شهدت العلاقات السعودية الباكستانية مؤخرا بعض التحسن، إذ أوقفت السعودية ضغطها على باكستان من أجل تسديد قرض بقيمة ثلاثة مليارات دولار أمريكي؛ كانت باكستان قد استدانتها من السعودية لدعم نظامها المالي عام 2018م، ترافق مع ذلك تحسّن في المواقف المعلنة من الطرفين؛ كان من أبرزها إعلان باكستان في بيان لوزارة الخارجية وقوفها إلى جانب السعودية في وجه الضغوط الأمريكية على ولي العهد السعودي في موضوع الصحفي السعودي المغدور جمال خاشقجي.
ترافق ذلك مع حديث عن رغبة السعودية باستئناف الاستثمار بعشرين مليار دولار أمريكي في مشروع مصفاة بترول ومصنع بتروكيماويات في ميناء غوادر (Gwadar) الباكستاني المطل على بحر العرب، الذي يمثّل النقطة الأخيرة في الممر الاقتصادي الباكستاني الصيني (CPEC)، أحد أهم مشاريع مبادرة الحزام والطريق الصينية.
أدّى هذا التحسن في العلاقة بين الجانبين إلى دفع المراقبين إلى محاولة فهم التغيّر الذي جرى، حتى جعل البلدين يتجاوزان الأزمة الحادة وغير المعتادة بينهما، التي كان من أبرز محطاتها رفض البرلمان الباكستاني مشاركة السعودية عام 2015م حربها على اليمن، وقيام السعودية في المقابل باستقبال رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي مرتين بين عامي 2016 و2019م وإعطائه وعودا بإقامة مشاريع بقيمة مائة مليار دولار في بلاده.
كل ذلك عقب إعلان الهند في آب/ أغسطس 2019م، ضمّ إقليم كشمير الذي تعتبره باكستان قضيتها القومية. كما رفضت السعودية دعوة مجلس وزراء الخارجية التابع لمنظمة التعاون الإسلامي للاجتماع لمناقشة الأمر، ما عدّه الشعب الباكستاني خذلانا عربيا بقيادة كل من السعودية والإمارات، الأمر الذي دفع وزير الخارجية شاه محمود قريشي إلى إطلاق تصريحات ناقدة للسعودية.
هذا أمر غير مألوف في العلاقة بين البلدين، ولكنّه يعكس مدى الانفعال الذي شعرت به الحكومة الباكستانية تجاه المواقف السعودية
وهذا أمر غير مألوف في العلاقة بين البلدين، ولكنّه يعكس مدى الانفعال الذي شعرت به الحكومة الباكستانية تجاه المواقف السعودية، وهو ما ظهر جليا عند مشاركة رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان في قمة منظمة التعاون الإسلامية في مكة في تموز/ يوليو 2019م، وتوجيهه الحديث إلى المترجم وإعراضه عن الملك سلمان بن عبد العزيز أمام الكاميرات، ثم انصرافه بسرعة دون سماع الرد، ما عدّه السعوديون إهانة غير مقبولة.
ثم كان إعلان باكستان عن المشاركة في قمة كوالالمبور في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2019م، التي دعا إليها رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد، بمشاركة كل من تركيا وقطر وإيران وإندونيسيا، وهو ما أغضب السعوديين غاية الغضب، إذ عدّوا المؤتمر محاولة لإنشاء محور بديل عن منظمة التعاون الإسلامي التي يتزعمونها وسحب البساط من تحت أرجلهم، فقاموا بالضغط على باكستان من خلال تهديدهم بسحب الودائع السعودية من البنك المركزي الباكستاني، وإنهاء خدمات ملايين الباكستانيين العاملين في الخليج. ورغم انسحاب باكستان من القمة ومسارعة قائد الجيش الباكستاني قمر جاويد باجوا إلى زيارة السعودية، إلّا أنّه لم يفلح – فيما يظهر – بإصلاح الشرخ الذي حصل بين الطرفين، إذ تبع الزيارة إلحاح سعودي على أن تسدّد باكستان القرض الذي استدانته عام 2018م، وسط أزمة كورونا الخانقة، وهو ما حصل بالفعل بمساعدة الصين.
ما الذي دفع العلاقة باتجاه التحسن بعد هذا التدهور السريع؟ يمكن القول إنّ السعودية قرأت قدوم الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى السلطة، كمحطة مفصلية في مستقبل المنطقة
إذن ما الذي دفع العلاقة باتجاه التحسن بعد هذا التدهور السريع؟ يمكن القول إنّ السعودية قرأت قدوم الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى السلطة، كمحطة مفصلية في مستقبل المنطقة. فالسعودية أدركت من اللحظة الأولى أنّ بايدن لديه سياسة جديدة مختلفة عن سلفه ترامب، إذ رفع الحماية عن ولي العهد السعودي التي وفّرها له ترامب، وأعلن موقفا رافضا لحرب اليمن، كما أعلن عن رغبته بالعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، خصم السعودية ومنافسها العنيد، ثمّ أكّد انسحابه المزمع من أفغانستان، الذي يشير إلى تراجع اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بالمنطقة، خصوصا مع تراجع حاجتها إلى نفط الخليج.
كل ذلك جعل السعودية تفكّر بالبحث عن قوة عالمية بديلة، توفر لها مظلة أمنيّة تركن إليها عند الحاجة، ولذا حاولت تطوير علاقتها بسرعة مع الصين. وقد ظهر ذلك جليا في أثناء زيارة وزير الخارجية الصين وانغ يي الشهر الماضي إلى المنطقة، فالصين اليوم هي أكبر شريك تجاري للسعودية، وهي شريك أساسي في رؤية الأمير محمد بن سلمان المسماة 2030م، وهي أيضا الجهة التي تعمل مع السعودية منذ عام 2018م على إنشاء محطة نووية ترغب السعودية في استخدامها لتعديل ميزان القوى المختل لمصلحة إيران. ولعل خير بوابة لعلاقات أفضل مع بكين هو الشريك الباكستاني القديم الذي يعتبر أفضل شركاء الصين الاستراتيجيين وأهمهم، والذي لديه أيضا القوة العسكرية الضخمة التي طالما وجدتها السعودية إلى جانبها عند الحاجة.
فالسعودية اليوم تحاول أن تلعب لعبة توازن بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، على الأقل ريثما تتضح الأمور ويسفر الوضع عن تحوّل في ميزان القوى الدولية يؤدي إلى دور أكبر للصين في المنطقة، أو تعزيز أمريكا قبضتها مرة أخرى. ولذا، فهي وإن كانت تحاول التقرب من الصين وباكستان، إلّا أنّها تريد علاقة مميزة مع تل أبيب حليف الولايات المتحدة الأوثق، وهي تحاول دفع باكستان إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، كي تكون السعودية آخر المطبعين في العالم الإسلامي، وتخفّف بذلك ردود الفعل ضدها في هذا الموضوع الحسّاس. كما تضمن لها العلاقة مع تل أبيب شريكا عنيدا في العداوة مع طهران يمكن التعاون معه لإضعافها، وفي الوقت نفسه ضمانة من خلال تأثيرها العميق في السياسة الأمريكية أن يبقى الموقف الأمريكي تجاه السعودية مهما ساء، ضمن ما يمكن احتماله.
تحاول أن تلعب لعبة توازن بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، على الأقل ريثما تتضح الأمور ويسفر الوضع عن تحوّل في ميزان القوى الدولية يؤدي إلى دور أكبر للصين في المنطقة، أو تعزيز أمريكا قبضتها مرة أخرى. ولذا فهي وإن كانت تحاول التقرب من الصين وباكستان، إلاّ أنّها تريد علاقة مميزة مع تل أبيب
رافق ذلك محاولات كل من الإمارات والسعودية اليوم، إصلاح العلاقة بين الخصمين اللدودين، الهند وباكستان، التي كان من ثمارها الرسائل المتبادلة بين رئيسي وزراء البلدين، والإعلان عن بدء عمليات الاستيراد والتصدير – ولو بشكل محدود – بينهما، على أمل أن يؤدي ذلك إلى إبقاء المسافة بينهما وبين إيران قائمة، وضمان عدم انضمامهما إلى إيران في حال رفع العقوبات الأمريكية عنها.
في المقابل، ففي حال قرّرت السعودية الذهاب نحو مصالحة مع إيران، فإنّ الصين، بما لها من مصالح ضخمة مع إيران تعد بمئات المليارات من الدولارات، راغبة باستمرار الاستقرار في المنطقة وعدم حصول أي حرب أو مواجهة مسلحة يمكن أن تعرقل مشاريع مبادرة الحزام والطريق. هذه المصالح يمكن أن تجعل الصين تضغط على إيران، من أجل منعها من القيام بأية مشاريع عدوانية يمكن أن تمسّ بالنفوذ السعودي في المنطقة، كما يمكن في ذات الوقت أن تكون الجسر الذي تعبر عليه الرياض نحو مصالحة تاريخية مع طهران، وهو ما تحاول الصين اليوم تسويقه باعتبار أنّ لها علاقة طيبة مع كل دول المنطقة، وهي خير وسيط لحل مشاكله وتجاوز أزماته بما في ذلك التاريخية منها.
باكستان من جهتها، تعمل على تحسين العلاقات مع السعودية لأسباب تتصل بالمشروعية الإسلامية التي تعتمد تقليديا على فكرة حمايتها لبلاد الحرمين، وعلى الدعم الاقتصادي الخليجي الذي لا يمكن للبلاد الاستغناء عنه، ولكنّها تعمل في الوقت نفسه على تعزيز علاقتها مع الدول الإسلامية الأخرى وخصوصا تركيا؛ لأنها تعلم أنّ هذا النوع من الشراكة المختلّة مع السعودية لا يخدم مصالحها كأقوى بلد إسلامي، على المدى البعيد.