الليل السّاجي يهيم في أحلام شاعريّة رقيقة، والسماء الصيفية الصافية تملأها نجوم ساطعة كأقمار صغيرة، والريح المنعشة الباردة تغسل الأرواح من أوزارها لتدعها تسبح في ملكوت لا تدركه الأجساد بثقلها، تخفّ النفوس لتحلق في عالم من اللذة الشفّافة، وتسترخي الأبدان مغتنمة هذه الليلة النادرة حيث يجتمع صفاء الصيف مع انتعاش البرودة اللذيذ.
تعزف أوراق الأشجار وحشرات الليل سنفونية خالدة تليق بجلال هذه الليلة الرائعة، غير أن المدينة مصمّمة على أن تعيش ذاتها والشوارع مصرّة على أن تحيا طبيعتها، حيث الضجة المؤلمة حتى في أهدأ ساعات الليل، وأكثر لحظات العمر صفاء وشاعريّة.
- “هنيئاً لك السيارة الجديدة يا أبا مزعل.”
- “بارك الله فيك.” رد أبو مزعل وهو يمسك بمقود السيارة بيديه الاثنتين، ويكاد يحتضنه بين جوانحه “ولكنها ليست جديدة كما تعلم.”تابع.
- – “نعم هي قديمة بعض الشيء ولكنها بالنسبة لك جديدة، صحيح فيها بعض الأشياء التي تحتاج إلى توضيب، لكن كلها أشياء بسيطة، أعني لولا وجود هذه السيارة في هذه الليلة الجميلة ما كان من الممكن أن نخرج لنستمتع بالهواء العليل على الطرق السريع.”
- – “صحيح . . صحيح يا حمدان، السيّارة نعمة من نعم هذا الزمان، ليست كهذه السيارة الحديثة التي تسير أمامنا، ولكنها سيارتي.”قال وهو يشير إلى سيّارة تسطع أنوار الشارع منعكسة عن سطحها المصقول.
- – “ولكنّ صوتها مرتفع جداً أليس كذلك؟”
- – “إنها بحاجة إلى بعض التعييرات لا غير، ثم إنني لم أعتد عليها بعد.”
- – “معك حق . . احذر . . احذر يا أبا مزعل . . ” صرخ حمدان فجأة فانعطف أبو مزعل بسيّارته بسرعة فأخذت تلف حول نفسها ثم توقفت.
مد أحد المراهقين رأسه من سيارته الجديدة المسرعة وأشار إشارة مخجلة إلى أبي مزعل، الذي تملكه الغضب وأخذ يشتم دون وعي، نزل من سيارته المتهالكة ليتفقّدها، فوجد العادم قد وقع بأكمله على الأرض، فزاد ذلك من غضبه.
- “عيال الكـ. .، يظنّون أرواح الناس لعبة في أيديهم، يحسبون أنهم إذا ملكوا الأموال والسيارات الفخمة ملكوا البلاد والعباد وأصبحوا دون رقيب ولا مسائل . حمدان هل التقطت رقمها؟”
- “أي شيء؟”
- – “السّيارة بالطبع.”
- – “وكيف لي أن احفظ الرقم إن كانت السيارة تسير بسرعة الصاروخ؟”
ضرب أبو مزعل كفه بقبضته وقال :”خسارة . . “
أعاد أبو مزعل السيارة إلى الطريق فأخذ العادم المكسور يصدر صوتاً رهيباً وهو يجر على الأرض، والسيارة تنتفض في سيرها كمن يتعرض لصعقات كهربائية، فتوشك أن تتوقف ثم تنطلق فجأة لتنخذل من جديد.
- “الحمد لله على سلامتك يا أبا مزعل، السلامة أغلى من كل السيارات. “صاح حمدان محاولاً إيصال صوته إلى أذن أبي مزعل في خضم هذه الضجّة الهائلة.
- “طبعاً . . طبعاً . .”رد بنفس الطريقة “ولكن هؤلاء السفهاء لن يتركونا نعيش بسلام، يريدون أن يحصلوا على كل شيء.”
- – “انتبه . . انتبه . .إشارة مرور حمراء . . “صرخ حمدان، فداس أبو مزعل الفرامل بكل قوته، لكنّ الأوان كان قد فات، زحفت السيارة مصدرة صوتاً رهيباً، وملئءت الجو رائحة مطاط محترق، ثم وقفت فارتطم بها شيء ما من الخلف فأوشك حمدان وأبو مزعل أن يطيرا عبر الزجاج.
نزل أبو مزعل من سيّارته ليلقي نظرة وهو يتمطى خشية أن يكون قد أصيب بأذى وهو لا يدري، فهاله أن يرى النصف الخلفي لسيارته قد وقع على الأرض بالكامل . .
- “الحمد لله على سلامتك يا أخي، أرجو أن تكون أنت ومن معك بخير ؟ “قال صوت من الجهة المقابلة .
رفع أبو مزعل رأسه ليرى شاباً انيقاً يقف أمامه وقد اتكأ على سيارة فخمة، “صدّقني لم أستطع أن أتدارك الأمر فقد وقفت سيارتك فجأة .”تابع الشاب.
- “وقفت فجأة، هه؟ ألا تعرف أنّ السائق الخلفيّ مسئول عن سلامة من أمامه وأنه يتحمل مسؤولية أي ضرر يمكن أن يحصل، أم أنك تظن بأنك ستنجو بفعلتك ؟ “قال أبو مزعل.
- – “أبداً . . أبداً . .، لقد كان حادثاً بسيطاً، أنظر إلى سيارتي لم تتأثر أبداً، لكن سيارتك مع فائق احترامي متهالكة وتكاد تسقط من تلقاء نفسها.”
اختلس أبو مزعل النظر إلى سيارة الشاب السليمة ثم ضرب بصفقة يده على سقف سيارته وقال غاضباً:”متهالكة أو غير متهالكة، لن أتنازل حتى تأتي شرطة المرور وآخذ حقي، هذا هو كلامي الأخير.”
- “أسمع يا عم، الوقت الآن بعد منتصف الليل وسيأخذ الأمر شرطة المرور وقتاً طويلاً حتى تحضر، ولقد عدت للتو من اجتماع مجلس إدارة الشركة الذي استمر لمدة خمس ساعات متواصلة، اكسب فيّ ثواب ودعني أذهب في سبيلي ولك مني ما تريد، سأدفع المبلغ الذي تأمر به.”
- “اسمع، أتحسبني دون كرامة، أنا لا أشترى بالفلوس، أفهمت ؟ أنتم الأغنياء هكذا تحسبون أنّ كل شيء يمكن أن يشترى. اسمع إنْ كان الناس أصبحوا يباعون ويشترون هذه الأيام فأنا أبو مزعل، أفهمت؟”
- – “ومن تكلم عن الكرامة؟! أنا أريد أن أحل المشكلة بأقصر الطرق، ثم إذا حضرت الشرطة وذهبنا إلى القاضي، ألن يحكم لك بتعويض لإصلاح سيارتك؟ أنا سأعطيك ثمن سيارتك كاملة، ولكن دعني أذهب في حال سبيلي، ما رأيك؟”
- – “احفظ أدبك وأعرف مع من تتكلم، قلت أنا لا أباع وأشترى، ستبقى هنا حتى تأتي الشرطة ولو استغرق الأمر عشر ساعات بل عشر أيام، يجب أن تتعلم بأن النقود لا تشتري أرواح الناس وكرامتهم، أفهمت . . ؟ “
جلس الشاب على مقدمة سيّارته وأشعل لفافة من التبغ ونفث بعض الدخان في الهواء ثم خاطب أبا مزعل قائلاً “عشر آلاف ثمناً لسيارتك، ما رأيك ؟ “صمت أبو مزعل وأدار ظهره هازئاً.
-“عشرون ألفاً . . ثلاثون ألفاً . . أربعون ألفاً . . “
نزل حمدان من السيّارة على عجل وخاطب أبا مزعل قائلاً :”فرصة العمر يا أبا مزعل سيّارة بأربعة آلاف تباع بأربعين ألفاً،وتبقى السيارة علاوة على ذلك ملكاً لك، خذ المبلغ وهيّا بنا، هيّا . . “
صمت أبو مزعل فأعاد الشاب قوله : “أربعون ألفاً عرضي الأخير ما قولك، أكتب لك الشيك الآن؟”
أخذ حمدان يرجو أبا مزعل دون فائدة، نهض الشاب عن مقدمة سيارته بهدوء، وجلس في مقعد السائق، رجع بسيّارته إلى الخلف بسرعة مذهلة ثم انطلق كلمح البصر، فاختفى عن الأنظار على الفور.
التفت أبو مزعل يبحث عن الشاب وسيّارته الفخمة فلم يجد شيئاً، “أين هو، أين ذهب؟”
- “لقد ذهب، هرب.” قال حمدان.
- “هل التقطت الرقم؟”
- – “كانت السيّارة أسرع من ذلك.”