لم يكن قدوم عمران خان إلى رئاسة وزراء باكستان ميسّرا على غرار من سبقوه كأمثال نواز شريف وبينظير بوتو، إذ لم يكن سليل عائلة سياسية أو إقطاعية على غرارهما، فهذا القادم من عالم الرياضة شق طريقه عبر المظاهرات والفعاليات الشعبيّة على مدى عقدين من الزمان، محتجاً فيها على الفساد والتبعيّة وضعف الدولة، قوام ذلك كله عنصر الشباب الذي كان يرى في خان ليس قائد فريق الكريكيت القومي فحسب، بل شخص اعتاد على النجاح والانتصار، وهو الوحيد الذي لم يتلوث بجرثومة الفساد التي فتكت بالطبقة السياسيّة منذ تأسيس باكستان عام 1947م، لذا عندما أطلق خان وعوده الكبيرة في حملته الانتخابية التي أفضت به إلى الفوز، جعلها بحجم طموح الشباب وآمالهم، فوضع نفسه وحكومته أمام تحد صعب.
لقد جاء عمران خان بروح متمردة على المنظومة التي ترسخت لديها جملة من التصورات والممارسات السياسيّة والاجتماعية، التي أصبحت من المسلّمات منذ الانفصال الدامي عن الهند وتأسيس جمهورية باكستان الإسلامية، ولعل هذا الانفصال الدامي جعل هاجس باكستان دائماً هو أن تحافظ على نفسها أمام خصم يكبرها بست مرات على الأقل، وهو الهند، فتوجهت طاقة الدولة بأسرها إلى الحفاظ على الذات، وتم تكريس مقدرات الدولة لبناء منظومة عسكرية وأمنيّة قادرة على الصمود أمام أي عدوان هندي محتمل، مما نتج عنه مجموعة من النتائج الخطيرة، أهمها تضخم دور المؤسسة العسكرية وسيطرتها الفعلية على مقاليد البلاد، تارة بشكل مباشر كفترة حكم الجنرال أيوب وضياء الحق وبرفيز مشرّف، وتارة أخرى تحت حكم مدنيّ وفق منظومة ديمقراطية عائلية قائمة على التعاقب قطباها عائلة نواز وعائلة بوتو، محكومة بإرادة الجيش.
كما نتج عن هذا الوضع ضعف الجهاز المدني للدولة وتفشّي ظاهرة الفساد المالي المتمثّل بالرشوة وسوء الإدارة وهدر المال العام، وتحكّم العائلات الإقطاعيّة، الأمر الذي جعل الاقتصاد الباكستاني رغم توافر المقومات من ثروة بشرية ومواد أولية وسوق كبير وموقع جغرافي مميز، يئنّ تحت وطأة الديون والهبات الأجنبية. أدّت هذه الأسباب بالإضافة إلى سياسة المحاور التي ارتضتها باكستان عند تأسيسها، إلى ضعف تأثيرها في قيادة العالم الإسلامي، وانتهائها بلعب أدوار مساندة لكل من الولايات المتحدة والسعودية بشكل أساسي، مع تركيز دورها الإقليمي والدولي على قضية كشمير والتي كادت أن تحجب الرؤية الباكستانيّة عن باقي القضايا.
عملت الحكومات المتعاقبة في باكستان وفق هذه المبادئ والتي ترمي خارجيّاً إلى تحقيق التوازن في العلاقات الدولية، وداخلياً إلى الحفاظ على الاستقرار، وهو سلوك يرمي بأحسن الأحوال إلى الحفاظ على الوضع القائم، والذي ثبت مع مرور الزمن أنّه أمر غير ممكن، فتردّى معها الوضع الاقتصادي والمعيشي والأمني في البلاد، فكان لا بد أن يأتي عند كل منعطف رئيس وزراء جديد يتحمل وزر إخفاقات كل مرحلة ويرحل بها، ويأتي خلفه من يكرر نفس الدور ثم يرحل هو الآخر، وعندما كادت هذه اللعبة أن تفقد مفعولها ـ على ما يبدو ـ كان أمام الجيش، السيد الحقيقي للدولة، خيار “رفع الغطاء” عن الحزبين التقليديين والسماح لعمران خان وحزبه “تحريك إنصاف” (حركة العدالة)، بالفوز وتشكيل الحكومة.
من الواضح أنّ عمران خان قد جاء بتصور عن باكستان التي يريد، وهو تصوّر طموح أقرب إلى المثاليات، يمكن تلخيصه على الصعيد المحلي بالوصول بالدولة إلى الحكم الرشيد والذي يعبّر عنه عمران خان عادةً بدولة المدينة المنوّرة، وعلى الصعيد الخارجي رفض منطق التبعية والتعامل مع القوى الخارجية من موقف الندية لا التسوّل، محكوماً بمصالح باكستان أولاً وأخيراً، ولتحقيق ذلك سعى إلى ممارسة الحكم الفعلي والذي تجلّى بمحاولة فرض سلطته كرئيس وزراء على أهم مؤسسة في البلاد وهي القوات المسلحة عبر التدخل في تعيينات الرتب العليا فيها، وخصوصاً رئيس الأركان وذراعها الأخطر، الاستخبارات العسكرية (ISI).
من الواضح أنّ عمران خان قد جاء بتصور عن باكستان التي يريد، وهو تصوّر طموح أقرب إلى المثاليات، يمكن تلخيصه على الصعيد المحلي بالوصول بالدولة إلى الحكم الرشيد والذي يعبّر عنه عمران خان عادةً بدولة المدينة المنوّرة
انطلق عمران خان منذ بداية توليه الحكم، بحملة “إصلاحيّة” شاملة تجاهلت مبدأ التدرّج، وتجاهل أنّ منظومات عمرها من عمر الدولة لا يمكن تغييرها دفعة واحدة، كل ذلك دون أن يكون لديه الأدوات الكافية، مما ألّب عليه الداخل والخارج معاً، ووضع حكومته أمام تحدّيات أصبح من المحال معها الاستمرار، وفجأة رأينا العشرات من نواب حزبه ينشقّون، مما جعل المعارضة المتربصة به وهم يرون تخلي الجيش عنه وفقدانه الأغلبية البرلمانية يسعون لإسقاطه بالضغط عليه كي يقدم استقالته أو من خلال حجب الثقة عن حكومته، ولكنّه اختار أن يؤلب الشارع وأن يتهم الداخل والخارج بحبك مؤامرة ترمي لإسقاطه والنيل من استقلال باكستان، وعند إدراكه أن سقوطه في البرلمان بات أمراً حتمياً، اتهم المعارضة بالخيانة واستخدم بنداً في الدستور الباكستاني يمكنه من تجاهل مشروع طرح الثقة، بدعوة عمالة نواب المعارضة لدولة أجنبية، والدعوة إلى حلّ البرلمان والانتخابات المبكرة، وهو ما اعتبرته المعارضة غير دستوري إذ بعيداً عن بقاء خان أو رحيله، فإنّه يثبّت عليها تهمة العمالة للخارج دون وجه قانوني، وما زالت المعركة القانونية مستمرة، ولكن النهاية باتت مؤكدة وهي خسارة عمران خان لرئاسة الحكومة.
أمّا على الصعيد الخارجي، فقد حاول منذ بداية حكمه التأكيد على العلاقة الندية مع المملكة العربية السعودية من خلال نقد وزير خارجيته للموقف السعودي من قضية كشمير، ما دفع السعودية إلى مطالبة باكستان ذات الاقتصاد المتعب، بدفع ديون مستحقة بقيمة ثلاثة مليارات دولار، واضطر رئيس الأركان للطيران إلى السعودية لإصلاح الضرر، كما حاول فيما بعد المشاركة في مؤتمر قمة كوالالمبور والتي دعا إليها نظيره الماليزي حينها، محاضير بن محمد، واضطر للتراجع عن المشاركة نتيجة الضغط السعودي، أما على صعيد العلاقة مع الغرب وخصوصاً أمريكا، فقد وجه نقده المستمر لها وخصوصاً في موضوع كشمير وموقفها السلبي من باكستان، ثم موقفه المؤيد لحركة طالبان عند استيلائها على الحكم في كابول، وإحجامه عن حضور قمة الديمقراطية التي دعى إليها الرئيس الأمريكي، وأخيراً كان لقاؤه بالرئيس الروسي عقب ساعات من دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا القشة التي قصمت ظهر البعير في العلاقات بين الطرفين، واضطرار رئيس الأركان إلى إصدار تصريح يستنكر فيه الحرب الروسية على أوكرانيا.
لقد وضع عمران خان الطبقة السياسية والجيش في بلاده أمام وضع صعب بإصراره على ضرب قواعد اللعبة السياسية بالحائط، عبر مخاطبة الإعلام واتهام معارضيه بالخيانة والعمالة للخارج، ومخاطبته جمهور الشباب والطلب منهم النزول إلى الشارع، واستحضار العاطفة الدينية والوطنية عند عموم الشعب الباكستاني، متجاهلاً تحذيرات الجيش، كما أنّه استعدى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا في وقت تمرّ فيه البلاد بظروف اقتصادية صعبة، الأمر الذي سيجعل عودته إلى السلطة أمراً متعذراً للغاية، وفي نفس الوقت فإنّ خسارته قد تستفز مشاعر فئات واسعة من الشعب الباكستاني وخصوصاً الشباب منهم، والتي ترى فيه قائداً مخلصاً وضحيّة لمؤامرة كونيّة، ما يمكن أن يدخل البلاد في حالة من عدم الاستقرار، ويمكن أن يؤدي إلى بداية مرحلة سياسيّة جديدة في تاريخ باكستان.
*رئيس منتدى آسيا والشرق الأوسط