كنت قد كتبت مقالًا عن إيمان جزءاً كبير من الفلسطينيين بأنّ النصف الثاني من العقد الثامن من عمر دولة إسرائيل سيكون بداية النهاية لهذه الدولة، ولكن تبيّن لي أنّ الإسرائيليين هم أيضاً يؤمنون بشكل أو بآخر بهذا الاعتقاد، وخصوصًا قيادات النخبة السياسيّة الإسرائيلية الذين يأخذون هذا الإيمان/ الهاجس على محمل الجد، ويحسبون له كل حساب. ربما كان أول من تحدث في هذا المعنى واستحضره من رؤساء وزراء إسرائيل، هو بنيامين نتنياهو والذي زعم أنّ بقاءه في رئاسة الوزراء هو الضمانة الوحيدة لاستمرار اسرائيل بعد عقدها الثامن وتخطيها قرناً من الزمان، خلافاً لتاريخ اليهود الذين لم تدم لهم دولة فيه أكثر من ثمانية عقود.
ثم كان خطاب نفتالي بينيت، رئيس وزراء إسرائيل الحالي، في حملته الانتخابية عام 2020م والذي ردد فيه نفس المضامين وحضّ الناخبين اليهود على الوقوف خلف تحالف أزرق أبيض الذي يقوده، من أجل تجاوز عقدة العقد الثامن وضمان استمرار دولة إسرائيل بعد عامها الثمانين، وها هو أيهود بارك رئيس وزراء إسرائيل الأسبق يكتب ليؤكد نفس العقدة، عقدة الخوف على البقاء، علماً بأنّ هؤلاء الأشخاص المذكورين ليسوا مجرد حاخامات يؤمنون بخرافات دينية لا صلة لها بالواقع، بل هم قيادات إسرائيل السياسيّة.
السؤال الهام هنا هو لماذا هذا الخوف من المستقبل رغم كل مظاهر القوة التي كانت إسرائيل تحرص على إظهارها بشكل مباشر أو غير مباشر؟ لماذا هذا الخوف رغم كل هذا الدعم الأمريكي والأوروبي المالي والعسكري والقانوني، والذي جعل إسرائيل كيانًا فوق القانون وفوق النقد، وحماها في المؤسسات الدوليّة ومجلس الأمن والإعلام العالمي؟ لقد حصلت إسرائيل على منظومات تسليحيّة أمريكية لا وجود لها سوى في الولايات المتحدة الأمريكية ولديها أكبر مخزن أسلحة أمريكي تحت تصرفها، كما إنّها تتمع بأفضلية عسكرية لا تتمتع بها أية دولة في المنطقة، وهي القنبلة النووية.
طالما تغنّى زعماء إسرائيل باختراق إسرائيل للنخبة السياسية العربية واستقطابها للدول العربية المؤثرة كمصر، والمغرب، والإمارات، والأردن وغيرها، كما أنّها نجحت تحقيق الإخضاع الكامل للسلطة الفلسطينية وتحويلها إلى أداة أمنية في يدها، فضلاً عن دور إسرائيل في إحداث الفتن والقلاقل في الدول العربية حولها، كالعراق، وسوريا، والسودان، وهي التي سعت إلى فرض حصار اقتصادي خانق على إيران، بذريعة عملها على انتاج قنبلة نووية يمكن أن تهدّد أمن إسرائيل، وعملت على تحويل إيران إلى دولة منبوذة في المجتمع الدولي.
مع كل ذلك فإنّ إسرائيل ما زالت تعاني من عقدة خوف مزمنة، إنّها عقدة تنعكس في الخطاب العام لمثقفيها وصحفيها وأكاديميها ومفكريها وخطابات رؤساء وزرائها، وخوف مواطنيها من المستقبل والذين يرون في ازدواج الجنسية مركب نجاة عند اقتراب كل خطر. إنّهم يفلسفون هذا الرعب الوجودي من المستقبل إستنادًا على التاريخ اليهودي، بل يحوِّلونه إلى ظاهرة كونية عابرة للحضارات والقرون، كما فعل أيهود باراك قبل أيام على صفحات يديعوت أحرنوت، لأنّهم -على ما يبدو- لا يرون العالم خارج تجربتهم الذاتيّة المحدودة.
نراهم عند كل منعطف تاريخي، أو حدث هام على مستوى الخارج أو الداخل، ينخرطون في نقاش حول مستقبل بقاء إسرائيل. إنّه موقف نادر، إذ لا تكاد تجد دولة في العالم كله، تناقش فكرة بقائها أو استمرارها، فقد يخسر زعيم ما، أو حزب ما الحكم، وقد تتحول الدولة من نظام إلى آخر أو من شكل إلى آخر، لكن لا يخطر ببال نخبتها أو ببال مواطنيها أنّ الشعب والوطن والدولة قابلة للاندثار. لقد رأينا الاتحاد السوفياتي يتحطم، ولكن شعوبه بقيت وتحوّلت الدولة إلى كيانات أصغر، وتحوّلت من نظام إلى آخر، لكنّها لم تفنى. لقد شهدنا كيف تجزأت يوغوسلافيا إلى قطع أصغر، لكن الشعب والثقافة والأرض باقون. صحيح أنّ ألمانيا تعرضت لضربة هائلة في الحرب العالمية الثانية وتجزأت إلى جزئين ولكنّها استعادت عافيتها في النهاية وحققت الوحدة، لكنّ الحال في إسرائيل ليس على هذا النحو إطلاقاً.
لقد قدّم رئيس وزراء إسرائيل السابق وقائد جيشها والجنرال الأكثر تكريماً فيها، إيهود باراك خطر الانقسام الداخلي واعتبره الخطر الأعظم الذي يتربص ببقاءها، وهوّن جميع المخاطر الخارجية التي تحوق بإسرائيل، فزعم أنّ عمليات المقاومة الفلسطينية مؤلمة لإسرائيل لكنّها من وجهة نظره لا تمثل تهديداً وجودياً حقيقياً، وحتى طموحات إيران النووية ليست تهديداً وجودياً، فهي حتى وإن نجحت بانتاج القنبلة النووية فلن تستطيع استخدامها ضد إسرائيل، وسيكون هذا السلاح النووي المفترض مجرد سلاح للردع لا أكثر.
لا شك أنّ هواجس إيهود باراك لم تأت من فراغ، إذ أنّ إسرائيل كيان زاخر بالتناقضات، والتي حرص شخص مثل نتنياهو على تقديمها على أنّها نوع من التنوع الحميد المنضبط على غرار الحاصل في الولايات المتحدة الأمريكيّة، ولكنها في الحقيقة تناقضات شديدة الخطورة، فهي خليط غير متجانس من العرقيات والثقافات والولاءات والإيدولوجيات، حتى الدين اليهودي الذي يجتمعون تحت رايته فيه من تضارب المدارس والمصالح ما هو كفيل بإشعال نار حرب دينية داخلية يمكن أن تحوّل إسرائيل إلى رماد، ولقد رأينا مصداق بعض من ذلك من خلال ملاسنة وثقتها الكاميرات بين حاخامين إحدهما من الطائفة الحريدية وآخر من الصهيونية الدينية، عندما اتهم الأول الثاني بأنّه المسؤول عن عملية إلعاد التي نفذها فلسطينيان ضد جمع من المستوطنين، وقال أن استغلالهم للدين خلافاً للتوراه واستفزازاتهم المستمرة لمشاعر المسلمين باقتحامهم المسجد الأقصى هو ما يحرّض الفلسطينيين ويدفعهم للانتقام وقتل اليهود، وأنّهم هم من يدفعون ثمن أخطاء الصهيونية الدينية.
إنّ حالة التناحر السياسي والديني هي نفسها التي تهدد اليوم بسقوط حكومة بينيت، وإجراء انتخابات جديدة يمكن أن تعمِّق حالة الانقسام والاستقطاب الداخلي، وستكون الانتخابات –في هذه الحالة- هي الرابعة التي تجري خلال مدة سنتين، ما يعني أنّ معدل عُمر الحكومة الواحدة لا يزيد عن ستة أشهر، وهو مؤشر على فشل منظومة الحكم في إسرائيل وإفلاس الطبقة السياسيّة الإسرائيلية.
اغتال الجيش الإسرائيلي صباح الأمس -كما فعل مرات لا تحصى من قبل- الإعلامية شيرين أبو عاقلة والتي تحمل الجنسية الأمريكية بالإضافة إلى الفلسطينية، وتحوّلت تغطية قناة الجزيرة بالكامل من تغطية المواجهة الروسية الأوكرانية، إلى تغطية هذه الحادثة الأليمة، وأصدرت آلاف الجهات على مستوى العالم الاحتلال الإسرائيلي والذي حاول منذ اللحظة الأولى اتباع استراتيجيته المعتادة بتحويل المسؤولية عن أفعاله الإجرامية إلى الجانب الفلسطيني، رغم استحالة ذلك عملياً ظانّاً أنّه بادعائه التحقيق في الحادثة سيمتص النقمة الشعبية ثم يخرج في نهاية الأمر ببيان بارد متعدد التفسيرات، ينفي به المسؤولية الجنائية عن الاحتلال وجنوده.
إنّ هذا النوع من السلوك المتغطرس والاستخفاف بالحقيقة، هو ما سيدفع كل من دعم إسرائيل إلى التخلي عنها، وسيحوّل الصراع بالتدريج إلى صراع داخلي نتيجة تحميل كل طرف الطرف الآخر عن مسؤولية الفشل المزمن الذي تعاني منه إسرائيل، وليس النبوءات التوراتية، ولا التفسير المتعسف لأحداث التاريخ، وسيتحول الهاجس الذي يعاني منه الإسرائيليون إلى حقيقة ملموسة نتيجة أفعالهم المتهورة.