20 نوفمبر، 2024
هلال ذو وجهين
الرئيسية » هلال ذو وجهين

هلال ذو وجهين

دخلا مبنى المحكمة الشرعيّة يعدوان، أحدهما طويل محدودب الظهر ذو شعر ينبت من خديه كالإبر، والآخر ممتلئ ذو قسمات طفوليّة تتدلى من وجهه لحية ناعمة طويلة.

نظر كل منهما في عيني الآخر فأدرك غاية صاحبه، فاشتدا داخل الممر الطويل حتى بلغا باب قاضي القضاة يلهثان، وتدافعا يريدان الدخول.

  • “على رسلكما أنتما الأثنين.” قال الفرّاش وهو يحاول إيقافهما “ما أمركما؟ إن الله قد خلق الدنيا في ستة أيام.”
  • “أنا وصلت أولاً.”قال الطويل، “أنا أريد أن أبلّغ عن الرؤية.”
  • –       “بل وصلنا معاً، وسندخل معاً، أو تدعني أدخل وحدي.”قال ذو اللحية الطويلة.
  • –       “على مهلك يا شيخ عبد الخالق “قال الفرّاش مخاطباً ذا اللحية الطويلة “سيراكما سيدنا معاً، فانتظرا ولا تختلفا.”، ثم دخل على القاضي وأغلق الباب خلفه وعاد ليفتحه بعد ثوانٍ قائلاً:”تفضلا بالدخول.”

تدافعا مرة أخرى وفي ثوان كانا يقفان أمام مكتب خشبي ضخم، لكنهما فوجئا بخلو الكرسي خلفه، فأخذا يبحثان ببصرهما في الغرفة فإذا صوت يقول:

“ألن تسلِّما؟”، التفا نحو مصدر الصوت فإذا رجل يقف على الشرفة يمسّد على ظهر حمامة نائمة في يده.

-“أريد أن أرى قاضي القضاة، لقد وصلت أولاً.” قال الرجل الطويل مخاطباً الواقف على الشرفة.

-“السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا سيدنا.”قال الشيخ عبد الخالق وأكبّ على يد الرجل يقبّلها، كان رجلاً مسناً ضخم الجثة أبيض البشرة ذو عينين عسليتين، يرتدي ثوباً قصيراً وفي يده اليسرى سبحة خشبيّة طويلة، وصلعته تلمع تحت نور المصباح الكهربائي.

– “وعليكما السلام. تفضلا بالجلوس.”أشار إلى المقاعد وعلى وجهه ابتسامة صافية.

– “اسمح لي يا سيدنا، جئت للإبلاغ عن رؤية الهلال.”قال الشيخ عبد الخالق محاولاً اقتناص الفرصة من رفيقه.

– “بل أنا يا سيدي جئت لأبلّغ. أنا أحق بالجائزة منه، أرجوك. أنا جئت أولاً.” قال الآخر.

– “بل جئنا معاً فلا تغالط.” قال الشيخ عبد الخالق بحدة موجهاً كلامه إلى رفيقه.

– “صمتاً! إن الله مع الصابرين. دعنا نستمع إلى الرجل أولاً يا شيخ عبدالخالق لنرى ما عنده ثم نعود إليك.” قال قاضي القضاة وهو يتناول جبّته عن المشجب ويلبسها، ثم يضع العمامة على رأسه، وعبد الخالق يطأطئ رأسه مذعناً وليصمت على مضض.

– “هات ما عندك يا أخانا، أولاً اسمك الكريم ثم مهنتك ومكان إقامتك.”

– “اسمي يا سيدي، إبراهيم أبو دَبَسة، الشهير بالدغَّا، وأسأل أي شخص عن الدغَّا يدلك عليّ.”

– “ممتاز يا أخ إبراهيم. ما هي مهنتك؟”

– “أنا؟ أنا منجِّد، أقصد . . كنت منجداً، والآن بدون عمل. ولكن، ستُفرج قريباً بإذن الله، يعني، على كل حالك، هل ترك لنا شيئاً؟”

– “مَنْ يا أخ إبراهيم؟”

– “الذي اخترع الإسفنج يا سيدنا. قطع رزقنا يا سيدي، منذ شهر لم نأكل غير الخبز واللبن، وأحياناً خيار إذا توفر. في عنقي سبع بنات يا سيدي، الله لا يعطيها العافية.”

– “مَنْ يا أخ إبراهيم؟ التي اخترعت الإسفنج؟”

– “لا يا سيدي، زوجتي. يعني لم تعرف كيف تنجب لنا ولداً واحداً يعيننا. الله الوكيل يا سيدي سبع بنات واحدة وراء الثانية.”

– “لا تقلق يا بني، إن شاء الله سترزق بالبنين كما رزقت البنات، ولا تظلم زوجتك فهي أمانة في عنقك. على كل حال، لم تقل لي أين تسكن.”

-“أنا يا سيدي أسكن خلف المتصرفيّة.”

اعترض الشيخ عبد الخالق قائلاً:

“وهل هناك متصرفيّة في هذه المدينة الكبيرة؟! يا سيدي مدينتنا ولله الحمد أمانة منذ سنين طويلة.”

-“لطالما كنت تلميذاً قليل الصبر يا شيخ عبد الخالق، أتذكر؟ اجلس واستمع ولا تقاطع، فمثلك حري به أن يعرف متى يصمت.” قال قاضي القضاة بلهجة أبويّة حازمة، ثم وجّه كلامه إلى إبراهيم قائلاً:

-“وهل ما زالت المتصرفيّة قائمة؟!”

-“نعم، نعم يا سيدي بكل تأكيد. كل البيوت التي حولها هدمت، إلاّ بيتي لأنه من ملحقات المتصرفيّة، وقد سمعت إنهم سيحولونها إلى متحف.”

-“سبحان الله! هذه المتصرفيّة مبنيّة بمال حلال، أتعرف أنها من أيام الأتراك، يعني أكثر من مئة وعشرين عاماً. قد كنت ألعب فيها وأنا صغير، أفتِّش عن الحَمَام.”

-“أنتم يا سيدنا؟!”تعجب الشيخ عبد الخالق.

-“نعم. أم تحسب أنني ولدت قاضياً للقضاة.”

ابتسم الشيخ عبد الخالق وهمهم بكلمات غير مفهومة ورأسه منكس إلى الأرض.

-“نعم، قلت لي أنك تسكن خلف المتصرفيّة. أما زال الحمام يعشش هناك؟”

-“آلاف يا سيدي من كل لون. صدقني يا سيدي أنها نكد مستمر، تلقي قاذوراتها في كل مكان وصوتها كأنه مطحنة لا تهدأ، خصوصاً في الصباح، كان الله في عوننا.”

-“كان الله في عون الجميع يا بني, الحمام مخلوقات كلها خير وبركة وحنان، لا يمكن أن تؤذ أحداً أبداً. ولكن قل لي كيف رأيت الهلال؟”

-“أنا سيدي رأيته، صدقني رأيته، وأنا أحق من هذا الشيخ بالجائزة. عندي سبع بنات يا سيدي، وبلا عمل يا سيدي، وحالنا لا يسر صديقاً ولا عدواً يا سيدي، صدقني.”

-“على رسلك يا بني، وفي السماء رزقكم وما توعدون، أبق أملك برحمة الله كبيراً، وستفرج بإذن علاّم الغيوب.”صمت القاضي للحظات ثم استأنف قائلاً:

-“ولكنك لم تقل لي كيف رأيت الهلال.”

-“أنا يا سيدي . . كنت . . كنت . . نعم، كنت على سطح بيتي أهش الحمام.. الحمام.. عندما رأيت الهلال فوق.. فوق.. فوق عمارة أبي الذهب، فأخبرت زوجتي التي قالت لي أن أركض إلى المحكمة لأنكم تعطون مكافأة لمن يرى الهلال. هل هذا صحيح يا سيدي، هل هناك مكافأة لمن يرى الهلال؟”

-“طبعاً . . طبعاً . . وها هي . . تفضّل.” أخرج القاضي نقوداً من جيبه، وناولها إلى إبراهيم.

-“كثّر الله خيركم يا سيدي.”وقبّل إبراهيم يد القاضي.

-“وهل رأيت أنت الهلال يا شيخ عبد الخالق؟” وجه القاضي كلامه إلى الشيخ.

-“نعم يا سيدنا.”

-“تفضل أنت بالخروج يا أخ إبراهيم، رافقتك السلامة.” قال القاضي مودعاً.

-“سيدي القاضي، لست غاضباً لأنك أعطيت هذا الرجل المكافأة، ولكنني استغرب كيف رأى الهلال فوق عمارة أبي الذهب وهي عالية جداً وفي شرق المدينة، والمعروف أنّ الهلال لا يُرى إلا من الغرب ومنخفضاً جداً؟”

أخرج القاضي سجلاً من مكتبه وشيكاً وطلب من الشيخ التوقيع على السجل قائلاً له وقد سلّمه الشيك:

-“ألم أقل لك أنك قليل الصبر يا شيخ عبد الخالق. مبارك عليك المكافأة، وكل عام وأنت بخير.”

Share:FacebookX
Join the discussion