صعوداً . .صعوداً . . صعوداً، تئن السيارة وتنتفض لتواصل تسلق دربها المنتصب كيد تصافح السماء، قطرات صغيرة من الندى تتكثّف على الزجاج لتنزلق أو تلتصق منتظرة المسّاحة. طبقات من الضباب تغلّف الطريق الجبلي الضيّق متحدية أنوار السيّارة الوحيدة التي تشق دربها بصعوبة متناهية في ظلمة الليل.
” عجيب أمر هؤلاء الناس، لا أفهم كيف يتركون أرض الله الواسعة كلها، ليقرفصوا على قمة جبل كالألف الممدودة.”
تئن السيارة وتئن وتصعد رغم كل شيء، تصعد وتشهق، ترتجف تهتز تنتفض وتصعد.
بقرة تقفز فجأة في وسط الطريق وتجمد محدقة بأنوار السيّارة التي لم تجد صعوبة بالتوقف.
” طاط . . طاط . . طاط . . ” عبثاً أتعب نفسه بوق السيارة لكن البقرة لم تتحرك، رفعت ذيلها، لوحت به، لفّت رقبتها بالاتجاه الآخر ومضغت شيئاً في فمها.
” طاط . . طاط . . طاط . . ” مازال البوق مصراً على حق السيارة في الطريق. ظهر رجل عجوز وأشار بعصاه للبقرة فهرولت واختفت في الضباب والظلمة.
- ” السلام عليكم . . ” أشار العجوز بعصاه صارخاً، فمددت عنقي من السيّارة قائلاً: ” وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. الله يسعد مساك يا حاج ، هل هذه الطريق إلى نجمة الجبل؟”
- ” طبعاً . . طبعاً . . آخر قرية على هذا الطريق.” وأشار بعصاه إلى قلب الظلمة.
- – ” كم كيلو متر تبعد من هنا ؟ “
- – ” كيلومتر؟! لا أعرف كم كيلو . . متر ، لكن أمش حتى تصل إلى آخر الطريق إلى فوق . .”
دست دواسة البنزين بقوة فانطلقت السيارة متحاملة على نفسها، كانت السيارة تلوب وتلوب وتنحرف يمنة ويسرة دون أمل بالوصول إلى مكان، عندما فاجأها عمود إنارة يتيم وقفت تحته لوحة زرقاء كتب عليها ” مجلس قروي نجمة الجبل يرحب بكم.”
” ما علي الآن إلا أن أسأل أي مار في الطريق.”
أخذ الضباب ينقشع شيئاً فشيئاً والنجوم تشع في السماء. كانت ساحة البلدة خالية من أي شيء، والشارع الوحيد مقفر إلا من كلب ضال يحوم هنا وهناك ما لبث أن تحول إلى أحد الأبواب الذي فتح فجأة فتدفق منه النور مبدداً عتمة الشارع ورمى الرجل الواقف بالباب شيئاً ما مصحوباً بشتيمة مقذعة تجاه الكلب الذي عوى من الألم وغادر المكان بعرجته.
- ” مساء الخير يا أخ !” انطلق صوتي رغم أنف هدير المحرك.
صمت الرجل الواقف بالباب برهة ثم قال :” مساء النور ، يبدو أنك غريب على هذا البلد.” وأشار إلى لوحة أرقام السيارة.
- ” نعم، وأريد منك خدمة لو سمحت. أريد أن تدلني على منزل محمد العلي.”
نظر الرجل إلي كمن يتفحص شيئاً ثم أدار رأسه نحو اليمين فانعكس الضوء الأصفر على صفحة وجهه اليمنى ” لا بد أنك تمزح دون شك. نصف رجال هذه القرية اسمهم محمد العلي والنصف الآخر علي المحمد، فعن أيهم تسأل ؟ “
- ” حقاً ؟ لم يخطر ذلك ببالي من قبل.” قلت وقد وقعت في حيرة ” على كل حال هو شاب في مثل عمري تقريباً و. . ” فقاطعني قائلاً :
- ” وأظنك ستقول لي أنه يمشي على رجلين وله عينان في رأسه.”
- – ” طبعاً . . طبعاً . . ” ضحكت ثم تابعت كلامي ” لو تركتني أكمل لعرفت أنه كان زميلي في الدراسة عندما كنا ندرس في الخارج و . . ” قاطعني مرة أخرى وقال:
- – ” آه ، تقصد الأستاذ محمد العلي. طبعاً أعرفه.”
أطفأت محرك السيارة، وقلت مبتسماً :
- ” حسبتك قلت بأن نصف رجال القرية اسمهم محمد العلي.”
- ” نعم ، ولكن لا يوجد بينهم سوى أستاذ واحد. على كل حال لم لا تتفضل بالدخول بدل أن تبقى قاعداً في سيارتك هكذا.” قال وقد اتكئ على حافة نافذة السيارة المقابلة.
- – ” شكراً لك، فقط دلني على منزله ولك مني كل الشكر.”
- – ” حسناً ” صمت وزمّ إحدى عينيه كمن يحاول حل معضلة استعصت عليه ” أي بيت تريد، بيته بيته، أو حيث يسكن الآن.”
- – ” أريد أن أراه.”
- ” إذن عليك أن تسير حتى نهاية هذا الطريق وتمضي في الوعر قليلاً حتى تصل إلى ساحة ترابية مستديرة تحيط بها أشجار اللوز هناك ستجد منزل أبي محمد، “علي المحمد”.”
- – ” ولكنني أريد الأستاذ محمد العلي لا منزل أبي محمد.” قلت وقد بدأ صبري بالنفاد.
- – ” أعرف . . أعرف . . ، الأستاذ يسكن هناك منذ أن تزوج أخوه وسكن منزلهم القديم.”
- – ” آه الآن فهمت، تصبح على خير.”
أقلق المحرك راحة الليل المسترخي مرة أخرى وانطلقت السيارة وسط احتجاجات الرجل الذي مازال مصراً على أن أشرّفه في منزله، ليقوم بواجب الضيافة.
أُجِبرت السيارة على جر نفسها مرة أخرى ولكن بصعوبة أكبر وبصعود أكثر حدّة، وما لبث الإسفلت أن انتهى وأخذت السيارة تتمايل على الحصى والحجارة التي أخذت تنطلق كالرصاص من تحت العجلات في مختلف الاتجاهات.
أرض مفتوحة تطوقها أشجار اللوز والزيتون، وبيت على اليمين أمامه مصطبة ممتدة يقف عليها شبح صامت سرعان ما أضاءت أنوار السيارة وجهه وهي تلف لتصطف بوضع صحيح.
” يا هلا بالضيف . . يا هلا . . ” هتف الواقف على المصطبة.
- ” يا هلا بك يا عم، مسَّاك الله بالخير.”
- “الله يمسّيك بأنوار النبي. تفضّل . . تفضّل . . “
صمت محرك السيارة وتوقف رجع الصدى، وانفردت الريح الباردة بالمكان لتعبث بأوراق الشجر.
- ” الأستاذ موجود؟ ” سألت.
- ” موجود . . موجود . . تفضّل ، حيّاك الله.”
نزلت من السيارة وصافحت الرجل الذي ارتدى ملابس نومه الفضفاضة وأضاءت أنوار البيت وأطل الصغار من الباب ووقفت النساء وراء زجاج النافذة يراقبن.
- ” من يا أبا علي ؟ إن شاء الله خيراً.” أطل شبح ما عن سطح البيت مستفسراً.
- ” خير . . خير . . يا أستاذ ، ضيف لك.”
وما هي إلا لحظات حتى أخذنا بعضنا بالأحضان ” أية ريح طيبة أتت بك إلينا؟!”
- ” الحقيقة حتى يصل المرء إلى قريتكم، يحتاج إلى إعصار لا إلى ريح.” قلت وضحكنا.
- ” إنني لا أصدّق عيني، أبعد كل هذه السنين نلتقي؟!” قال محمد.
- – ” تخيل ، وأين ، بين السماء والأرض. صحيح “إن الله على كل شيء قدير.” ” قلت وضحكنا ضحكاً أيقظ ذكريات حلوة.
- – ” تفضّل . . تفضّل . . ” قال محمد وهو يقودني إلى درج منزله واستأنف كلامه موجهاً إياه إلى أبي محمد ” قبل أن تحلف بالطلاق ، الضيف عندي ولو طلقت نساء القرية جميعاً ، والحقونا بالشاي إلى فوق.”
صعدنا الدرج المظلم نتحسس الجدار الخشن خشية السقوط وإذا بنا على سطح عار إلا من دورة منفردة للمياه، وغرفة يتيمة قادني إليها صديقي عبر الباب المفتوح.
” تفضّل . . تفضّل . . أقعد . .أقعد . . الغرفة ليست على ما يرام .” وضحك.
أردت أن أجلس على الكرسي الوحيد في الغرفة والذي كان أشبه ما يكون بمنضدة خشبية ممسوخة، لكنّ صديقي أصرّ على أن أجلس على السرير، فأبعدت اللحاف المتكور وفرغت لنفسي مكاناً قعدت فيه.
” أهلاً وسهلاً . . أهلاً وسهلاً . . ” بقي محمد يردد دون انقطاع، ثم خرج من الغرفة تجاه حافة السطح ونادى ” الشاي يا أولاد . . الشاي بسرعة . . “
أخذت أقلب ناظريّ في الغرفة. جدار من الطوب عار من الملاط ، ومصباح كهربائي يتدلى من السقف القريب بسلك أحمر قصير ، والنافذة سدت بغطاء من النايلون الشفّاف، أما الباب فهو عبارة عن إطار خشبي ثبتت عليه ألواح من الصفيح، وكل ما تحويه الغرفة من أثاث هو السرير والمنضدة، عفواً أقصد الكرسي، وكومة هائلة من الصحف المبعثرة في إحدى الزوايا، ومجموعة غير متجانسة من أباريق الماء البلاستيكية الملونة وقد صُفّت بحذاء الجدار إلى جانب الباب.
دخل محمد الغرفة قائلاً:
– ” أهلاً وسهلاً . . أهلاً وسهلاً . . يا لك من صديق وفي. كيف تذكرتني بعد كل هذه السنين ؟”
- ” الصديق هو الصديق، سواء في نجمة الجبل أو في نيويورك ، الصداقة عملة نادرة في هذا الزمان، ولذا يجب أن نحافظ عليها أينما كانت.”
- ” صحيح . . صحيح . . لكن أين كنت طوال هذه السنين، وما الذي حدث لك ؟ “
- – ” لا شيء مهم ” قلت، ” كالعادة، بعد التخرج حصلت على فرصة من خلال أحد معارفي للعمل في مصرف كبير في الخليج، ولأنني أحمل درجة الماجستير في المحاسبة ترقيت في عملي بسرعة وتحسنت أوضاعي الماديّة، فتزوجت ولديّ الآن ولد وبنتان، وأموري في أحسن حال ولله الحمد.”
- – ” ممتاز . . ممتاز . . رائع جداً. وما الذي ذكّرك بي بعد كل هذه السنين ؟ “
- – ” أنت دائماً في بالي ، ولكنني لا أرجع من الخليج إلا في إجازات قصيرة لا تتسع لشيء، ولم أكن أدري أين صرت بعد مرور كل هذه السنوات، حتى زيارتي لك الليلة كانت مغامرة غير مضمونة ، فلم أكن متأكداً أنني سأجدك هنا.”
- – ” ولِمَ ذلك ؟ أنا ولله الحمد لم أترك هذه القرية منذ التخرج ، مزروع هنا كأعتق زيتونة رومية فيها ، أعاند الزمن ، أو لعلّ الزمن هو الذي يعاندني.” وضحك.
- – ” وماذا يمكن لشاب مثلك حاصل على الماجستير في المحاسبة أن يفعل في هذه القرية النائية ؟! ” تساءلت باستغراب.
” يا استاذ . . يا استاذ . . ” جاء صوت نسائي ناعم من الظلمة ” الشاي . . الشاي جاهز . . ” وأطلّ وجه فتاة من الباب ينطق بالفضول والاستكشاف.
ونهض محمد من كرسيه وسرعان ما عاد بالشاي ووضع الصينية على الأرض ، وأخذ يسكب الشاي في الكأسين صانعاً فقاعات بيضاء على سطحه وهو يبتسم قائلاً :
- ” أحلى شاي على الفحم لأحلى صديق صدوق في هذا العالم.”
- ” من هذه الفتاة ؟ “
- – ” مَن ؟ “
- – ” التي أحضرت الشاي.”
- – ” إنها جميلة.”
- – ” هل هي حقاً كذلك ؟ “
ضحك واستغرق في الضحك ثم استدرك قائلاً :
- ” أسمها جميلة لا صفتها ، ويبدو أن أهلها أطلقوا عليها هذا الاسم من باب تفاءلوا بالخير تجدوه.” وعاد للضحك ، ثم انتشل نفسه ليقول ” تصوّر . . تصوّر . . ” مغالباً ضحكاته بصعوبة ” إنها تريد أن تتزوجني رغم أن عمرها لا يزيد على أربعة عشر عاماً.” وعاد للضحك.
- ” أتقصد أنك لم تتزوج بعد؟”
- – ” وهل كان من الممكن أن أعيش في هذه الصومعة لو كنت كذلك ؟ “
لا أدري كيف دفعتني كلماته إلى تأمل الغرفة من جديد ، لأجدها أكثر بؤساً وفقراً.
- ” يا صديقي باختصار ، رغم أن لا شيء يدعو للاختصار في هذا المكان أو الزمان ، أستطيع أن أجمل لك قصتي بعد التخرج بالمنظر الذي تراه في زاوية الغرفة هناك.” وأشار إلى كومة الصحف القديمة.
لاحظ حيرتي فقال:
- ” يبدو أنك لم تمرّ في هذه التجربة لذا لم تفهم ما عنيت.” قال لي ثم تابع ” هذه الصحف تنشر إعلانات التوظيف وأخبار التعيينات ، وخلال السنوات الماضية لم يحالفني الحظ بوظيفة سوى مرة واحدة استدعتني وزارة الصحة للتعيين كأمين صندوق في أحد المراكز الصحية في منطقة صحراوية نائية ، براتب لا يكفي لمصاريف الطريق ، ومنذ ذلك اليوم صرفت النظر عن الوظائف واتجهت إلى التجارة.”
- ” هذا رائع ، التجارة أوسع أبواب الرزق ، ولكن أية تجارة في قريتكم النائية هذه ؟ ” تساءلت باستغراب.
- – ” تجارة ممتازة ، تدعم الاقتصاد الوطني ، وتحقق الاكتفاء الذاتي ، والأمن الغذائي ، وفوق كل هذا توفر العملة الصعبة ، إنها تجارة مربحة جداً.”
- – ” رائع . . رائع جداً . . هذا ما كنت أبحث عنه منذ زمن بعيد. إذاً لنستغل خبرتك في هذا المجال.” قلت متحمساً.
- – ” وكيف ذلك ؟ “
- – ” أستطيع أن أجمع مني ومن زملائي مبلغاً محترماً وبخبرتك في مجال التجارة نتعاون في مشروع استثماري ممتاز ، ولكن لم تقل لي ما هي هذه التجارة التي تفعل كل ما ذكرت.”
- – ” البقر.”
- – ” وهل البقر تجارة ؟ “
- – ” طبعاً ، ألم تتساءل كيف تمكنت من الإنفاق على نفسي طوال السنوات الماضية بدون وظيفة ؟ “
- – ” من البقر ؟!! “
- – ” بالطبع ، فأنا والحمد لله لديّ بقرة حلوب أحلبها في اليوم مرتين ، صباحاً ومساءً ، وأبيع حليبها ، وأبيع المواليد أيضاً ، حتى روثها يباع ، أتصدق ذلك ؟ وفوق كل ذلك التكلفة قليلة جداً لأن المراعي لدينا طبيعية ومتوفرة على مدار العام.”
لا أدري كيف أصابتني قشعريرة مفاجئة ، فكتفت ذراعي معاً أنشد بعض الدفء ونظرت إلى النافذة التي كان الهواء البارد يحاول اقتحام النايلون المثبت عليها .
- ” يبدو أنك بردت ، رغم أننا في فصل الصيف ، دقائق وأعود.” قال وغادر الغرفة وعاد بعد دقائق يحمل صفيحة تشتعل بداخلها النار ويخرج منها دخان كثيف ووضعها أمامي قائلاً :
- ” هذه النار ستدفئك.” وأخذ يقلّب الحطب ليسرّع اشتعاله.
أخذت أسعل سعالاً متواصلاً وحاولت تجنب الدخان الخانق الذي ملأ الغرفة .
- ” لا عليك ، لحظات وسيتحول الحطب إلى جمر ويذهب كل هذا الدخان.” قال ثم تابع ” أتعرف شيئاً ؟ أنا متأكد أن وجهك خير عليّ.”
- ” وكيف ذلك ؟ ” سألته محاولاً استخلاص بعض الأوكسجين من الهواء المشحون بالسواد.
- – ” الليلة ستلد بقرتي وأنا متأكد أنها ستلد عجلين لا واحداً احتفالاً بقدومك.”
- – ” شكراً لك.” رددت بصعوبة محاولاً التنفس.
- – ” اشرب الشاي . . اشرب ، سأسخنه لك.” ووضع الإبريق على الصفيحة.
” يا أستاذ . . يا أستاذ . . ” جاء صوت الفتاة هاتفاً من الخارج ” يا أستاذ . . يا أستاذ . . مبارك . . مبارك . . يقول لك أبي أن البقرة قد ولدت عجلين . . “
قفز من مكانه وقد تملكه الفرح ” أرأيت ؟ ألم أقل لك بأن وجهك خير عليّ.”