أثبتت الجولة الأخيرة من القتال في قطاع غزة المحاصر — حين حاول الجيش الإسرائيلي تنفيذ عملية عسكرية سرية رغم أن المصريين كانوا في المراحل النهائية من التوسط لوقف إطلاق النار بين الفصائل الفلسطينية المسلحة والحكومة الإسرائيلية — أن الفلسطينيين قادرون على إلحاق ضرر غير مسبوق بإسرائيل. فقد قدّمت وسائل الإعلام الإسرائيلية إحصاءات وصفت بأنها غير مسبوقة ومثيرة للقلق من وجهة نظر إسرائيلية.
فبينما قتل الجيش الإسرائيلي سبعة فلسطينيين وهاجم أكثر من 160 هدفًا — وهو نمط متكرر — فإن الجديد هذه المرة كان رد الفعل الفلسطيني: إطلاق 460 صاروخًا من غزة خلال 25 ساعة فقط، ما تسبب في أضرار كبيرة داخل إسرائيل، وأدى إلى مقتل شخصين على الأقل وإصابة عدد غير معلوم. وذكرت وسائل الإعلام أن نظام “القبة الحديدية” اعترض حوالي 100 صاروخ فقط، بينما وصلت البقية إلى أهدافها، وكانت أكثر دقة وتدميرًا من أي وقت مضى.
رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قطع زيارته لفرنسا وأوقف العمليات العسكرية بشكل شبه فوري، فيما استقال وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان — مهندس العملية السرية الفاشلة — واتهم نتنياهو وحكومته بالجبن.
رغم أن وصف أي شخص أو مجموعة بالجبن هو أمر ذاتي وغير دقيق، إلا أن اتهام ليبرمان له دلالات عميقة، إذ يكشف عن عقلية الجماعة الصهيونية الحاكمة. وأظهرت استطلاعات الرأي أن غالبية اليهود في إسرائيل عارضوا وقف إطلاق النار، واعتبروا أنه كان يجب على الجيش قصف غزة أكثر.
لا شك في أن إسرائيل مارست على الدوام أقصى درجات الوحشية ضد الفلسطينيين. فالجيش الإسرائيلي مسلح بأحدث الأسلحة ويستخدمها ضد مدنيين عُزّل في قطاع غزة، ما يؤدي إلى قتل آلاف النساء والرجال والأطفال، وتدمير البنية التحتية من مدارس ومستشفيات ومحطات مياه وكهرباء وأماكن عبادة ومنازل.
إسرائيل مجتمع استثنائي، أُقيم على أرض مغتصبة بقرار من الأمم المتحدة، ويتبع أيديولوجيا تشكلت كرد فعل على اضطهاد اليهود في أوروبا وروسيا. ومع وجود مهاجرين يهود فرّوا من معاداة السامية، كيف يُتوقع منهم أن يضحوا بأنفسهم في بلد لا يعتبرونه وطنًا أصيلًا؟
الحل كان في خلق بيئة تجعل من الجندي الإسرائيلي مميزًا: مدربًا جيدًا، ومسلحًا، وبطلاً قوميًا محصنًا من المحاسبة القانونية، كما هو حال الدولة نفسها. تسعى إسرائيل، بدعم أمريكي بالدرجة الأولى، إلى الحفاظ على تفوقها العسكري في المنطقة، ما يجعل جنودها يقتلون ويدمرون بأمان تقريبًا، وهذا أوجد حالة من الغطرسة لدى الإسرائيليين.
وعندما يُقتل جندي أو مدني إسرائيلي، تكون الصدمة مزدوجة: أولًا لخسارة الحياة، وثانيًا لأنها تفضح هشاشة صورة “القوة التي لا تُقهر”. وسرعان ما تبدأ لعبة تبادل اللوم: السلطات تلوم “الإرهابيين”، والشعب يلوم الحكومة، والجيش يجري “تحقيقًا معمقًا” ينتهي دائمًا بتبرئة نفسه والتوعد بـ”دفع الثمن” لإعادة الردع.
مؤخرًا، تعرض الجيش الإسرائيلي لسلسلة من النكسات العسكرية، خصوصًا في مواجهاته مع الفصائل الفلسطينية، التي أثبتت فعاليتها رغم قلة العتاد مقارنة بالجيوش العربية. فالجندي الفلسطيني، على عكس العربي، يحارب بدافع ذاتي، وليس بتكليف من نظام استبدادي كما هو الحال في معظم الدول العربية التي وقّعت اتفاقيات سلام، أو تورطت في حروب أهلية، أو تسعى للتطبيع مع إسرائيل، خصوصًا في الخليج.
وهكذا، وبعد أن كانت إسرائيل تتخوف من فناء محتمل على يد الجيوش العربية، أصبحت اليوم في موقع قيادة لمواجهة محتملة مع إيران، خصمها الرئيسي حاليًا، بينما تمثل المقاومة الفلسطينية تهديدًا أصغر لكن أكثر كلفة. الرأي العام العربي ربما يؤيد مواجهة مع إيران، لكنه لن يغفر حربًا ضد الفلسطينيين.
هناك تقارير تشير إلى توقف طائرة نتنياهو في باكستان في طريقها إلى عُمان مؤخرًا، تلاها خطاب في البرلمان الباكستاني من عضو في الحزب الحاكم وُصف بأنه “مؤيد لليهود”. وبسبب الأزمة الاقتصادية التي تعانيها باكستان، قد تفكر حكومة عمران خان في مراجعة موقفها من إسرائيل. كما أن نائب الرئيس الإندونيسي يوسف كالا التقى نتنياهو على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وأصر على أن اللقاء لم يكن مخططًا له. من الواضح أنه لم يتصرف بمفرده.
وبدعم من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي بات بأمسّ الحاجة إلى دعم إسرائيل في أعقاب مقتل جمال خاشقجي، قد نشهد أكبر الدول الإسلامية تقرع أبواب نتنياهو قريبًا. غير أن أي عدوان عسكري جديد على غزة قد ينسف كل هذه المكاسب.
مع ذلك، وقف إطلاق النار في غزة قد لا يصمد طويلًا. فمعظم السياسيين الإسرائيليين يبنون شعبيتهم على تقديم أنفسهم كـ”رجال حديد” قادرين على منع محرقة جديدة. ولمنافسة خصومه مثل ليبرمان ووزير التعليم نفتالي بينيت، قد يجد نتنياهو نفسه مضطرًا للغوص مجددًا في دماء الفلسطينيين.
استقالة ليبرمان كشفت هشاشة إسرائيل. فبرغم ما يُسمى “الانتصارات الدبلوماسية” التي حققها نتنياهو، إلا أن مواجهة عسكرية واحدة مع قطاع غزة المحاصر كانت كفيلة بتوجيه ضربة قاتلة لحكومته، وقد تسقطها.
الاستنتاج البسيط من كل ما سبق هو أن إسرائيل لا تبقى لأنها قوية، بل لأنها بارعة في إضعاف أعدائها… مهما كانت التكلفة. المصدر: Middle East Monitor