أتذكرين ذلك اليوم يا شهرزاديَّ الغالية؟ يوم استقبلتك في أول ليلة سحريّة من حياتنا الطويلة. كم فاجأتني ليلتها! كم فاجأتني وأنت تدخلين عليّ وعيناك تلمعان ببريق التحدي، عجبت من ثقتك بنفسك، فلم أدر أأشفق عليك أم أكرهك، لكنني كنت موقناً أنك ستكونين كفّارة جديدة على مذبح كبريائي الجريح. عشرات النساء الفاتنات بل ربما المئات نظمتهنّ في ذلك السلك الأسود الطويل، وكلما زاد جمال إحداهنّ كان منظرها عليه أشد جمالاً، وفتاة صغيرة مثلك لم تكن لتصنع الفرق، فما أنت في عينيّ سوى تفّاحة جميلة صقيلة فوّاحة ليس لها إلاّ أن تؤكل طال الزمان أم قصُر.
ربما ظننت أنك خدعتني واستدرجتني إلى سماع حكاياتك على مدى ألف ليلة وليلة، واشتريت بهنّ عمرك وأعمار أخريات كان يمكن أن يمتن بعدك لو أنّك أخفقت في لعبتك المسليّة، أقول لك ربما كان هذا صحيحاً، ولكن ما لا يعلمه أحد، أنني بشر ككل البشر، أحب كما أكره، وأبكي كما أضحك، وأطرب فرحاً كما أطرب حزناً. نعم كنت سفّاحاً، ولكنني كنت من البشر، وكم كان يزعجني ذلك الشعور القابض عندما كانت الرؤوس الصغيرة الجميلة تتدحرج عند قدميّ، كنت أشعر بالحزن يملأ عروقي وألعن نفسي ألف مرّة، ولكنني بمجرد خروجي إلى الناس كان ذلك الأسد الجريح يعود ليتربع على عرش قلبي، فتبدأ رحلة الثأر من جديد.
مللت، ضاقت عليّ الدنيا، أظلمت وجوه الناس في عينيّ، وبدأت مملكتي تضطرب تحت قدميّ، وكنت أشعر بالبساط وقد أوشك أن يسحب من تحتهما، قلت لنفسي يجب أن تكون هناك نهاية لهذا العبث، يجب أن أضع حداً لهذا الجنون، لم يقدني ذلك كله إلى التعقل بل العكس، صرت أبطش وأضرب دون وعي وبلا هوادة، كنت نسراً يحلق فوق النّاس يشقق الغمام بجناحيه ويرى البشر ذباباً يشين وجه الأرض، في تلك اللحظات التي كنت أقف فيها على شفا جُرُفٍ هَارٍ، أنظر إلى القَعْر بكل سخرية ولا مبالاة، كنت في حقيقة الأمر بأمَسّ الحاجة إلى مَنْ يمسك بيدي ويشدني إلى الخلف، كنت كأسير جبل جليد يحتاج إلى ضياء الشمس كي يحرّره ويبدّد سجنه إلى الأبد.
كم سخرت منك في أعماق نفسي عندما بدأت تروين قصصك الطريفة تلك، وقلت لنفسي شيء جديد يسلّي ويزيد إثارة الثأر، وأمّا السيف فإنّه لن يفّر. مرّت ليلة وليلتان، ومع كل ليلة تمرّ، كان التحدي والإثارة يزدادان في قلبي، وسخريتي منك تزداد أيضاً. كنت أراقبك ليلاً ونهاراً، أرصدك، أعدّ عليك نسماتك، أنتظر زلة واحدة لأهدم كبريائك وثقتك الفارغة بنفسك، لأعلن فيها انتصاريَّ الجديد، ولكن لِمَ العجلة؟، فالأيام حَبَالى يلِدْنَ كل عجيبِ. ومع مرور الأيام أخذت همتي تفتر شيئاً فشيئاً، ومع كل قصة كنت تحكينها كانت يدك تمتد إلى روحي أكثر فأكثر، ودفء صدرك يذيب جليد قلبي الأثري، يوقظ أشياء كنت أحسب أنها ماتت منذ زمن بعيد، لم أفتأ أذكّر نفسي بألاّ أمان لمرأة، ولكنني لم أمسك عليك زلّة واحدة، ومع ذلك فإن شيطان الشك والذكريات الأليمة لمّا يموتا بعد، ما زالا كسفُّود محمّى يخِزان قلبي كلما أوشك على قرار.
مضت الأيام وبدأت الليالي تفقد ثقلها، وأخذت النجوم تظهر رويداً رويداً من بين الغيوم، والقمر يسفر عن وجه أبيض من القطن، ونسمات الهواء الباردة يرقين روحاً جريحة طال سقمها وأزمنت علّتها، وبدأ الجدار ينهار، وبدأ السيل بالتدفق جارفاً في طريقه أوْضَار الماضي، وبدأت الحياة تدّب في الحياة، وأخذت الوجوه تستعيد نورها والدنيا ضياءها، والشمس ابتسامتها، وانفرج سَمّ الخِياط عن أفق رحيب بلا حدود، وهدأت الأرض تحت قدميّ وصارت تغلّ خيراً وتفيض عطاءً، عندها أدركت أن روحاً جديدة قد سرت في بدني الفولاذي لتعيده إلى لحم ودم، أن غيثاً سماويّاً أغاث قلبي فاهتزّ وربى وأنبت وأينع وأثمر، نعم أثمر دمعة ساخنة ذرفتها على صدرك كطفل يتيم.
عندها تغيّر كل شيء، تغيّرتُ أنا، وتغيرت الدنيا، وتغيرت أنتِ، فلم تعودي مجرد فتاة أخرى تنتظر صباحاً أخيراً، بل تحولتِ إلى حبل سريّ يربطني بعالم الأحياء، صرت عيناً وروحاً ونوراً، كل ذلك حدث قبل الليلة الألف بكثير، أدركتُ عندها أنني أصبحت طفلك المدلل وتساقطت كبريائي إلى الأبد، تساقطت وانهارت بلا أسف ولا ندم، وامتدت بنا الليالي ليلة وراء ليلة، ومتعة وراء متعة، سنوات طويلة، بحر من السكينة والرحمة والعشق أمتد بنا حتى نهاية العمر، وعندما حملتكِ بين ذراعيّ وأودعتُ جسدكِ الفاني تحت رخام هذا القبر الأبيض، وضعت خدي عليه، وذرفت دمعة أخرى انحدرت على لحيتي البيضاء إلى قبرك وتسللت عبر طباق الثرى، لتصل إلى صدرك الدافئ.