تتصاعد الجرائمُ والانتهاكات الصهيونية بحقِّ الشَّعب الفلسطيني منذ بدايةِ هذا العام، وتحت حماية ومباركةِ الحكومة اليمنيَّة الأكثر تطرفًا، فقد قتلت القواتُ الإسرائيليَّة ما لا يقلُّ عن 35 فلسطينيًّا، من بينهم ثلاثةُ أطفال، في الضفةِ الغربيَّة المحتلة في شهر يناير وحده، وقد وُثِّق عددٌ من عملياتِ القتل بالفيديو، كما قُتل واحدٌ على الأقل دون سببٍ على الإطلاق، فقط لكونه فلسطينيًّا، وعلى غيرِ العادة، أقرَّ الجيشُ الإسرائيلي بتلك الجريمة، واعترف بأنَّ جنوده قتلوا والدًا لخمسةِ أطفال وهو (أحمد حسن كحلة) 45 عامًا، على حاجزٍ عسكريّ، رغم أنَّه لم يكن يشكلُ تهديدًا قط، وقد كان ابنه (قصي) معه في سيارتهما في طريقهما إلى العملِ في موقع بناء؛ وشهِد على والده وهو يتعرض للضَّرب المُبرح على أيدي جنود إسرائيليين قبل إطلاقِ رصاصتين في رقبته من مسافةٍ قريبة.
في مشهدٍ آخر، وقبل 25 عامًا، كان (خيري علقم) عائدًا إلى منزله عندما طعنه مستوطنٌ إسرائيليٌّ حتى الموت في أحد شوارع القدس؛ وفي الليلةِ الماضية قتَل حفيده (خيري علقم) ذو 21 ربيعًا سبعةَ مستوطنين إسرائيليين في القدسِ المحتلة، وذلك بعد يومٍ واحدٍ فقط من مقتل عشرة فلسطينيين من قِبَل قوات الاحتلالِ الإسرائيلي في جنين. هل كانت هذه مجرد مُصادفة؟ يجب أن يعرفَ الإسرائيليون الجوابَ أفضل.
اليوم، هناك الكثيرُ من الأسباب للتَّظاهرِ ضد حكومة (بنيامين نتنياهو) اليمينيةِ المتطرفة، لأسبابٍ ليس أقلها أنَّها لا تستطيع الوفاءَ بوعدها بجلْب المزيد من الأمن إلى “إسرائيل”، بل على العكسِ من ذلك، فكلَّما زاد العنفُ الذي تمارسه ضدَّ الفلسطينيين؛ يؤدِّي إلى ردود أفعالٍ أكثر عنفًا، مع المزيدِ من عمليَّات القتل من كِلا الجانبين. وعلى غِرار ذلك؛ ماتت عمليةُ السَّلام المزعومة ودُفنت، ولن يتمَّ إحياؤها في آخر مشاهدةٍ لأجندة نتنياهو وهي أخذُ كل شيءٍ وعدم إعطاء شيء.
قام نتنياهو بزيارةٍ مفاجئةٍ إلى عمَّان يوم الثلاثاء الماضي، واجتمع مع العاهلِ الأردني الملك (عبد الله الثاني)، في أول زيارةٍ خارجيةٍ له منذ عودته كرئيسٍ للوزراء، وكان يخططُ للذهاب إلى الإماراتِ العربية المتَّحدة في رحلته الأولى، لكن تمَّ إلغاء الزيارةِ بعد أن قام وزيرُ الأمن القومي اليميني المتطرف (إيتمار بن غفير) باقتحامٍ استفزازيٍّ للمسجد الأقصى.
وعمَّا تمخَّض عن اجتماعِ الأردن والكيان الصهيوني، فقد أصدر الديوانُ الملكي الأردني بيانًا جاء فيه: “أكَّد جلالةُ الملك دعمَ الأردن الثابت لحلِّ الدولتين، الذي يضمن قيامَ الدولةِ الفلسطينيَّة المستقلةِ على حدود عام 1967م، وعاصمتها القدس الشرقيَّة، وتعيش جنبًا إلى جنبٍ مع “إسرائيل” بسلامٍ وأمنٍ وحماية”، كما أوضح ضرورةَ الحفاظِ على الهدوء، وإنهاء كافة أشكالِ العنف في القدس، من جانبه تعهَّد نتنياهو بالحِفاظ على الوضع الرَّاهن في الحرمِ الشَّريف في الأقصى.
في المقابل، أصدر مكتبُ رئيس الوزراءِ في “إسرائيل” بيانًا مُقتضبًا من أربعة أسطرٍ يبدو أنَّه يشير إلى شيءٍ مختلفٍ تمامًا، حيث أفاد بأنَّ الزعيمين ناقشا القضايا الإقليميةَ لا سيَّما التعاون الاستراتيجي والأمني والاقتصادي بين “إسرائيل” والأردن؛ مما يساهم في الاستقرارِ الإقليمي، كما أشادوا بالصداقةِ والشَّراكة طويلةِ الأمد بين “إسرائيل” والمملكةِ الهاشميَّة.
ومن الواضح أنَّ البيان الأخير لم يرد ذكر المسجدِ الأقصى أو الوضع الرَّاهن، ولم يذكر أيَّ شيءٍ عن عملية السَّلام أو الفلسطينيين، ناهيك عن حلِّ الدولتين، بل مجرد الثَّناء على “الصداقة والشراكة طويلة الأمد”،
بينما يعكس البيانُ الصَّادر عن عمَّان مخاوفَ أردنيَّة بشأن فقدان الوصايةِ على الأماكن المقدَّسة في القدس، والرغبة في إنهاء الصِّراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين على أساس حلِّ الدولتين، ويبدو أنَّ الحكومةَ الإسرائيلية لا تهتم كثيرًا بمثل هذه القضايا، ومن الواضح أنها تهدف إلى إقناعِ الجميع في “إسرائيل” وفي الخارج بأنَّه ليس لديهم ما يدعو للقلقِ عندما يتعلَّق الأمر بعلاقات “إسرائيل” مع الدولِ العربية.
ومع ذلك، اقتربت وسائلُ الإعلام الإسرائيلية من الروايةِ الأردنية، حيث أفادت قناة “كان 11 العبرية” عن مخاوف أردنيةٍ وإسرائيليةٍ بشأن زيادة العنف في الضِّفة الغربيَّة خلال شهر رمضان، في أواخر شهر مارس. كما استغلَّ مركزُ الأبحاث التَّابع لجامعة (تل أبيب “إينس”) تقريرَه الاستراتيجي السَّنوي لاقتراح لجنةٍ مكونةٍ من الإسرائيليين والأردنيين والسُّلطةِ الفلسطينية؛ لاحتواء الاشتباكاتِ المتوقَّعة في الشهر الكريم، والذي يتزامنُ مع عيد الفِصح اليهودي، حيث قام المستوطنون الإسرائيليون بجعل خلال اقتحام المسجدِ الأقصى في رمضان عادةً في السنواتِ الأخيرة.
وسلَّطت وسائلُ الإعلام الضوءَ على دور صاحب السُّمو الشيخ (محمد بن زايد آل نهيان) في ترتيب لقاءِ الملك عبد الله ونتنياهو، وكان الهدف هو سدُّ الفجوةِ بينهما قبل زيارةِ وزير الخارجيَّة الأمريكي (أنتوني بلينكين) إلى الشَّرق الأوسط، كما رأينا مع المسؤولين الأمريكيين الآخرين الذين زاروا “إسرائيل” مؤخرًا، لا يبدو أن بلينكين سعيدٌ جدًا بالحكومةِ الإسرائيليَّة الحالية وخُططها.
فيما أعربَ الأوروبيون عن استيائهم، وزار وفدٌ مكونٌ من 35 دبلوماسيًّا أوروبيًّا المسجدَ الأقصى، في الأول من يناير/كانون الثاني، بعد أن احتجزت شرطةُ الاحتلال الإسرائيلي السفيرَ الأردني لدى “إسرائيل” (غسان المجالي) عند مدخلِ الحرم، يُفهم تحرك الدبلوماسيين على أنه مؤشرٌ على دعم الوصايةِ الأردنيَّة على الأماكن المقدسةِ في القدس المحتلَّة.
في اليوم التَّالي لزيارةِ نتنياهو لعمَّان، تعهَّد بن غفير بمواصلةِ اقتحام المسجد الأقصى، وقال لإحدى وسائل الإعلامِ المحلية إنَّه لا يعلم بما تمَّ بحثه في اجتماعِ عمان، وأنَّه يدير سياستَه الخاصَّة “وليس سياسة الحكومةِ الأردنيَّة.”
في حين، حذر رئيسُ الوزراء الأسبق (يائير لابيد) قبل مغادرته منصبه الجمهورَ الإسرائيلي قائلًا: “احذروا من حكومةٍ خطيرةٍ ومتطرفةٍ وغير مسؤولةٍ، يقودها رئيسُ وزراء ضعيف فقد السيطرةَ عليها حتَّى قبل أن يؤديَ اليمين.”
إذن، من الذي يضعُ بالفعل جدولَ أعمال الحكومةِ الإسرائيلية: نتنياهو أم بن غفير؟، وإذا كان بن غفير قادرًا على تحويل السياسةِ الخارجيَّة لـ”إسرائيل”، والتَّأثير على الدعمِ الخارجي الأساسي، وإعادة العلاقاتِ مع السُّلطة الفلسطينية، وتحدي الوضع الرَّاهن في المسجدِ الأقصى، وتحديد الأولوياتِ الأمنيَّة الإسرائيليَّة، فما القوة المتبقيَّة لنتنياهو لمُمارستها؟