في غابة كبيرة رائعة الجمال تكثر فيها الأشجار من كل الألوان والأنواع عاش بلبل جميل، له ريش لونه أسود برّاق، وجناحين أحمرين، وعينين مكحولتين، وصوت عذب كأروع ناي في هذه الدنيا، يجعل الحجر يهتز طرباً، والحيوانات ترقص فرحاً عندما يغني. سكن هذا البلبل الجميل على شجرة كبيرة الظلال، كثيرة الثمار والأزهار، لها أغصان كبيرة ممتدة، وأوراق خضراء لامعة، وأزهار تتفتح عند الغروب، فتفوح منها رائحة شذية، ورغم ما منحه الله تعالى من هبات كثيرة، إلا أنه لم يكن راضياً عن حياته، فهو دائماً يتجنب الاختلاط بباقي الحيوانات والطيور، وعندما كان يشعر أن أحداً منهم كان ينصت إلى غناءه الجميل كان يتوقف على الفور، ويطير إلى مكان بعيد كي لا يسمعه أحد. كم حاول الآخرون التقرب منه ومصاحبته، لكنه كان يحتقرهم ويرفض ذلك، لأنه كان يشعر أنه أجمل منهم وأفضل، وأن باقي العصافير تحسده على شجرته، وتحاول دائماً مشاركته فيها، فكان يتصدى لهم ويبعدهم عنها، لأنه لم يكن يحب أن يشاركه فيها أحد، وكم خاصم العديد منهم ودخل في خلافات كي يبعدهم عنها لأن أشكالهم وأصواتهم كانت تسبب له الكآبة كما كان يقول، ولعل أكثر ما كان يضايقه هو ذلك الصوت المزعج الذي لم يكن يتوقف ليلاً أو نهاراً ” نق نق نق ..” هكذا إلى ما لا نهاية، الأمر الذي أفسد عليه حياته وجعل أيامه ولياليه لا تطاق وأوشك أن يفقده عقله، إنه صوت ذلك الضفدع الذي يقيم في البركة التي تحت شجرته، كم كان يكره صوته ويتقزز من شكله القذر، فكّر طويلاً، ومراراً وتكراراً بأن يتخلص منه، كي يرتاح من صوته وشكله، لكن ماذا يمكن أن يفعل له، والضفدع في البركة وهو فوق الشجرة؟ لو كان الضفدع طائراً لقاتله وطارده، ولكن ما العمل مع هذا الضفدع؟
وأخيراً نادى البلبل وقد فقد صوابه، ولم يعد يحتمل أكثر:
” أنت أيها الضفدع القذر، ألا تتوقف عن هذا النقيق المزعج ؟”
كان الضفدع رغم شكله القبيح، وصوته المزعج، مخلوقاً متواضعاً يحب الخير، وذا أخلاق حميدة فرد على جاره قائلاً:
“آسف يا جاري العزيز إن كان صوتي قد ضايقك، صدقني لم أقصد أن أزعجك، فأنت جاري والله تعالى أوصنا أن نحافظ على جيراننا وألا نزعجهم، ولكنني أسبّح الله تعالى وأحمده على النعم التي أنعم بها عليّ.”
ضحك البلبل طويلاً من الغيظ ثم قال مستهزئاً: ” أية نعمة هذه؟ لا أرى فيك شيئاً يحمد. أما شكلك فإن جسمك مليء بالحبوب المقززة والسوائل اللزجة، وأما صوتك فهو السوء بعينه، وأما منزلك فيكفيك أنك تعيش في الوحل، وأما طعامك فأكل الحشرات، فهل في ذلك شيء يحمد؟!”
ابتسم الضفدع وقال بصوت هادئ محاولاً تهدئة جاره:
” أيها الجار العزيز، قد لا أكون جميلاً وحسن الصوت مثلك، وقد أكون أسكن في الوحل لا في شجرة تملأها الثمار والأزهار، ولكن هذا هو نصيبي من الدنيا، وقد رضيت بما قسم الله لي، وأنا أحمده على أن خلقني وأعطاني الحياة.”
لم يقنع هذا الرد اللطيف البلبل ولم يزده سوى غروراً وتكبراً فقال للضفدع مهدداً:
” على كل حال إذا أردت أن تواصل إزعاجك فإني أنصحك، بل أحذرك، بأنني لن أدعك تفلت من عقابي، إن لم تغادر البركة وترحل إلى الأبد.”
لم ينجح كلام البلبل القاسي بأن يخرج الضفدع عن صبره وأخلاقه الحسنة، فقال وهو ينظر إلى جاره مبتسماً:
” وكيف أترك بيتي ووطني الذي ولدت فيه ولا أعرف غيره، وهل لمخلوق على وجه هذه الدنيا قيمة دون بيته ووطنه؟”
لم يغير البلبل موقفه بل زاده أدب الضفدع تكبراً، فقال:
” هذا شأنك، وسترى ما سأفعل بك إن لم ترحل، أفهمت؟”
جاء صوت رفيع من بين الأشجار قائلاً بغضب وتحدٍ:
” هيه، أيها البلبل المغرور، دع الضفدع المسكين بحاله، ألا يكفي أنك تستأثر بشجرة كاملة لنفسك دون الآخرين وتريد أن تنازع هذا الضفدع بركته.”
التفت البلبل باحثاً عن مصدر الصوت، فرأى دوريّاً صغيراً يقف على غصن شجيرة صغيرة، ينظر إليه بغضب، فرفع البلبل رأسه بكبرياء وقال للدوريّ:
” دعك من هذا الكلام أيها الدوري القزم، فأنا أعرف لماذا تريد التدخل. أنت تكرهني لأنني لم أسمح لك بالسكن على شجرتي.”
رد عليه الدوري:
” بل لأنك شخص أناني ومغرور، ولا تريد ترك الآخرين يعيشون بسلام، تذكر أنك لن تفلت من عقاب الله تعالى.”
تدخل الضفدع بين الطائرين محاولاً إيقاف الخلاف قائلاً:
” دعك من هذا الكلام أيها الدوري العزيز، لقد سامحت البلبل على ما قال، فهو يبقى جاري، والله عزّ وجلّ قد وصى بالجار.”
نفش البلبل ريشه صاح:
” أما أنا فلم أسامحك أيها الضفدع البشع، وأنت أيها الدوري القزم، سأنتقم منك، أتسمعني، بل سأنتقم منكما قريباً.” وطار بعيداً في الجو.
غادر البلبل الشجرة وراح يفتش في أنحاء الغابة عن وسيلة ينتقم بها من الضفدع، وقال لنفسه يجب أن أجد وسيلة أتخلص بها من هذا الضفدع القذر إلى الأبد.” فكر طويلاً ثم تذكر الأفعى التي تلتهم الفئران والأرانب في جحر تحت الشجرة الكبيرة في وسط الغابة، تذكر كم كانت حيوانات الغابة تخاف منها وخصوصاً الحيوانات الصغيرة، وكم كانوا يرتعبون لذكرها، عندها أدرك أنها الحل المناسب لمشكلته مع الضفدع، لكن السؤال هو كيف يأت بالضفدع إلى هذا المكان بعيداً عن بركته، فكر طويلاً وأخيراً وجد الحل.
وقف البلبل على شجرته وأخذ يغني بصوت حسن:
أريدُ اليومَ أنْ أحيا سعيداً خاليَ البالِ
أغني أطربُ الجيرانَ أنشدُ حلوَ مَوّالي
فيا أحبابيَ اجتمعوا لقد غيّرتُ أحوالي
وصرتُ أساعدُ الجارَ بأقوالي وأفعالي
رفع الضفدع رأسه من الماء، وابتسم ابتسامة كبيرة وهو يستغرب أن يكون البلبل قد غير سلوكه بهذه السرعة، وسلّم على البلبل قائلاً:
” السلام عليك يا جاري البلبل، كم هو صوتك جميل ورائع، وكلامك عذب وحكيم.”
رفع البلبل رأسه وقد تصطنع الحزن، وقال وهو يتنهد:
” آه يا جاري العزيز لقد أخطأت بحقك سامحني، لقد أضلني الشيطان الرجيم وجعلني أغضب منك، ولكنني بعد أن فكرت بالأمر قلت لنفسي، يجب أن لا نسيء إلى الجيران، فهم مثل الأخوان.”
رد الضفدع وقد أعجبه كلام البلبل:
” نعم أيها الجار العزيز، الجار المخلص هو كالأخ لا فرق بينهما.”
صمت البلبل قليلاً ثم قال للضفدع:
” نسيت أن أخبرك يا جاري العزيز عن أمر مهم رأيته اليوم وأنا أطير في وسط الغابة.”
سأل الضفدع البلبل قائلاً:
” وما هو أيها الجار العزيز.”
تابع البلبل قوله وهو ينظر إلى الضفدع:
” بينما كنت اليوم أطير في وسط الغابة سمعت صوتاً يشبه صوتك تماماً وقلت لنفسي “ما الذي أتي بجاري الضفدع إلى هذا المكان البعيد في وسط الغابة”، فاقتربت من الصوت فرأيت ضفدعاً يشبهك تماماً، وعندما ناديته، لم يعرفني فعرفت أنه ضفدع آخر، لكنه رحب بي وقال لي أنه يبحث عن أخيه الذي فقده منذ أن كان طفلاً وهو يشبهه تماماً، عندها أخبرته عن الشبه الشديد بينكما، فبكى وقال أنك لا بد أخاه، وطلب مني أن أخبرك عن مكان وجوده، وأنه راغب برؤيتك، غير أنه متعب لأنه قطع مسافة طويلة قفزاً على الأرجل، لذا فإنه يريد أن تأت إليه ليتعرف عليك.”
شعر الضفدع بالسعادة عندما علم بأن له أخاً لم يكن يعرف عنه شيئاً من قبل، وقال للبلبل:
أرجو أن تأخذني إليه، فهذه المرة الأولى التي أعلم فيها أن لي أخاً وهو يريد رؤيتي.”
رد البلبل متظاهراً بالتعب:
” لكن أيها الجار العزيز لقد طرت اليوم في الغابة لمسافة طويلة، وأنا أشعر بالتعب، ورغم ذلك فإنه يسعدني أن أرشدك إلى مكان أخيك فقط اتبعني.”
كان الدوري يسمع كلامهما، فخرج من عشه عندما رآهما عازمين على الذهاب، وقال مخاطباً الضفدع:
” إياك أن تنخدع بكلام البلبل الجميل، فهو مكار ولا يريد الخير لك أبداً.”
ابتسم الضفدع وقال للدوري:
” لا تقلق يا صديقي المؤمن في رعاية الله دائماً.” وانطلق مع البلبل على الفور.
قطع البلبل مسافات طويلة في أرجاء الغابة قبل أن يصل بالضفدع إلى جحر الأفعى كي يتعبه بقدر الإمكان، حتى إذا وصلا إلى الجحر كان الضفدع متعباً جداً لا يستطيع الحركة فتأكله الأفعى بسهولة، وأصبح يلف ويدور وكلما سأله الضفدع عن وقت الوصول طمأنه وقال له قريباً حتى تأكد أن الضفدع قد تعب تماماً فقاده إلى جحر الأفعى تحت الشجرة الكبيرة بجانب جدول صغير.
قال البلبل مخاطباً الضفدع:
” ما عليك سوى أن تنادي أخاك وسوف يخرج من الجحر.”
استغرب الضفدع من ذلك وقال:
” وماذا يفعل أخي في الجحر، لماذا لا يبقى في الجدول؟!”
رد عليه البلبل بقوله:
” أخوك كما تعلم جديد على هذه الغابة، ولا يدري ما قد يكون مختبئاً في الماء، لذا فضل الاختباء في هذا الجحر حتى تأتي إليه.”
نادى الضفدع المسكين على أخيه فسمع صوت حركة في داخل الجحر فشعر بالسعادة وهو على وشك التقاء أخيه للمرة الأولى في حياته، وما هي إلا لحظات حتى كانت الأفعى السوداء العظيمة تطل برأسها من الجحر، فأصيب الضفدع بالرعب الشديد من منظرها وحاول القفز لكنه كان متعباً جداً من الرحلة التي أخذه البلبل فيها، وبحركة سريعة طوقته الأفعى وأوشكت أن تبتلعه، إلا أنه ناداها بصوته وهو يرتعش من الخوف:
” على مهلك أيتها الأفعى العظيمة، لدي أمنية أخيرة أرجو أن تحققيها قبل أن تبتلعيني.”
نظرت الأفعى إليه بعينيها الحمراوين وقالت بصوت يشبه صوت الجرس:
” لن تنفع ألاعيبك معي، لقد أصبحت طعاماً لي أيها الضفدع البائس.”
حرك الضفدع يديه وقال لها راجياً:
” إنها أمنية لمصلحتك أنت أيضاً، كل ما أريده هو أن أغتسل قبل أن أموت حتى ألقى ربي نظيفاً، فأنا أعيش كما تعلمين في الأوحال وجسمي قذر جداً، ولم أستحم منذ مدة طويلة، أرجوك أن تسمحي لي بأن أغتسل في ماء ذلك الجدول القريب، ثم افعلي بي ما تريدين.”
نظرت الأفعى إلى جلد الضفدع فوجدته قذراً كما قال، وفكرت قليلاً ثم قالت لنفسها “ضفدع نظيف خير من ضفدع قذر”، ثم قالت للضفدع:
” يمكنك الاستحمام في الجدول لكن بسرعة، واعلم أنك لا تستطيع الهرب مني، لأنني أستطيع اللحاق بك مهما كانت سرعتك.”
رد الضفدع وهو يتجه نحو الجدول بصعوبة بسبب الخوف والتعب:
” شكراً لك أيتها الأفعى الكريمة لن أنسى معروفك هذا أبداً.”
وقفز الضفدع في الماء واختفى. انتظرت الأفعى مدة طويلة دون أن يظهر الضفدع فعلمت أنه قد خدعها وهرب، فعادت إلى جحرها غير قادرة على فعل شيء.
انتشر خبر مكيدة البلبل للضفدع بين حيوانات الغابة وطيورها، فزادت كراهية الجميع له وأدركوا أنه طائر شرير رغم جمال شكله وصوته، فابتعد الجميع عنه وصاروا يحتقرونه ويشتمونه كلما رأوه.
كان الشيطان قد سيطر على قلب البلبل تماماً خصوصاً بعد فشل خطته بالخلاص من الضفدع، وأصبح لا يفكر في شيء غير الانتقام، وكلما فكر أكثر، أصبح أكثر حقداً وكراهية للضفدع والدوري، غير أنه لم يجد خطة جديدة تساعده على تنفيذ تهديده. بقي البلبل يطير ويطير وهو يفكر بطريقة ينتقم بها من الضفدع والدوري، ومضى وقت طويل دون أن يشعر، وأخيراً انتبه فإذا به قد وصل إلى نهاية الغابة قريبًا من الجبل، فنزل ليستريح على غصن شجرة قريبة وقد تعب من التفكير والطيران. نظر إلى السماء الزرقاء فرأى صقراً يحلّق في الفضاء تحت الغيوم في دوائر كبيرة يفتش عن فريسة يصطادها، فأصابه الرعب وأوشك أن يفقد وعيه من الخوف، فاختبئ فوراً بين الأوراق وهو يرتجف، وظل يراقب الصقر بحذر داعياً الله تعالى أن ينصرف الصقر ويتركه بسلام، ومع مرور الوقت أدرك أن مخبأه ممتاز وأن الصقر لم يره ولن يراه مهما حاول البحث، فأخذ ينظر إليه ويشاهده وقد ابتعد الخوف عن قلبه، وفجأة خطرت له فكرة فصاح ونادى بأعلى صوته:
” أيها الصقر . . أيها الصقر . . ” فجاء صوت من السماء:
” من يناديني ؟ إنني لا أرى أحداً.” قال الصقر وهو يدور في دوائر في الجو محاولاً العثور على مصدر الصوت دون فائدة.
” أنا في الأسفل أناديك.” قال البلبل من بين الأوراق.
” لا أستطيع رؤيتك، من أنت، وماذا تريد مني؟” سأل الصقر وهو يطير في دوائر كبيرة فوق الأشجار.
ابتسم البلبل في نفسه وقال بثقة:
” سأظهر وأخبرك من أنا على شرط أن تعطيني الأمان أولاً، فلقد جئتك بأخبار سعيدة.”
فكر الصقر وقد يئس من العثور على مصدر الصوت فقال:
” حسناً، اظهر ولك الأمان، لن آكلك، اظهر ولا تخف.”
ظهر البلبل من بين الأوراق فنزل الصقر وجلس قريباً منه، وقال وعيناه تلمعان كالشمس:
” ما هي هذه الأخبار السعيدة، هيّا قل فوراً ؟ ” قال الصقر.
دب الرعب في قلب البلبل عندما رأى الصقر، فهذه المرة الأولى التي يرى فيها الصقر عن قرب، وأخذ ينظر إلى منقاره المعقوف، ومخالبه الحادة، وقال بخوف:
” حاضر يا سيدي الصقر. كما تعلم فنحن عائلة الطيور عائلة واحدة مهما تنوعت أجناسنا واختلفت أشكالنا وألواننا، لذا فعلينا أن يهتم بعضنا ببعض لأننا عائلة واحدة، وأنا اعترافاً مني بعظمتك بصفتك ملك الطيور وسيدها فقد قررت أن أدلك على صيد حسن كي تبقى دائماً بأفضل حال يا ملك الأجواء.”
شعر الصقر بالسعادة وهو يسمع هذا الكلام من البلبل وفرد جناحيه القويين ونفش ريشه ثم قال:
” إنك على حق أيها البلبل الصغير، نحن عائلة واحدة مهما اختلفت أشكالنا وألواننا، ولكن أين هو هذا الصيد ؟”
فرح البلبل وهو يسمع كلام الصقر وقال لنفسه أن خطته ستنجح بكل تأكيد، ثم قال للصقر:
” ما عليك يا ملك الطيور سوى أن تتبعني وسأدلك على الصيد وتتأكد من تقديري واحترامي لك، هيا بنا.”
طار البلبل ولحق به الصقر حتى أوشكا على الوصول إلى البركة، شعر البلبل أن ثأره قد أوشك أن يتحقق وابتسم ابتسامة ماكرة وقال للصقر:
” الآن يا سيدي ستتأكد من صحة كلامي بنفسك وتعلم أنني لم أتعب نفسي بالقدوم إليكم إلا لمصلحتكم، فأنت ملك الطيور وتستحق كل تكريم. أترى يا سيدي تلك البركة في الأسفل؟ إنها مليئة بالأسماك الكبيرة اللذيذة التي تنتظر أن تأكلها وما عليك إلا أن تنزل وتصطادها.”
قال الصقر:
” حسناً سنرى.”
دار الصقر حول البركة دورات كثيرة لكنه لم ير شيئاً فقرر أن يقترب من البركة قليلاً أمضى الكثير من الوقت وهو يحوم، ثم ظهر لعينيه شيء من الماء لكنه سرعان ما عاد إلى الماء من جديد، وعند ظهوره من الماء مرة أخرى كان الصقر يغوص في الجو نحو البركة بسرعة رهيبة لا تكاد العين تدركها، عندها قال البلبل لنفسه ” الآن عندما يصل الصقر إلى البركة لن يجد شيئاً غير الضفدع فيأكله على الفور، وقد يعثر على الدوري فيأكله في طريقه أيضاً وهكذا أكون قد تخلصت من الاثنين بضربة واحدة.” وضحك.
ولكن الصقر عندما وصل إلى البركة نظر إلى الضفدع بعينيه غير مصدق لما يرى وقد كان يظنّه سمكاً، فقفز الضفدع في الماء واختفى، وهرب الدوري واختبئ في جوف شجرة قريبة. بحث الصقر عن الأسماك فلم يجد شيئاً، فدار عدة دورات حول البركة ثم طار إلى البلبل الذي كان ينتظره بفرح، فصاح به الصقر:
” أيها المخادع، لا يوجد هناك أي أسماك في هذه البركة، إنما هناك مجرد ضفدع قذر، ستنال عقابك أيها الشقي.” وهجم على البلبل الذي أخذ يسترحمه قائلاً:
” الرحمة يا سيدي، الرحمة يا ملك الطيور!”
لكن دون فائدة، وعاجله بضربة قتلته فوراً فانتشر ريشه المغطى بالدم في الجو كغيمة ملونة ثم هبط بهدوء على سطح البركة والشجرة.
ولما ابتعد الصقر راجعاً إلى عشه، ظهر الضفدع من تحت الماء وأخذ ينظر إلى ريش جاره على سطح الماء بحزن، فناداه الدوري:
” أيها الضفدع، أرأيت الذي حدث للبلبل المغرور، كم آذانا وأزعجنا، لم يكن أحد يعجبه ولا شيء يرضه، هذا جزاء المغرورين من أمثاله، إنه يستحق ما جرى له.”
” لا يا صديقي.” رد الضفدع ” علينا ألا نفرح بالمصائب عندما تحصل لغيرنا مهما كانوا سيئين، ولكن يجب أن ندعو الله أن ينجينا منها، ورغم كل ما ذكرته عن البلبل فإنه كان جارنا وكان يسعدنا أحياناً بصوته الجميل. على كل حال فإنني أحمد الله على ما أنا فيه من النعمة، فصحيح أن شكلي بشع، لكنه كان سبباً لنجاتي من الموت.”
فرح الدوري وأخذ يقفز على أغصان الأشجار وهو يقول:
” وأنا كذلك، لو لم أكن صغير الحجم واختبأت في ثقب الشجرة، لأكلني الصقر. الحمد لله على نعمه.”
وغنى الضفدع بصوته الغريب قائلاً والدوري يرقص ويردد خلفه:
حمدت الله من قلبيْ وأدعو دائماً ربيْ
بأن يرعى أخوتنا من الأحقاد والكذبِ
أنا لا اعرف الحسدَ ولا يعنيني من حقدَ
فربي خالق الكونِ ينجي كل من حمدَ
فليت الناس يقتنعوا عن الإيذاء يمتنعوا
فهذا الكون يكفينا وفيه الرزق متسعُ
إذا لم يكفك اللُه فأين الرزق تلقاهُ
دع الشيطان إياك بأن تنسى وترضاهُ
حمدت الله من قلبيْ وأدعو دائماً ربيْ
بأن يحمي أخوتنا من الأحقاد والكذبِ
وهكذا عاش الضفدع والدوري معاً جارين عزيزين وصديقين حميمين يشكران الله تعالى على كل ما أعطى.