 2 –
الذين يعانون من الفاقة ، اضطر الحكام أكثر فأكثر إلى الحد من حرية قوى السوق فهم قمعوا في البداية حركات التمرد العمالية المختلفة فقط . لكنهم راحوا ، في وقت لاحق ، يحمون السوق من مغبة المنافسة الزائدة عن الحاجة ، ومن مغبة المنافسة الاجنبية على وجه الخصوص ، الأمر الذي أجبر البلدان الأخرى على الرد بالمثل . ومن هنا لم تكن التجارة الحرة ، بل ” السياسة الحمائية ” هي المسألة اليومية التي واجهت الحكومات منذ نهاية القرن الماضي ومطلع القرن الحاضر على أدنى تقدير ، ومنذ العشرينيات من هذا القرن بكل تأكيد . ومن دون إرادة منها تسببت الحروب التجارية والنقدية التي سنتها هذه الحكومات بتصاعد بيّن ، في اندلاع الركود الكبير الذي عصف في الثلاثينيات بالاقتصاد العالمي الذي اتصف آنذاك أيضاً بتشابك عظيم .
ولنفس هذا الوهم ، وهم التصور الذي عم الحكام المؤمنين بالاقتصاد الليبرالي في القرن التاسع عشر والذي كان مفاده ، أن من الأفضل لهم ترك مجتمعاتهم تدار من قِبل نظام سوقي دولي الأبعاد ينظم نفسه بنفسه والذي أدى إلى تدمير الاستقرار الاجتماعي ، لنفس هذا الوهم يخضع اليوم أيضاً ، كل أولئك الذين كتبوا على راياتهم إضعاف دولة الرعاية الاجتماعية وتحرير قوى السوق دونما قيد أو شرط . إلاّ أن هذه ” الأصولية المؤمنة بقوى السوق ليست سوى أميّة ديموقراطية ” ، كما يقول عالم الاجتماع ” أولريش بيكر ” عن الشغف الذي يكنه أولئك المجددون المزعومون ، الذين لا يتعظون بدروس التاريخ ، لقوانين العرض والطلب . فترويض الرأسمالية من خلال حقوق الإنسان الاجتماعية والاقتصادية ، لم يكن منة خيرية يمكن للمرء أن يتخلى عنها عند الضيق والشدة ، بل كان الرد المناسب على التوترات الاجتماعية العنيفة وفشل الديموقراطية في أوروبا إبان عقد العشرينيات .
ويواصل بيتر تحليله قائلاً : ” إن أولئك البشر الذين يتحقق لهم الحصول على سكن وعلى فرصة عمل مضمونة ، أي على مستقبل مأمون الجوانب ، هم فقط أولئك المواطنون الذين يتنبون الديموقراطية ويضفون عليها الحيوية المنشودة . إن كلمة الحق الصادقة تصرخ بأعلى صوتها : مِنْ دون أمن من غوائل الدهر المادية ، لا حرية سياسيّة . أي لا تتحقق الديموقراطية ، أي سيبقى الجميع مهددين بأن تحكمهم نظم وإيديولوجيات تسلطية جديدة ” .
على هذا النحو تخلق الدول التي لا تزال تنعم بالرفاهية حتى الآن توترات اجتماعية متصاعدة ستعجز ، عما قريب ، هذه الدول والحكومات عن التخفيف من شدتها . فإذا لم تدرأ هذه المخاطر ستعجز ، عما قريب ، هذه الدول والحكومات عن التخفيف من شدتها . فإذا لم تدرأ هذه في الوقت المناسب ، فسيتشكل حتماً رد الفعل الاجتماعي المضاد الذي سبق الحديث عنه .
– 3 –
هذا وإنه لأمر بيّن أن رد الفعل هذا سيحمل في ثناياه ملامح قومية معادية لحرية التجارة الدولية .
وها هو بيرسي بارنفيك ” رئيس عملاق إنتاج الالات والمكائن ( ABB ) ينضم إلى ” تيل نيكر ” رئيس اتحاد الصناعيين الألمان ، بل يذهب برأيه ابعد منه ، حينما راح يقول محذراً ” اذا تجاهلت المشروعات التحدي الذي يفرزه الفقر والبطالة ، فستؤدي التوترات بين الاغنياء والفقراء إلى تصعيد في العنف والإرهاب ” . كما رأى ” كلاوس شغاب ” مؤسس ورئيس المنتدى الاقتصادي في دافوس ، رأى العلامات التي تلوح في الأفق بلغت – حسبما يقول محذراً – ” مستوى صار يشكل ، على نحو لا مثيل له أبداً ، تحدياً لمجمل البناء الاجتماعي الذي تقوم عليه الديموقراطية ” وأن ” مشاعر الضياع والخوف ” المتزايدة الانتشار توحي بنذر انتكاسة مفاجئة لا يمكن السيطرة عليها ، إنها حركة مضادة ” يتحتم أخذها مأخذ الجد ” ويمضي قائلاً : ” إن على قادة السياسة والاقتصاد أن يبينوا ، أن الرأسمالية المعولمة الجديدة ستحقق النفع للغالبية أيضاً ، وليس لما فيه مصلحة قادة المشروعات والمستثمرين وحسب ” .
إلاّ أن المؤمنين بقوى السوق غير قادرين على إقامة هذه البينة أبداً . إن من السهولة جداً اثبات أن تعميق تقسيم العمل بين الدول يساعد على زيادة الانتاج العالمي . فتكامل الاسواق العالمية يؤدي من وجهة النظر الاقتصادية إلى جدارة عظيمة جداً . إلاّ أن عجلة الاقتصاد المعولم لا تتمتع بهذه الجدارة بالنسبة لتوزيع الثراء المنتج ، إذا لم تتدخل الدولة . فعدد الخاسرين سيتفوق تفوقاً كبيراً على عدد الرابحين . ولهذا السبب بالتحديد لن يكون هناك مستقبل مشرق للسياسة الماضية قدماً حتى الآن على خلق تكامل معولم . فالسير على درب التجارة العالمية الحرة لن يستمر عهداً طويلاً دون تكافل اجتماعي ترعاه الدولة .
إن الخطر الذي يفرزه التطور الفوضوي السائد في الاسواق عابر الحدود ، هو نفس الخطر الذي يخيم على هذه الدول فيما مضى من الزمن . فإنذار انهيار عالمي الأبعاد في البورصات يلوح في الافق ، وهو أمر يعرفه أفضل من غيرهم المقامرون بالمليارات في أسواق المال المتشابكة عالمياً بفضل التكنولوجيا الالكترونية . ومن جديد تصارع الاحزاب الديموقراطية في بلد تلو الآخر سكرات الموت ، وذلك لأنها لم تعد تعرف أين وكيف تستطيع أن تأخذ بيدها زمام المبادرة والسيطرة على الأمور . فإذا قصرت الحكومات برامجها على مطالبة شعوبها بتقديم التضحيات لمصلحة أقلية من السكان لا غير ، فإن على هذه الحكومات أن تعلم أنها ستخسر الانتخابات إن عاجلاً أو آجلاً .
– 4 –
ومع كل زيادة في البطالة أو تخفيض في الأجور تزداد أيضاً ، مخاطر أن ينتهج السياسيون الحيارى سياسة تحد من حرية التجارة الخارجية ، وأن يتسببوا في اندلاع حرب تجارية وتنافس على تخفيض أسعار صرف العملات ، مع كل ما تنطوي عليه هذه الخطوة من ردود فعل اقتصادية فوضوية وخسارة فادحة في الرفاهية بالنسبة لكل الشعوب ولا يتوقف تحقق هذه المخاطر على فوز القوميين المتطرفين ، أو مَن سواهم من الغلاة في الانتخابات أبداً . فالحكام الذين لا يزالون يؤمنون بحرية التجارة سيتحولون بين ليلة وضحاها ، إلى حماة للاقتصاد الوطني من مغبة المنافساة الاجنبية ، إذا رأوا أن في ذلك كسباً لأصوات الناخبين . إننا لا نزعم بأن كله سيتحقق بكل تأكيد ، بل نقول فقط أن الأمور يمكن أن تسير على هذا النحو فنحن نمتلك اليوم ميزة عظيمة ، أعني التجربة التاريخية التي تشهد على أن الإفلات من مصيدة السوق العالمية من خلال مساع وطنية مستقلة أي بمعزل عن مساعي باقي الأمم – أمر غير ممكن . ولهذا السبب يتعين علينا التفكير بأساليب أخرى تنسجم مع ما نهدف إليه . فمن يريد أن يتلافى العودة إلى المشاعر القومية [ العدوانية ] في الشؤون الاقتصادية ، يتعين عليه أن يبقى مصراً على تهذيب السوق عابرة الحدود من خلال نظام حكومي ، يرعى التكافل الاجتماعي ويضمن إشراك جميع المواطنين في ثمار الارتفاع العظيم في الجدارة الاقتصادية . إن هذا فقط هو الضمانة الأكيدة لاستمرار التأييد الواسع الذي لا يزال يكنه المواطنون لنظام السوق العالمية المفتوحة .
ويخدع نفسه بكل تأكيد كل من يعتقد أن انتخابات الأحزاب الصحيحة في ألمانيا أو فرنسا أو في سواهما من البلدان الأوروبية ، سيعيد – بحد ذاته ، وبقرار سياسي – الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي إلى هذه البلدان . فليس هناك مجال للعودة إلى عصر الستينيات وأوائل السبعينيات ، حينما كانت الحكومات الوطنية تتمتع باستقلالية نسبّية تمكنها من فرض ضرائب تضمن تحقيق التوزيع العادل للثروة بين أبناء أممها ، وتتيح لها المجال لأن تخفف من وطأة التقلبات التضخميّة والانكماشية عن طريق التخطيط الحكومي للاستثمار ، فالتشابك الاقتصادي قطع شوطاً كبيراً . إن الأمم تسير بأقصى السرعة في تنافسها الكوني على تحقيق حصة مناسبة في السوق العالمية ، الأمر الذي يعني أن عودة أية أمة من هذه الأمم إلى الانكفاء على الداخل سيكون كارثة على هذه الأمة بلا مراء .
– 5 –
|
علاوة على هذا لا يشكل الانكفاء على الداخل الهدف المطلوب أصلاً . فالتكامل الاقتصادي العالمي ينطوي على فرص عظيمة بكل تأكيد . إن الارتفاع الخيالي في الانتاجية يمكن أن يستخدم لتحرير مزيد من الأفراد من الفقر والفاقة ، لتمويل الاصلاحات اللازمة للحد من الاضرار البيئية التي يفرزها اقتصاد التبذير في الدول الثرية . الأمر المهم في هذا السياق هو أن يوجه التنافس على السوق العالمية ذو الابعاد المدمرة حتى الآن ، إلى ما يخدم المعايير الاجتماعية والديموقراطية وإلى ما يحول عولمة اللاعدالة إلى مساواة شمولية .
إن كل هذه المقترحات تقوم على فرضية واحدة غير متحققة في الوقت الراهن : حكومات قادرة على اتخاذ زمام المبادرة وإجراء هذه الاصلاحات للوقوف في وجه الكونية الجديدة ، من دون أن تعاقب على هذه الاصلاحات بهروب رؤوس الأموال . وبما أن الولايات المتحدة الامريكية هي القوة الاقتصادية والعسكرية العظمى في العالم ، لذا فإنها الامة الوحيدة القادرة على فرض تحول بهذا الاتجاه بمحض إرادتها . بيد أن التطلع إلى أن تتخذ مبادرة أمريكية تروض قوى السوق اجتماعياً أمر غير مبرر أصلاً . والأمر الأكثر توقعاً هو أن تصعّد الحكومات الامريكية مستقبل من فرض حلول مظهرية تعزز حماية تجارتها الخارجية ، محاولة بذلك تحقيق أفضليات تجارية لبلدها على حساب الآخرين . ولأن دولة الرعاية الاجتماعية الامريكية قد أضحت أطلالاً خربة ، لا تحمي مواطنيها من موجات الأزمات المندلعة في السوق العالمية ، لذا من المتوقع جداً أن يرتد عن العولمة ذلك البلد على وجه الخصوص ، الذي حمل العالم على الخضوع لقوى السوق خضوعاً مطلقاً . فالعمل الامريكي الشمالي لا يخضع ، فقط بصفته شرطي العالم المسلح ، لنزوات مفاجئة دائماً وأبداً ، بل هو يخضع لهذه النزوات بصفته حامي حمى التجارة العالمية الحرة أيضاً ” .
|
ولمواجهة هذه النزوات لا مناص لدول أوروبا من اتخاذ موقف موحد ، فاتحاد سياسي ، يرتكز على عملية موحدة وعلى تاريخ مشترك يتخطى مآسي الماضي ، سيكون ذا ثقل في لعبة القوى في السياسية العالمية لا يقل عن ثقل الولايات المتحدة والقوى العظمى القادمة ، وهي الصين والهند .
– 6 –
إن أوروبا الموحدة فقط ، هي القادرة على فرض شروط جديدة على الرأسمالية المعولمة السائدة الآن ، شروط تفي بمستلزمات التوازن الاجتماعي والتحولات المطلوبة للحفاظ على البيئة .
إن هناك ما يشير إلى توافر كل بلدان أوروبا الغربية تقريباً على الطاقة الاجتماعية الكامنة ، لتحقيق الاصلاحات الديموقراطية المضادة لدكتاتورية الأسواق ، ولمواجهة برامج الحركة اليمينية الجديدة الرامية إلى هدم عرى التضامن الاجتماعي . وحتى الآن لم تتكون بعد ، في أوروبا حركة سياسيّة تجسد هذه الطاقة الاجتماعية . ولكن ، هل يتعين أن تستمر الحال على هذا المنوال ؟ إن وهن الخيار الاوروبي لا يكمن في عدم مساندة الناخبين لهذا الخيار ، إنما يكمن في تشتت هذه المساندة وبعثرتها في مبادرات وطنية وإقليمية ومحلية . ولا ريب في أن أي آفاق اصلاحية جديدة ، لن تكون جديرة بهذه التسمية في عصر الاقتصادات عابرة القومية ، إذا ما تقوقعت في داخل حدود الدولة . فلم لا يكون بالامكان جمع شمل الملايين من أولئك المواطنين الراغبين في العمل السياسي ، فتتوحد صفوفهم في إطار تحالف يعكس المنظور الأوروبي ؟ إن الاتحاد الأوروبي هو ملك لنا نحن جميعاً ، وليس ملك المواطنين والتكنو قراط .
” إن العالم يتجه دونما هوادة إلى تلك المأساة ، التي ستقف حيالها الأجيال القادمة من المؤرخين حيارى يتساؤلون عن سبب عدم تدبير اجراء ما بحقها في الوقت المناسب . ألم تلمس الطلائع الاقتصادية والسياسيّة العواقب الوخيمة التي أفرزها التطور الاقتصادي والتكنولوجي ؟ وما هي العوائق التي حالت دون اتخاذهم الخطوات اللازمة لتفادي أزمة شمولية ” هذا ما كشفه ” إيتان كابشتاين ” الاقتصادي الامريكي ومدير مجلس العلاقات الخارجية في وشنطن .
بالنسبة لمواطن أوروبا العتيدة فهذا يعني أن عليهم أن يقرروا أي عقيدة من العقيدتين المتوارثتين في أوروبا ، هي التي ستحدد طبيعة أوروبا مستقبلاً : العقيدة الديمقراطية ، التي اندفعت شرارتها الأولى في باريس في عام 1789 [ الثورة الفرنسيّة ] أو العقيدة التي انتصرت في برلين في عام 1933 . [ تسلم الحزب النازي للحكم ] إن الخيار بين هذه العقيدة أو تلك يتوقف على الأوروبيين أنفسهم ، فهم الناخبون ، الذين لا تزال غالبيتهم العظمى ديموقراطية العقيدة .
– 7 –
فإذا اخذوا بزمام المبادرة من أيدي المخدوعين الذين يعبدون الطريق أمام الحركة اليمنية الجديدة بإيمانهم المطلق بالسوق ، إنما يكونون قد اثبتوا أن أوروبا قادرة على تحقيق ما هو أفضل .
عشر أفكار تفوق قيام مجمتع الخمس
الثري وأربعة الأخماس الفقراء
أولاً : اتخاذ أوروبي ديمقراطي قادر على النهوض بالتحولات المطلوبة :
إن انتخاب مفوضبية الاتحاد الاوروبي من قبل البرلمان الأوروبي ، ومناقشة البرلمانات الوطنية لكل قانون أوروبي بمشاركة متحدثين اجانب ، ستضفي الحيوية على الديمقراطية الأوروبية وستخلق تحالفات سياسية تتخطى الحدود الوطنية في تحقيق مراميها الاصلاحية
ثانياً : تقوية المجتمع المدني وتعزيز مشاعره الأوروبية :
إن انتخاب مفوضية الاتحاد الأوروبي من قبل البرلمان الأوروبي ، ومناقشة البرلمانيات الوطنية لكل قانون أوروبي بمشاركة متحدثين اجانب ، ستفضى الحيوية على الديمقراطية الأوروبية وستخلق تحالفات سياسية تتخطى الحدود الوطنية في تحقيق مراميها الاصلاحية .
ثانياُ : تقوية المجتمع المدني وتعزيز مشاعره الأوروبية :
كلما كانت الخاطر التي تفرزها الفروقات المادية المتنامية أعظم على تماسك المجتمعات ، زادت أهمية أن يدافع المواطنون أنفسهم عن حقوقهم الديموقراطية الأساسية وأن يعزّزوا التضامن الاجتماعي ، وسيكون لملايين المواطنين الناشطين من أجل هذه الأهداف تأثير أعظم ، متى ما نظموا أنفسهم وتضافرت جهودهم عبر الحدود الوطنية .
ثالثاً : الاتحاد النقدي الأوروبي :
إن توحيد الصفوف هو العامل الأوحد الذي يضفي القوة على الجهود الرامية إلى التحكم بالاقتصاد والمعولم والسيطرة عليه . إن القضاء على التجزئة النقدية الأوروبية عن طريق خلق ، الأويرو ، العملة الاوروبية الموحدة ، يمكن أن يقلب رأساً على عقب توزيع القوى السائد حالياً بني أسواق المال والدول الأوروبية . إذ ستتقر أسعار الصرف وسيكون بالامكان تحديد القيمة الخارجية للبضائع الأوروبية في الآسواق الآسيوية والامريكية ، من خلال الاتفاق بين المستوردين خلف الحدود ، وليس من خلال إدارة المصرف المركزي الامريكي وتجار المال في لندن ونيويورك أو سنغافورة . ولو نجحت أوروبا فعلاً في خلق الأويرو القوي ، أي أويرو يحظى بتداول واسع ، فسيتوافر الاتحاد الأوروبي عندئذ على القوة الاقتصادية الكافية ، التي ستمكنه من الاصرار على منع هروب رؤوس الأموال إلى الواحات الضريبية ، الأمر الذي سيجبر أصحاب الثروات على دفع الضرائب المقررة على ما يحصلون عليه من فوائد .
– 8 –
رابعاً : توحيد القوانين الضريبيّة الأوروبية :
إن السياسة الضريبية هي مفتاح التوجيه الديمقراطي للتطور الاقتصادي ، من دون اللجوء إلى التدخل في حركة السوق بأساليب بيروقراطية مباشرة . إلاّ أن الاقتصاد الأوروبي قد صار متشابكا تشابكاً شديداً جداً ، بحيث لم يعد هذا التوجه الديمقراطي ممكنا إلاّ في الإطار الأوروبي . من ناحية أخرى أصبح الاطار الأوروبي ضرورة حتمية ، وذلك لأن هذا الاطار هو الضمانة الوحيدة ، لإنهاء التنافس السائد في داخل الاتحاد الأوروبي على فرض أدنى الضرائب على المشروعات الصناعية وعلى استقطاب أصحاب الثروات من دافعي الضرائب .
خامساً : فرض ضريبة مبيعات على المتاجرة بالمشتقات ( ضريبة توبين ) : وعلى القروض الأوروبية الممنوحة إلى مصارف غير أوروبية :
يمكن خفض الاضرار الاقتصادية ، الناجمة عن تقلبات أسعار الصرف بفعل المضاربة ، من خلال الضريبة التي اقترح الاقتصادي الأمريكي جيمس توبين فرضها على المتاجرة بالعملات الاجنبية وعلى القروض ولأن هذه الضريبة ستعوق العمليات الهادفة إلى جني الارباح من خلال الفروقات السائدة في مستويات أسعار الفائدة بين العملات المختلفة ، لذا سيكتب المصرف المركزي الأوروبي الاسقلالية الضرورية لأن يحدد مستويات أسعار الفائدة ، بما يتلاءم وطبيعة الحالة الاقتصادية الأوروبية من دون الإذعان للسير على هدى الاملاء الامريكي . من ناحية أخرى تقدم الضريبة على المتاجر بالعملات الاجنبية موارد مالية ذات أهمية قصوى ، في دعم تلك البلدان الأوروبية الجنوبية التي لا تستطيع مواكبة التطورات السائدة في الأسواق المعولمة .
سادساً : معايير اجتماعية وبيئية دنيا للتجارة الخارجية :
حينما تجيز حكومات بعض البلدان النامية عمل الأطفال والتدمير الشديد للبيئة وأجور عمل متدنية على نحو شديد ، بحيث لا يمكن فرضها إلاّ من خلال إنتهاج أساليب قهرية ضد النقابات العمالية ، رغبة منها في تحقيق أقصى الارباح التجارية لحفنة ضئيلة من المواطنين الناشطين في السوق العالمية ، إنما تدمر في الواقع ، موارد دولها البشرية والطبيعية .
– 9 –
ولو فرضت منظمة التجارة العالمية ( WTO ) عقوبات على مثل هذه البلدان ، التي يخترق الحكام فيها على نحو بين – وباعتراف المؤسسات التابعة للأمم المتحدة – حقوق الانسان الديمقراطية والاقتصادية ، لأجبرت الطلائع غير الديموقراطية على أدنى تقدير ، على انتهاج سياسة تنموية تحقق التقدم لشعوبها فعلاً .
سابعاً : إصلاحات ضريبية ذات ابعاد أوروبية لحماية البيئة :
يمكن أن يؤدي فرض ضريبة على استهلاك الموارد الطبيعية إلى دعم الصناعات المنتجة للبضائع كثيفة العمل ، وإلى الحد من اتساع رقعة نقل البضائع بالشاحنات ، على الرغم من كل ما ينطوي عليه هذا النقل من نتائج مدمرة للبيئة . إن هذه الضريبة ستفرز من أهمية العمل البشري وستجعل استخدام التكنولوجيا المتقدمة العظيمة الاستهلاك للطاقة أقل جدوى اقتصادية أضف إلى هذا أن إعادة توزيع العبء الضريبي سيقدم فرصة لخفض اعتماد الدوله على دخول الطبقة العاملة في تمويل ما تقدم من رعاية اجتماعية .
ثامناً : فرض ضريبة أوروبية على السلع الكمالية :
في ظل التنافس العالمي لم يعد بالإمكان فرض ضريبة على أرباح رأس المال تفوق المتوسط العالمي من دون عواقب وخيمة . فضريبة من هذا القبيل ستؤدي إلى رفع أسعار المنتجات والخدمات الأوروبية ، وإلى هروب المستثمرين إلى خارج البلد فقط . ولكن ، واذا كنا نريد برغم هذا ، إجبار الراغبين من العولمة على تحمل حصتهم العادلة في تمويل المهام والواجبات المناطة بالدولة ، عندئذ سيكون رفع الضريبة الاستهلاكية ، على السلع الكمالية بديلاً مناسباً ، أعني فرض ضريبة يبلغ معدلها 30 بالمائة على جميع السلع التي يتنعم بها الأثرياء شراء الأراضي والمساكن لا نعرض السكنى بل لجني الارباح والسيارات الفارهة والسفن الخاصة والحلي الثمينة وعمليات تجميل الوجه وما سوى ذلك .
تاسعاً : النقابات العمالية الأوروبية :
يكمن أكبر تقصير ارتكبّه قادة أوروبا النقابيون في إهمالهم تأسيس تنظيم نقابي صلب ومؤتمر ، تنضوي تحت لوائه جميع نقابات الاتحاد الأوروبي .
– 10 –
إن هذا هو السبب لعدم وجود مجالس عمالية أوروبية قادرة على التحرك ، ولهذا السبب صار بالإمكان ابتزاز بعض العاملين في المصانع بالعاملين الآخرين في البلدان الأخرى . فلو تخطى ممثلوا العمال تنظيماتهم الهزيلة ووحدوا صفوفهم أوروبيا ، لأنهوا هيمنة اللوبي الصناعي الجيد التنظيم على القوانين المشرعة في بروكسل ، الأمر الذي سيضمن أن يقوم الاتحاد الأوروبي بانتهاج السياسة الاجتماعية اللازمة .
عاشراً : التوقف عن تحرير الاقتصاد من دون تعزيز للرعاية الاجتماعية :
أن إنهاء احتكار الدولة لقطاعي الاتصالات وتوليد الطاقة الكهربائية ، وما رافقه من مبادرات أدت إلى فتح الأسواق ، التي كانت بالحماية حتى فترة وجيزة في وجه المنافسة الدولية ، قد أدى إلى نتائج وخيمة بالنسبة لسوق العمل . فإذا لم يكن هناك ما يضمن لنا أننا قادرون على خلق فرص عمل جديدة ، بنفس المقدار الذي سنحرزه بفعل عملية التحرير الاقتصادي على أدنى تقدير ، فسيكون من الأفضل لنا أن نرجئ جميع عمليات فتح الأسواق للمنافسة الدولية إلى حين انخفاض البطالة مجدداً .
– 4 انتهى الفصل التاسع والأخير بحمد الله وفضله : –
– 11 –