في 22 ديسمبر، قام محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، بحل المجلس التشريعي الفلسطيني، رغم أن القانون لا يمنحه هذه الصلاحية. وللالتفاف على هذا العائق، شكّل عباس “المحكمة الدستورية” من تلقاء نفسه، من دون موافقة المجلس التشريعي، ومنحها سلطة حل المجلس، متجاهلًا تمامًا مبادئ الديمقراطية والوحدة الوطنية.
اتخذ عباس هذه الخطوة المثيرة للجدل في وقت وصلت فيه شعبيته إلى أدنى مستوياتها. ففي استطلاع رأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية (PCPSR) في ديسمبر، طالب 64٪ من المشاركين باستقالة عباس. كما أظهر الاستطلاع أنه في حال أُجريت انتخابات، فإن غالبية الفلسطينيين سيصوتون لصالح رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية.
السبب الرئيسي وراء تدهور شعبية عباس هو فشله في إدارة الشأنين السياسي والاقتصادي. فالشعب الفلسطيني يحمّله مسؤولية تضليل النضال الفلسطيني نحو طريق مسدود – اتفاقيات أوسلو. وبعد ثلاثة عقود من الوعود، لم يقدّم عباس، مهندس أوسلو كما يُلقب، شيئًا سوى الاستبداد والفساد والتفكك الوطني والتنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ومن سبقه من قادة الاحتلال، نجحوا في القضاء على كل الآمال التي روّج لها عباس. فلا تحرر من الاحتلال، ولا دولة مستقلة، ولا قدس، ولا عودة للاجئين، ولا حياة كريمة. بل على العكس، ازداد الاستيطان غير الشرعي، ومصادرة الأراضي، والقتل، والاعتقالات، وهدم المنازل، وتدنيس المقدسات. ولم يكتفِ عباس بفشله مع الاحتلال، بل تحالف مع جميع الأنظمة غير الديمقراطية في المنطقة، وأدان الثورات العربية واعتبرها مؤامرات خارجية.
على الصعيد الداخلي الفلسطيني، لا وجود للديمقراطية. فقد ركّز عباس السلطة في يده – فهو رئيس السلطة الفلسطينية، ورئيس منظمة التحرير، ورئيس حركة فتح، إضافة إلى مناصب أخرى. لا يزال في الحكم بعد 14 عامًا، ولم يسمح بعقد جلسات المجلس التشريعي طوال 11 عامًا. لا يوجد تداول للسلطة، ولا صناعة لقيادات شابة، ولا قرارات جماعية، ولا تسامح مع النقد أو حرية التعبير. وقد وثّقت منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية تجاوزات الأجهزة الأمنية التابعة له، حيث تعرّض كثير من الفلسطينيين للتعذيب حتى الموت في سجونه.
لقد نجح عباس فعليًا في تفكيك المجتمع الفلسطيني جغرافيًا وسياسيًا واجتماعيًا. فمنذ رفضه لنتائج انتخابات 2006 – التي فازت فيها معارضته بالمجلس التشريعي – عمل بشكل ممنهج على تقويض عمل الحكومة الفلسطينية العاشرة، ما أدى في النهاية إلى انقسام فلسطين إلى كيانين؛ أحدهما خاضع لحكمه، والآخر تحت إدارة حماس.
سياسيًا، لم يجرِ عباس أي انتخابات ويبدو راضيًا بالبقاء في منصبه إلى أجل غير مسمى. حتى حركته فتح لم تسلم من الانقسام، حيث تسيطر عليها اليوم جناحان؛ أحدهما تابع له، والآخر يتبع لعدوه اللدود محمد دحلان، الرئيس السابق لجهاز الأمن الوقائي في غزة. لم يحترم عباس الوحدة الوطنية، ولم يشاور الفصائل الأخرى إلا عندما احتاج لتغطية قراراته غير الشعبية بشرعية شكلية.
اجتماعيًا، ساهمت حالة الفساد المستشري في خلق طبقة من المسؤولين وأقاربهم ممن يرون أنفسهم أعلى من عامة الفلسطينيين، ويتمتعون بكافة الامتيازات: الوظائف، والمشاريع الإسكانية، والصفقات الحكومية، والحماية الأمنية الخاصة، والحصانة من المحاسبة. التهمت هذه الطبقة الجديدة المليارات، بينما بقي الفلسطيني العادي يعاني من الفقر وسوء البنية التحتية.
بدلًا من تحمّل المسؤولية السياسية والاقتصادية – عبر تقديم استقالته كما يفعل القادة المحترمون – انشغل عباس بإطلاق سيل من الشتائم ضد الجميع، بما فيهم حلفاؤه من الأمريكيين والإسرائيليين. لكن هذه الإهانات لم تُحرج أولئك، بل أحرجت الفلسطينيين أنفسهم الذين شعروا بالإهانة من خطاب رئيسهم السوقي. لقد كان ذلك فشلًا مزدوجًا: فشلًا في الأداء، وفشلًا في الخطاب.
يتساءل الكثيرون: من أين يستمد عباس شرعيته؟ من الواضح أنها لا تأتي من الشعب الفلسطيني، بل كما قال خالد شقير مدير PCPSR، تأتي من المجتمع الدولي الذي ملّ من فشله لكنه لا يرى بديلًا له. في الوقت ذاته، تفرح إسرائيل بتنسيقه الأمني وقدرته على تفتيت الوحدة الفلسطينية، مما يمنحها غطاءً للاستمرار في تدمير حل الدولتين.
من كان يتخيل أن هذا الرجل، الذي كان مجرد عضو ثانوي في قيادة منظمة التحرير، سيحكم الشعب الفلسطيني لفترة أطول من الزعيم الراحل ياسر عرفات، الذي اعتبره كثيرون “أب القضية الفلسطينية”؟ فقد حكم عرفات السلطة لعشر سنوات تقريبًا، بينما يتفاخر عباس بـ14 عامًا في المنصب.
صحيح أن عرفات تحدث كثيرًا عن الديمقراطية ولم يمارسها فعليًا، لكنه كان يمتلك ما يسميه الفلسطينيون “تاريخ نضالي”: خاض معركة الكرامة عام 1968، وقف في وجه الاحتلال الإسرائيلي في لبنان وفي الضفة الغربية، واغتاله الاحتلال حسب ما يعتقده معظم الفلسطينيين – ما زاد من شرعيته ومكانته. أما عباس، فرغم أنه يقود حركة فتح – وهي حركة مقاومة مسلحة – إلا أنه لم يحمل سلاحًا في حياته.
وفي ظل فشله السياسي والاقتصادي، وعزلته الداخلية والخارجية، وتقدمه في السن، وتدهور صحته، سيبقى عباس عرضة لاتخاذ المزيد من القرارات الانتحارية. للأسف، فإن عواقبها لن تقتصر على فترة حكمه فقط. المصدر: Middle East Monitor